صحيفة المثقف

آليّاتُ انتخاب "المرجع الأعلى" في القرن العشرين

أشرتُ فيما مضى إلى وجودِ آليّاتٍ وسُننٍ حوزويّةٍ و[غيرها] تُسهمُ في تثبيتِ المرجعيّةِ "العليا" في الطائفةِ الشيعيّةِ، وبعد أن وضعتُ القارئَ الكريمِ في السياقِ العامِّ لقوميّةِ المرجعيّات "العليا" وشخوصِهم وتاريخِ ولاداتهم ووفياتهم في القرنين الماضيين، أجدُ من الّلازمِ أن أذكرَ شيئاً من هذه الآليّات بنحو الإجمالِ، وأعدُ المتابعينَ بتفصيلِ الحديث فيها لاحقاً.

الآليّةُ الأولى: أن يقومَ مرجعُ التقليدِ بإرجاعِ مقلّدِيه في المسائلِ الفقهيّةِ التي توقّفَ في إبداءِ رأيه الصريحِ فيها لأيّ سببٍ كان، إلى: فقيهٍ يرى فيه صلاحيّةَ المرجعيّةِ من بعدهِ، فهذا يعني إنّه يرى: إن المرجعيّةَ من بعدهِ إلى هذا الفقيهِ حصراً. وهذا الإرجاعُ إمّا أن يكونَ متّكأً على قناعةٍ تولّدتْ في خلدِ هذا المرجع فقط من غيرِ أن يشاركَه المجتمعُ الحوزويُّ فيها، وقد يشتركُ معه آخرونَ فيها، وربّما تَنشأ من أسبابٍ أخرى من هنا أو هناك..، وبهذه الطريقةِ عيّنَ المرجعُ الشيعيّ "العامّ" الميرزا محمد تقي الحائري الشيرازي المتوفّى سنة: (1919م) الفقهاءَ الذين يرى فيهم صلاحيّةَ المرجعيّةِ من بعده، مع وجودِ كبارِ الفقهاءِ الذين لا يَشكّ أحدٌ في تقدّمِهم على من أرجع إليهم الشيرازيُّ في (المعرفةِ الفقهيّةِ)، كالميرزا النائيني والمحقّق العراقي والأصفهاني، وبالطريقة نفسِها نقلَ المرجعُ الشيعيّ "العامّ" السيّد أبو الحسن الأصفهاني المتوفّى سنة: (1946م) مقلّدِيه إلى السيّدِ حسين البروجردي أيضاً، مع وجودِ مراجعِ وفقهاءَ آخرين أيضاً، كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ محمد كاظم الشيرازي، والسيّد محسن الحكيم، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد محمود الشاهرودي، ومع وجودِ المغمورِ السيّد حسن البجنوردي الذي كانَ ضمنَ جهازِه المرجعيّ أيضاً، وسأشيرُ إلى تفاصيلِ هذه الآليّة لاحقاً.

ونظراً لحسّاسيّةِ هذا الموضوع نلاحظُ: إن (عمومَ) المراجعِ المعاصرينَ لا يحدّدون لمقلّدِيهم فقيهاً بشخصِه ورسمِه لكي يرجعَ إليه مقلّدِيهم في الاحتياطاتِ، بل يكتفون في العادةِ بذكر الضابطةِ العامّةِ فقط؛ وذلك لأنّهم إمّا: لم يصلوا إلى قناعةٍ تامّةٍ بأعلميّةَ أحدٍ من الفقهاءِ بعدهم أصلاً، وإمّا: لأنّهم وأنْ وصلوا إلى قناعةٍ تامّةٍ بأعلميّةَ أحدٍ، إلا أنّهم لا يرون توفّرَ شروطِ المرجعيّةِ الأخرى فيه، وإمّا: لأنّ تحديدَ المرجعِ الّلاحقِ ليس تكليفاً شرعيّاً مُلزماً لا لهم ولا لمقلّديهم أيضاً [كما هو الصحيح]؛ لذا يحجمونَ عن ذكرِ اسمهِ مخافةَ الوقوعِ في محاذير أخرى؛ لأنّ المرجعيّةَ العامّة في هذه الأيامِ لا تتوقّف على الخبرةِ في استنباطِ الأحكامِ الشرعيّةِ فقط، كما هو الخطأُ الشائعِ بينَ عوامّ طلّابِ الحوزةِ العلميّةِ وعموم الناس أيضاً، وإنّما تحتاجُ إلى مهاراتٍ ولياقاتٍ وكفاءاتٍ وقابليّاتٍ أخرى قد تقدّم على الفقاهةِ، والواقعُ الخارجيّ شاهدٌ ودليل، وربّما يعودُ الأمرُ إلى أسبابٍٍ أخرى.

الآليّة الثانية: أن يقومَ الفقهاءُ والملوكُ والقادةُ بإرسالِ برقيّةِ تعزيةٍ إلى فقيهٍ محدّدٍ حين وفاةِ المرجعِ العامِّ، وهذا الأمرُ يعني اعترافاً وإذعاناً منهمُ بصلاحيّته الحوزويّةِ أو الاجتماعيّةِ أو السياسيّةِ لتسنّمِ هذا المقام، وعن طريقِ هذا الأمر حسمُ الأمرُ لصالحِ تثبيتِ أحدى المرجعيّات في القرنِ الماضي، وسأشيرُ إلى تفاصيلِ هذه الآليّة وبعضِ أمثلتِها لاحقاً.

الآليّة الثالثة: أن يقومَ مجموعةُ من الفقهاءِ والوكلاءِ ذوي المكانةِ الاجتماعيّةِ والعشائريّةِ بإرجاعِ الناسِّ إلى من يرونَ فيه صلاحيّةَ المرجعيّة، وهذه المحطّةُ من أخطرِ المحطّاتِ التي حصلتْ فيها اختلافاتٌ كثيرةٌ طيلةَ سنواتِ القرنِ العشرين، وسأفصّلُ الحديثَ في هذه الآليّةِ لاحقاً. (يُتبع).

 

ميثاق العسر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم