صحيفة المثقف

العلكة

alaa falihaburgeefتنظر الأم بأسى الى ولدها البالغ من العمر سبع سنوات وهو يصرخ من الجوع بينما هي مستلقية على الفراش غير قادرة على الحراك بعدما استبد بها المرض ليحول وجهها الدائري الممتلئ بالحياة الى ما يشبه ليمونة تم قطفها منذ زمن بعيد.

دخل الأب وقد صدمه صراخ طفله وحال زوجته المزري، لم يستطع الكلام تحت وطأة قشعريرة ضمير خفيفة فبالرغم من أن المرض بدأ يداهمها منذ شهرين كان الرفض جوابه على توسلاتها بالذهاب الى المركز الصحي حتى لايضطر الى القبول بمعاينتها من قبل دكتور(ذكر) لعدم وجود كادر نسائي في المركز، كما أن ضيق ذات اليد وشعوره أن زوجته تبالغ في التعبير عن أوجاعها منعه من أخذها الى مستشفى المدينة.

خرج بسرعة لجلب مايسكت جوع ولده من دكان قرب المنزل، يضغط على ذاكرته وجه زوجته المستسلمة لحساسيته تجاه شرفها الذي يفديه بالصحة وكل ملذات الحياة، أخرس جوع صغيره برقائق الجبس وهو يساعد زوجته بارتداء عباءتها، فقد قرر أخيراً أن يأخذها الى المركز الصحي، تتثاقل انفاسها مع كل خطوة تبعدها من البيت وتقربها من المركز الصحي اضطر معها لاستأجار سيارة تكسي رغم قرب المسافة .

اخبره الطبيب ان حالتها تدعو للقلق لكنه لن يستطيع تشخيصها الا بمزيد من التحاليل المختبرية وصور الاشعة السينية، ولعدم توفرها فأن عليه أجرائها على حسابه الخاص، غادر غرفة الطبيب وهو يتمتم (كنت اعرف ان لافائدة من هذا المشوار، ولن نجني سوى أثم نظرات الاطباء الى اعراضنا)

زادت حالتها سوءاً مع مضي الايام وهو يصر على معالجتها بمنقوع الاعشاب تارة وباَيات الشفاء أو الادعية تارة أخرى، ولانشغاله بعلاج زوجته فقد أفتقده اصدقائه الذي انبرى احدهم ناصحاً له بالذهاب الى السيد (أبو الخرز) ذلك الرجل المبروك المتحصل على الكثير من علوم الاولين، راوياً له الكثير مما يتناقله الناس عن حالات عالج فيها مرضى وقف الطب عاجزاً حيالها، وعن طرق ابطال السحر واخراج خرز الشعوذة من اجساد المسحورين، اقتنع ان زوجته مسحورة خاصة مع انتفاخ بطنها الذي لايتناسب مع هزال جسدها، تسلل الفرح بصعوبة الى روحها الخائفة من نهاية وشيكة بعد ان اخبرها انهم سيذهبون الى السيد (ابو الخرز)، فهي قد سمعت قصص معجزاته، فما يعجز عنه العلم لايصعب على اصحاب الكرامات .

تطلبت عملية الحجز أسبوعاً من الانتظار تم أختصارها الى يومين بعد دفع رسوم اضافية ورشوة صغيرة لأحد مساعدي السيد، دخل الرجل وزوجته ومعهما ولدهما الصغير الى غرفة السيد التي تشبه المحراب تزين جدرانها اَيات من القراَن الكريم وصور اهل بيت النبي وطلاسم كثيرة مع رؤوس حيوانات محنطة وقرون أيل كبيرة يجلس تحتها بلحيته الرمادية بسبب اختلاط الشعر الاسود بالابيض والاضاءة الخافتة التي تعطي للمكان سحراً وغموضاً يبهر الزائرين، كان أفراد العائلة الصغيرة يتوقعون ان يشاهدوا بين يديه كرة زجاجية كما في الافلام لكنهم فوجئوا بوجود قدر فارغ على طباخ صغير!

جلس الثلاثة القرفصاء وبدأ الزوج بالحديث محاولاً شرح الحالة التي المت بزوجته، قاطعه السيد (ابو الخرز) بصرامة : اذا كنت تعرف مرض زوجتك فلماذا تلجأ الي؟ أن زوجتك مسحورة وقد أستقرت في معدتها اثنان من الخرز واحدة صفراء واخرى حمراء نتيجة السحر الاسود وأنا سأخرجها لتراها بعينيك وبعدها ستشفى بأذن الله وبركة أهل البيت لكن ذلك سيكلفك عشرة الأف دولار، وافق الرجل وهو يناجي نفسه : حياة زوجتي أثمن من الحلي والاثاث واغلى من ماء وجهه الذي سيبذله للاستدانة وتدبر المبلغ، عادوا بعد ثلاثة أيام، سلموا المبلغ الى المحاسب الذي اعطاهم وصل دفعوه الى السيد ليبدأ مراسم العلاج.

اوقد الطباخ ووضع القدر الفارغ عليه وطلب من المريضة وزوجها النظر داخل القدر للتأكد من أنه فارغ، دس الطفل رأسه بينهما، أنبه ابوه لكن السيد تدخل وسمح له بالمشاهدة ارضاء لفضول الاطفال وتعاطفاً مع براءته، ثم بدأ بصب الماء في القدر الفارغ بواسطة أناء شفاف وببطء ليتأكد الحضور من عدم وجود شيئ فيه وصوته يعلو وينخفض بكلمات تتناغم ايقاعياً مع صوت الماء المنسكب في القدر، لم يفهموا منها سوى أسماء الله الحسنى المدسوسة بين تلك الطلاسم، طلب السيد من الزوج مد يده في الماء والخوض فيه لزيادة التأكد من عدم وجود شيئ فيه، نفذ الزوج مامطلوب منه بأمل ورجاء ينسيه معاناة جمع مبلغ العشرة الاف دولار، عندما أقتربت درجة حرارة الماء من الغليان وضع السيد غطاء القدر في مكانه ليسرع عملية غليان الماء الضرورية لاستخراج الخرز السحرية المسببة لمرض هذه المسكينة.

بعد عدة دقائق اطفأ السيد نار الطباخ فاتحاً كتاب عتيق ليقرأ منه كلمات تبدو معكوسة مع تحريك رأسه الى الامام والخلف على طريقة بندول الساعة،اغلق الكتاب وقبله ثم رفع الغطاء ببطء ليطلب من الزوج مد يده داخل القدر وأخراج مافيه،صدم الزوج عندما تلمست انامله الخرز في قاع القدر، أخرجها بسرور صارخاً (الله أكبر) بينما دبت نسائم العافية في عروق الزوجة المتيبسة،اما الطفل فقد امسك بتلابيب ثياب أبيه، تخرج الكلمات من فمه بصعوبة بعد أن خنقت العبرات اوتاره الغضة (أريد العلكة ...أريد العلكة)، أبتسم السيد مخرجاً ماقيمته أربعة دولارات بالعملة العراقية بيده اليسرى ليناولها له طالباً منه شراء مايرغب من العلكة والحلويات بينما كفه اليمنى تمسح دموعه من التأثر على عوز الطفل، ولأن السيد مرهف الاحاسيس بدرجة كبيرة فقد طلب من المحاسب أعادة خمسمائة دولار للعائلة كتخفيض خاص مراعاة لظروفهم التي أختصرها بكاء هذا الطفل، قبل الرجل وزوجته يد السيد شكراً وعرفاناً بالجميل وغادروا حاملين الخرز ومعها اَمال عريضة بتجاوز هذه الازمة.

بعد اسبوع انتكست الحالة الصحية للزوجة اضطر معها الزوج الى نقلها الى المستشفى لتموت هناك بسبب ورم سرطاني فتك بمعدتها .

لم يتجاوز الرجل حتى بعد أشهر صدمة فقدان زوجته وكل مايملك مضافاً اليها ديون تحتاج زمناً طويلاً لأيفائها، وما يزيد من أساه هو أصرار ولده الصغير على تقليد السيد محاولاً أسترجاع أمه من العالم الاَخر، معتقداً بسذاجة الاطفال ومحبتهم لأمهاتهم أن ذلك ممكن، فأذا كانت خرزتين منحت أمه عدة أيام أخرى ومنحته وقتاً أضافياً في حضنها، فاستخراج المزيد منها قد يعيدها اليه ولو للحظات تكفي لوضع رأسه في حجرها .

لم يحاول الأب المفجوع ثني ولده عن أداء تجربته مثلما يفعل كل مرة فقد أذعن صاغراً أمام أصرار ولده على بعث الحياة من العدم، بل أرخى جسده على الكرسي مصوباً نظره الى ولده وهو يعيد مراسم العلاج خطوة خطوة الى أن بدأ الماء يغلي،فوجئ بولده يطلب منه ان يعطيه الخرزتين، سايره الاب في جنونه وسلمه الخرزتين متابعاً ماسيفعله، أخرج الولد من فمه العلكة ودسها في قمع غطاء القدر ثم الصق الخرزتين فيها، معيداً الغطاء الى القدر وفي لحظة صمت مريب سمع الاثنان وقع صوت الخرزتين وهما تسقطان من قمة الغطاء الى قاع القدر؟!!!

 

علاء فالح أبو رغيف

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم