صحيفة المثقف

النفي والانتفاء خارج دائرة التناقض والعدم في سبيل الأبديّة

قراءة في نص للشاعرة مادونا عسكر: حالة حضور

 

لا تحضرُ، لا تغيبْ

لا تتكلّمُ، لا تصمتْ

لا تدمعُ، لا تضحكْ

لا تشرقُ، لا تغيبْ

حيّ أنتَ كما الرّيحْ

كما الجمال المحتجب في أسارير المزاميرْ

كما العيد يعانق الآنَ

ويتجلّى استحضاراً للّحظة بقوّة الرّوحْ...

 

بيني وبينك مسافة حبٍّ

وأنامل زرقاء ترنو إلى همسك الشّهيّ

وعبير سراج يئنُّ لقطرة ابتسامةٍ

تهوي في شعلة القلب فيستكينْ...

حضور مصلوب بين الأرض والسّماءْ

يذوق مرَّ المنونِ

فتطيب له الحياةْ...

 

هذا نصّ في الحضور: حالة ومفهوما ووعيا وإحساسا بالآخر..بالأنا..بالأشياء..والحضور هنا علامة مفتوحة جامعة، فهي مكانيّة تحيّزيّة (حضور الأشياء)، وزمانيّة تجد دلالتها في الآن لحظة منقضية، لكنّها متجددة أبديّة، لا يمكن الإمساك بها..وهي أيضا حالة حصار وامتناع لما فوق الحضور أو وراءه أو ما بعده..ولذلك لا انفكاك للحضور عن الانقضاء أبديّا..

إلاّ أنّ للحضور صورا ومراتب يبلغ منها النّاس ما استطاعوا، ويتعنّى بعضهم فيه مرتبة هي الأشرف، وحالة هي الأشقّ نوالا والأكمل وصالا..هي حالة الحضور التي تصفها الشاعرة، وتراها المحرّرة من قيد اللحظة المنفلتة وضروب الحضور المنصرمة، وهي السبيل إلى الأبدية، حضورا للحبيب في العالم، وفي قلبها، ليعرج بها من الأرض إلى السماء...

العنوان:

حالة حضور...أكمل حضور

في العنوان تنويع سيميائيّ موح بما سيكون عليه الخطاب من تعدّد دلاليّ وتنزيل لمعنى القول في درجة من سلّمه الدّلاليّ هي الأرقى والأجلى، تجاوزا لدرجات أو عتبات في المعنى مألوفة..فالحضور، بهذا الحضور التركيبيّ، ليس أحاديّ الدّلالة بل هو متعدّد مركّب، حواريّ في العمق، تجاوزيّ، ملتبس، ذاتيّ، إشاريّ، محتاج إلى سيرورة سيميائيّة خاصة للإيحاء ببعضه.. فهو "حالة" بما تعنيه العبارة من حدوث وتميّز وخصوصيّة وخروج عن مألوف الأحوال..

وهو حالة من حيث أنه لا يُحتوى ولا يقال على وجه يحيط بكماله، أي كمال معناه..لذلك نحسّ بقلق اللغة وهي تجهد أن تقوله، وقلق المتكلمة وهي تسِمه بما تُوسَم به سائر الأحوال، فلا يستقيم الحال..

 

1)      الوصف التعريفيّ...

يُنزّل المخاطب وصفيّا منزلة خارج منطق الضدية:

(لاغياب/لاحضور) فلا قيمة سالبة ولا قيمة موجبة..وفي هذا انتهاك خلاّق لمبدأ منطقي كلاسيكي هو مبدأ عدم التناقض، وهو أن يكون الشيء أو لا يكون، أن يكون في حالة وجود أو حالة عدم، في حالة غياب أو حالة حضور..وهذا المبدأ العريق هوالمنظم للتفكير والمواقف والعلاقات بين الأنسان والأشياء وأحوال الأشياء في العالم كما يدركها العقل "المنظم"  ويقرر وجودها المنطقي في شكل قضايا محكومة بمبدإ الصدقية ، وهي شرط الصحة أو الخطأ في القضية، بالرجوع إلى الواقع وتبين مدى التطابق بين المحتوى القضويّ وصورة الشيء كما يتجلى في حقيقته الوجودية.... فأن تحضر معناه أنك لا تغيب، وأن تغيب معناه أنك لا تحضر ومعناه أنه لا يمكن أن تكون غائبا حاضرا أو لا غائبا ولا حاضرا.. فإما أن تكون حاضرا وإما أن تكون غائبا..ولا منزلة بين المنزلتين ولا تسوية بينهما أو اجتماع..كذا هو منطق القضايا وهو يصنف ويصف الأشياء في العالم..

وعن هذا النسق أو الشكل في التنظيم العقلي لوجود الأشياء، تخرج الشاعرة، فتشوّش "البراديغم" الأرسطي بل تنسفه، وتنشئ "منطقا" خصوصيّا واصفا :

لا تحضرُ، لا تغيبْ

لا تتكلّمُ، لا تصمتْ

لا تدمعُ، لا تضحكْ

لا تشرقُ، لا تغيبْ

وتتخذ من المجانسة التركيبية ما يضبط إيقاع الخطاب، فينتشر النفي المقترن بمعنى الديمومة، ديمومة عجيبة بعيدة عصيّة على التمثّل، لأنها ديمومة انتفاء، وتتصدر اللّاءات الأخبارَ  الواصفة المحددة لملامح المخاطب، فإذا هو لا يكون إلا بما لا يكون وأو يكون به الآخرون، خارج ثنائيات الحضور والغياب والكلام والصمت والدمع والضحك والشروق والمغيب..وكان يمكن أن تنتشر قائمة الثنائيات ولا تنغلق، فتكون كثيرة كثرة الأشياء الواقعة تحت طائلة قانون عدم التناقض..

ولك أن تؤول هذه القضايا المنفية وفق منطق تقابلي مقارنيّ، يكون به الحضور غير الحضور والغياب غير الغياب، أي غير هذين المفهومين المحكومين بشروط الزمانية والمكانية وما يتعلق بهما من حسية وإدراكيّة، على وجوه ملموسة خاضعة لسلطان الاختبار والتجربة..فالحضور هنا صور وأشكال وتجليات متباينة متراتبة متفاضلة، أدناها وأوضعها الظهور جسدا، والنطق لسانا وصوتا، والانفعال فرحا وحزنا..وفي هذا ما فيه من تقلب وبشرية وتواضع إلى مألوف الأشياء البشرية المنتفية بالمعنى الوضعي للحضور ، ينقلب غيابا لفرط الألفة وتسطّح الوجود..

ولذلك لا بد من فحص معجمي دلاليّ لتبيّن عملية التفريغ الدلالي التي قامت بها الشاعرة مقابل الملء الجديد الصاعد بالعبارة إلى مستوى المفهوم، ليكون الحضور غير الحضور، وكذا سائر العبارات/ المفاهيم المتصلة به والمنتشرة عنه في هذا الخطاب الشعري المؤسس..

ولعل أهم ما ينبغي التأكيد عليه أن هذه السلسلة من الثنائيات الوصفية المفهومية، لا يمكن أن تُفهم إلا مجتمعة في نطاق تبلورها مقولاتٍ، كل منها ذات قطبين تنشأ بينهما في كل مرة علاقة، أعلى مستوياتها هذا الانسجام بين المحتوى السلبي للطرفين (لا حاضر/لا غائب) صعودا بالنفي والانتفاء إلى منزلة أو كون خارج دائرة التناقض والعدم..وذلك بأن يكون المخاطب الحالة ونقيضها، انصهارا وانتفاء للضدية، لأنها وإن كانت جدليّا مانحة لسيرورات الوجود، فهي سائرة به إلى العدم النهائي باعتباره تسلسلا للمنفيات، أي لحالات موت..وفي تصور الشاعرة وبراديغمها الجديد، يمثل المخاطب تجليا للحرية المطلقة والخروج الأبدي من دوائر الاحتكام إلى قوانين التفكير الوضعي النافي لأي بعد أنطولوجي متعال عن حكم النفي باعتباره عدما فتعيد الشاعرة تأسيس النفي والانتفاء مفهوميّا، وترتفع بالمخاطب من منزلة التحوّل الجدليّ الموضعيّ النّسبيّ إلى منزلة الثّبات والإطلاق والأبديّة، ومن التحيّز المكاني والزّماني إلى الحلول الفيضيّ الغامر لكل شيء وحيّز..

 

2) محصّلة الهويّة...

يمثّل المخاطب موضوعا ذا حضور تركيبي إعرابيّ عامليّ (أنت/ المبتدأ النحوي والموضوع المنطقيّ) تتواتر المحمولات وتتعدّد وصفا له في نطاق الأزواج السّالبة الدالّة مجتمعة على غير ما يدلّ عليه المحمول الواحد لو أُفرد مسندا إلى المتكلّم..وبذلك تتصل أزواج الأخبار (المحمولات) وتتعاظل، فتدلّ مجتمعة متفاعلة، لينضمّ النفي إلى النّفي، فيمتنع الغياب في القول (لا تحضر) ويمتنع الحضور في القول (لا تغيب)..وفي اجتماع القولين اتصال وتلازم ووحدة دلاليّة تجعلهما وحدة معجمية مؤتلفة تخرجهما من حكم التّنافي إلى حكم الوجوب الكامل الذي لا سالب يقابله..

والمحصلة التعريفية أنّ المخاطب ذات متعالية عن شروط تشكّل الذوات في العالم : حاضر بلا حضور وغائب بلا غياب، فوق الحضور والغياب، ناطق بلا اللغة وبلغة، صامت وفي صمته لغة...

 

3) المتكلمة..الغائبة الحاضرة

وهكذا شكّلت المتكلمة خطابها وقد "غابت" فيه المشيرات إلى حضورها اللغوي، ولم يكن لها من حضور إلا في التلفّظ إنتاجا للقول على الهيأة التي خرج بها وكأنه مجرد وصف لذات تُرى فتُقال مثلما رأتها الواصفة..ولكننا في الحقيقة بإزاء حضور خلاّق للمتكلمة منتجة للقول، مشكّلة لنسيجه في توليف معجمي تركيبي دلاليّ، هو أقوى من المشيرات التقليدية كالضمير والمكان والزمان..وبذلك تبدو هذه المتكلمة وكأنها خارج القول، وهي في صميمه، وصميمه هو هذا البناء المفهوميّ المرتقي، كما أُسلف، بالمفردات (حضور، غياب، كلام، صمت...) إلى مستوى المفاهيم المجردة المنزّلة في مستوى أنطولوجي يجعل مدار القول هذه الذات الكلّيّة التي تدركها المتكلمة، فتتلفظ بإدراكها كاسرة الأنساق الوضعية وامتداداتها المعجمية الدلاليّة، فإذا هي تعيد تشكيل المفاهيم، تشكيل الإنسان الإلهيّ أو الله الحيّ في الكون، في كماله ومطلق جماله، ليكون موضوعا للمناجاة ومطلق العشق..

 

4) هو الحيّ..هو الجمال..هو الأنا...

هكذا يتنامى الخطاب ناشرا الوصف ثم مختزلا إياه في أجمعه:

حيّ أنتَ...

لتكون هذه الصفة الصفة الجامعة لما انتثر وانتشر في التراكيب المنفية النافية لما يقع بالموصوف دون الحياة، أي لما يقع به في دائرة العدم الوجوديّ، فيشمله النقص كما الأشياء، وهو أرفع، وإن ظهر في الأشياء...

ولأنه الحيّ، فهو خلاصة اللّاءات ليكون بالإثبات (حيّ أنت) الكلّ وفي الكلّ، المختلف والمتماهي مع ما يظهر:

كما الرّيحْ...

فيحَسّ ولا يتحيّز، ويجوب الآفاق ويحرك المحيطات ويصعد إلى السماوات.. ومع ما لا يظهر، وهو في هذا أبين وأظهر:

فمن ذاتها استلّت المتكلمة صورة المخاطب المحبوب المعبود الموصوف، وفي الأشياء رأته، في ما بدا ويبدو ولا يبدو..والأهم أنه لا يبدو...إلا لها...بقوة روحها وعميق فكرها، وبعيد تأملها والغائر من نصوصها.. فهو هذا الذي تبحث عنه في ثنايا الكلمات..تلك الكلمات المقدّسة التي تتردد، فتبقى أصواتا وتراتيل وصلوات عند أغلب المردّدين والمرتلين والمصلّين..فتقع الهمّة دون المقصد والمحجّ، ودون منتهى المعنى، وهو "الجمال المحتجب":

كما الجمال المحتجب في أسارير المزاميرْ...

وهذا التماهي (وإن جاء في لبوس التشابه) بين المخاطب والجمال يمنحنا أن نرى التجربة الروحية العشقيّة باعتبارها مسيرة تأمّل إدراكيّ شاقّ في أغوار الكيان، يمكن أن يرتدّ منه المرء خاسئا ، ويمكن، إن كان من العارفين القادرين "بقوة الروح"، أن يتجلّى له الحبيب المحتجب..وما هو إلاّ ذاك الجمال الكامن في قرارة الكيان :

 

لي حبيب هو بي محتجب (النابلسي)

وما هو إلا هو، ويكفي، في منطق المتكلمة،  أن نرى، لنهتك السّتر عن المحتجب فينا بنا، فنعانق اللحظة، لحظة الأبد:

 

كما العيد يعانق الآنَ

ويتجلّى استحضاراً للّحظة بقوّة الرّوحْ...

 

5) مسافة الحبّ...مسيرة الألم

يتطوّر الخطاب، تحوّلا في حضور المتكلمة، من متلفظة واصفة إلى متلفظة تتكاثف مشيرات حضورها في صلب القول، فيتجلى ضمير المتكلم مقابلا تكامليّا مع المخاطب المهيمن في ما سبق، وتنقلب الذات موضوعا للوصف باعتبارها ذاتا عاشقة واصفة لمحنة العشق..وللمحنة هنا صورة "المسافة" تقريبا استعاريا للمسيرة تُقطع لبلوغ مبتغى..إلا أنّ هذه المسافة في بعدها الاستعاري الحسّيّ الاتّجاهي المفتوح على الخارج، ليست سوى مسافة داخليّة، بناء على قرينها أو ما يمنحها محتواها الحق، فهي مسافة حبّ :

بيني وبينك مسافة حبٍّ

وبذلك تنشأ علاقة حوارية داخل النص بين مفاتيحه الدلالية المفهومية الكبرى (الحضور، الحب ، المسافة، الأنا، الأنت..)وجماع هذه الحوارية هو التجربة الروحية للمتكلمة منشأ وفعلا ومنتهى..وكان مبدأ الخطاب الحضور حالة للمخاطب تختزل في لحظة هي الأبد..ولبلوغ هذه اللحظة، أي لحظة الحضور، كان لا بدّ من سيرورة استحضار، وهذه السيرورة هي "مسافة الحبّ" الفاصلة الواصلة بين المتكلمة والمخاطب، وهي مسافة بينيّة يتكافأ فيها الطّرفان، فيسعى كلاهما إلى الآخر..ولكن المتكلمة معنيّة ههنا بمسيرتها الذّاتيّة باعتبارها مسيرة حبّ أو فعل حبّ لا ينتهي، بل يظل فعلا محكوما بالتواتر والتردّد والانضمام، انضمام الآن إلى الآن، وانضمام النبضة إلى النبضة، لتكون أبدا نبضة حبّ، وتظل المسيرة،  وإن حكمت بمبدإ الغاية، بلا نهاية، لأنها، إن انتهت، ماتت...وكذلك تظلّ مسافة الحب مسافة ألم وانتظار وجهاد وأنين وظمإ ونور ونارموقدة لا تخبو شعلتها:

 

وأنامل زرقاء ترنو إلى همسك الشّهيّ

وعبير سراج يئنُّ لقطرة ابتسامةٍ

تهوي في شعلة القلب فيستكينْ...

 

6) محنة الصّلب..للعروج من الأرض إلى السّماء..

يؤلّف الرّمز اليسوعي، في نهاية النص، بين متفرقات الصور وإن ائتلفت، ووجدت المتكلمة في الصورة المركبة المنتشرة في سياق تركيبي تصويري مكثّف، ما يختزل تجربتها، وينزّلها في مدارها الأنطولوجي العامّ، ويمنحها كلّ أبعادها الرّوحيّة والفكريّة، ويجلوها بوجهيها الذّاتيّ والإنسانيّ، ويتيح لنا أن نقرأ نصّها في انفتاحه وكثرته، ونقرأها هي في انفتاحها وكثرتها، انطلاقا من خصوصيتها وتفرّدها...

حضور مصلوب بين الأرض والسّماءْ

يذوق مرَّ المنونِ

فتطيب له الحياةْ...

 

الحبيب بالحاج سالم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم