صحيفة المثقف

الأثر العمراني على السلوك الأجتماعي (3): (الحسينيات) ترف ديني وضرورة أجتماعية

alaa falihaburgeefالمهمة الاساسية لرجال الدين هي تسهيل تعاليم هذا الدين وتبسيط مفرداته لعامة الناس من غير المتخصصين بالشأن الديني لكنهم  بذات الوقت مؤمنون حريصون على عدم مخالفة أوامر الله، وهذا الفهم يقتضي تقنين المفاهيم والممارسات الدينية الى أدنى درجة ممكنة يستطيع فيها الفرد الاحتفاظ بعلاقة متوازنة بين أيمانه الغيبي وضرورات الحياة الواقعية، وهذا مالم نلمسه في الجهد (العلمي) بمختلف فروع العلوم الشرعية سواء كانت فقهية أو عقائدية أو تاريخية، فرجال الدين حولوا التعاليم المبسطة والسهلة والواضحة للدين الاسلامي الى درجة من التعقيد أصبحت عصية على الفهم حتى لدارسيها، ولم يقتصر التوسع المبالغ فيه على الدراسة والبحث بل تعدى الى أبتكار ممارسات أضافية لم تكن موجودة في العصور الاولى للاسلام حتى وصل الامر الى تغيير شكل البنى التحتية الخاصة بتلك الممارسات، وهو ماينطبق على أنشاء (الحسينيات) التي ينفرد بها الشيعة، ورغم وجود مايماثلها لدى الصوفية (التكايا) لكنها لم تتصل الى قدسية الحسينية التي حلت محل الجامع حتى بدأت أعداد الجوامع ( اماكن العبادة الرسمية في الاسلام) تتناقص بشكل ملحوظ في المناطق الشيعية وربما تندثر خلال عدة عقود لصالح مقرات غير رسمية يمارس فيها خليط من العبادات الملزمة والشعائر والطقوس (المستحبة) حسب المفهوم الشيعي، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن مغزى هذا التحول من الشكل الرسمي للمكان المخصص للعبادة والذي يتفق عليه جميع المسلمين الى شكل اَخر من ابتكارات  رجال الدين الشيعة وهل لهذا التغيير مبررات دينية، أم هي خضوع  لأشتراطات دنيوية فرضت هذا التحول ليصبح ضرورة أجتماعية تصب في صالح هدف رئيسي هو خلق هوية دينية جديدة مختلفة عن باقي المسلمين؟

وهنا لابد من العودة الى العصر الصفوي لفهم الدلالات الاجتماعية العامة (ومن بينها الدلالات السياسية)، فالمنضومة الفقهية والتقاليد الدينية التي تتحكم بالسلوك الديني (وبالضرورة الاجتماعي) للشيعة في القرن الواحد والعشرين  تعود بجذورها التاريخية الى العصر الصفوي الثاني (التحول من المذهب السني الى المذهب الشيعي)  وهي الحقبة التي ضهر فيه التشيع كنوع من الادوات السياسية للدولة الصفوية بقيادة الشاه اسماعيل الصفوي  تم من خلاله خلق تمايز ديني وثقافي واجتماعي شامل عن باقي المسلمين الذين تمثلهم الدولة العثمانية في اطار الصراع المرير حول النفوذ، وأن لم يكن مقدراً للصفويون النجاح في خلق دين جديد يبتعد تماماً عن الاسلام، لكنهم نجحو في فرض نوع خطير من التمايز المذهبي بين الشيعة والسنة يتسع يوماً بعد اَخر، حققوا من خلاله اهداف اَنية تخدم اهداف الصراع مع الدولة العثمانية لكن اَ ثاره بعيدة امدى كانت اكثر خطورة من حيث الاتساع والتطرف في السلوك المخالف لباقي المذاهب وما نتج عنه من توترات طائفية مازالت تتفاقم حتى الاَن.

يطرح فقهاء الشيعة هذا التعريف للحسينية:

الحسينية (نقلاً عن مركز الابحاث العقائدية) هي قاعة أو مدرسة أو مؤسسة أنشأت لتقام فيها مجالس العزاء الخاصة بالامام الحسين (عليه السلام).... وأول من أقام تلك المدرسة وأسس لهذه الحسينيات هو الامام زين العابدين (عليه السلام) حيث أرتقى المنبر أمام يزيد وحزبه وفضح أمرهم...

أن هذه الفقرة التي تحاول تعريف وتبرير وجود الحسينيات تحوي الكثير من المغالطات،وهو يؤكد المنهج الصفوي في الربط القسري بين أي تصرف عفوي للأئمة وبين مخترعات واساطير لاتمت لهم بصلة، وابتدائاً من التعريف فأذا كانت الحسينية عبارة عن قاعة او مدرسة او مؤسسة فما هو مبرر احاطتها بهذه القدسية المشابهة لقدسية الجامع ؟ ثم أن هذه الشعائر يمكن أقامتها في أي قاعة للمناسبات بلا تخصيص يمكن ان يفسر على انه كيان موازي للجامع، ولا أعرف هل من مهام المدارس تعليم اللطم أم شرح العلوم الدينية، ومن الجيد أن تكون لكل مؤسسة قاعة لممارسة نشاطاتها ومنها الشعائر الحسينية فلماذا لم يتم دمج القاعات في هذه المؤسسات لابعاد الشبهة عن عدم التزام الشيعة بالجامع كمكان رئيسي للعبادة، أما هذا الربط المهين لذكاء القارئ بين حادثة خطبة الامام زين العابدين (عليه السلام) في الجامع الاموي التي اقتضتها ضروف المحاججة بين مواطن ثائر وحاكم مستبد تمثيلا لقول النبي (ص) أعظم الجهاد قول كامة حق عند سلطان  جائر، أقول أن هذا الربط الساذج لايستحق التوقف عنده كثيراً ويكفي القول أن الامام أستخدم المنبر في الجامع للتعبير عن وجهة نضره ولم يقم لا هو ولا أي من الائمة ببناء الحسينيات.

يناقض الباحث أبراهيم الحيدري في كتابه (تراجيديا كربلاء) رأي مركز الابحاث العقائدية حيث  يقول : ...وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأ شيعة العراق ببناء الحسينيات كمؤسسات دينية ثقافية مثل التكايا لاقامة الشعائر الحسينية والطقوس الدينية ةبخاصة العزاء الحسيني ولذالك أتخذت أتخذت أسم الحسين (عليه السلام) شعاراً لها وسميت الحسينيات، وكان أولى الحسينيات التي شيدت هي (الحسينية الحيدرية) في الكاضمية عام 1297هج \1876م .( ص 68، نقلاً عن مركز الابحاث العقائدية).

أن حقيقة أنشاء الحسينيات في هذا العهد القريب يؤكد حقيقتين مهمتين الاولى هي ضعف الحجة الدينية على أقامتها حيث تصنف ضمن البدع المستحدثة لعدم وجود دليل على اقرارها من قبل النبي أو اَل بيته اللذين يدعي علماء الشيعة التمسك بمنهجهم، والثانية وهي الاهم هي أن نشوئها مرتبط بالضروف السياسية بأيران، فأيران المنهكة من الحروب الخارجية المتعددة وخاصة مع روسيا،وأضطرار الشاه ناصر الدين الى تقديم الكثير من التنازلات (بما فيها الجغرافية) لبريطانيا وروسيا، والاحوال الاقتصادية الصعبة التي انتهت بمأساة المجاعة الكبرى (الالفا فارسي) عام 1870، أن من شأن هذه التدعايات أن تهدد توازن القوى بينها وبين الدولة العثمانية لذالك كان من مصلحتها خلق جو من الاضطراب داخل الولايات العثمانية لأشغالها عن التفكير في أستغلال الضروف السيئة للأمبراطورية الفارسية والتوسع على حسابها، وهنا يبرز أحتمالين الاول هو أن بناء هذه الحسينيات كان نوع من التأييد والدعم لأيران بمبادرة من شيعة العراق وتذكير العثمانيين بالعمق المذهبي لايران في الولايات العربية لدولتهم، فهو نوع من التعاطف الذي يتفنن علماء الشيعة في العراق لأيران، وأما الاحتمال الثاني فهو أن هذه الفكرة تمت بأيحاء من الطبقة السياسية الفارسية لاستلاهام ثورة الحسين (ع) لرفع معنويات الشيعة داخل ايران وخارجها، كما سبقه في ذالك الشاه اسماعيل الصفوي قبل 370 عاماً.

لم يستطع العقل الديني الشيعي أقناعنا بالاهمية الدينية للحسينيات أو المصدر الشرعي لقدسيتها وهو يعترف انها مجرد قاعة أو مدرسة أو مؤسسة، وبذالك تنتفي الضرورة الدينية لها وتثبت الضرورة الاجتماعية لهذه المباني التي أخذت تحل محل الجوامع على المستويين العمراني والروحي.

 

علاء فالح أبو رغيف  

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم