صحيفة المثقف

من خطيئة الحب الناقص إلى فضيلة الحب الكامل .. قراءة في نص للشاعرة فاطمة نزال

كيف للشغف أن يصل إلى منتهاه

فأدرك بلحظة تعرٍّ مع ذاتي، أنني أهبك كلّي طواعية

ناسكة لا تطمع إلا بالرضا من إله

يسكن عينيك؟!!!

 

من هذا النص/الجملة ينبعث صوت(أوّل) هو صوت المتلفّظة أو المتكلّمة ذات الحضور المزدوج، من حيث أنّها الناطقة بالخطاب والحاضرة في المشيرات الخطابيّة المكثّفة للأنا في بعدين: تلفّظي ومرجعيّ..وهذه الجملة/النص، تتعلّق بعمل إنشائي مداره المتكلمة (وهي الموجود الفعلي في الكون) وخطابها(وهو الوجود الفعليّ لفظا) والكون(وهو المطلوب كونه أو وجوده، فيظلّ وجودا ممكنا غير واجب الوجود..) وليس لنا منه سوى محتوى دلاليّ موسوم بالقول..

وللازدواج في الخطاب وجوه من اللطف متراكبة، منها الوجه الخطابيّ المذكور، وهو منعكس على الزمن (حاضر/مستقبل) وعلى التركيب (طلب حاصل/إثبات مطلوب ممكن) وعلى الصورة (استعارة الطريق أو السبيل/مسيرة العشق...) ومنها الوجه الوجداني (الحب في درجة ما/ الحب في درجة أرقى أو في الدرجة الأرقى..) ومنها الوجه الفلسفي (منزلة الإنسان بين النقص والكمال..) ومن خلال كلّ ذلك نفهم تنزّل القول في لحظة عشقيّة دنيا، لا ترضاها المتكلّمة، لأنّها دون مطمحها المقاميّ..ولذلك أوّلنا الخطاب تأويلا، فجعلناه خطاب الخطيئة، أي خطيئة الحب الناقص، وفي الآن ذاته هو خطاب التّوق والشوق إلى الفضيلة، أي فضيلة الحب الكامل المطلق..

وانبثاقا عن هذه المقولة في وحدة مكونيها (الخطيئة والفضيلة) وارتدادا إليها يكون الكلام ويظل، هو الوجود في اللغة وبها، طموحا إلى أن يكون ويتحوّل من دلالة ذهنيّة إلى كون في الخارج، بلا اللغة، ما استطاعت العاشقة الشّغوف...

 

1) الاستفهام عن الكيفيّة : مقولة القصور والقدرة

يتصدّر الخطاب اسم الاستفهام ناضحا بالرغبة والحيرة والتمني والإرادة، واسما من الدلالات ما يتعلق بالحاضر، عزوفا عنه باعتباره زمن نقص وتردّ ووقوع ووقوف عند درجة وضيعة من سلّم العشق، لا تلائم المطمح الرفيع..وهو أيضا زمن عشق في درجة الشغف  (سويداء القلب) مضن حارق ممرض..ومع ذلك تطلب المتكلمة فيه المزيد، وترى فيه النقص ووضاعة المقام..

ولنا في التصوير سلّمٌ للشغف تبغي المتكلمة منتهاه لا نهايته..ولا معنى للمنتهى بلا ابتداء وانقداح، منه تنطلق الحركة إلى منتهى الغاية..والمتكلمة تتنزّل بين النقطتين أو الدرجتين أو المقامين..ليست هي في المبتدأ، لأنها في طور حارق من الشغف، لكنها تطلب الصعود إلى نار سعير...ألا يقال في المعاجم :"  الشَّغَفُ أَن يَكْوِي بَطنَها حُبُّه..." وكذا هي درجة المنتهى، في معنى القوة والاستعار والافتتان والولع..

 

كيف للشغف أن يصل إلى منتهاه...؟

ويُردفُ السّلّم الشغفيّ بعمل استعاري، يلتقي فيه مجالان : الحبّ والرّحلة في اتجاهين: أفقيّ وعموديّ، أو أفقيّ فعموديّ..وكذا تُمفهم الشاعرة تجربتها، بترجمتها حسّيّا واستدعاء مجالٍ يقولها على وجه يقرّبها، ويخرجها على صورة مدركة بعض الإدراك..ففي القول خروج ومسير، يسكت عنهما الخطاب ولكنه يقولهما اقتضاء، مادام القول في الوصول المأمول الممكن..

وبصورتيْ السّلّم والسبيل نفهم حركة الذهن والوجدان في بعدها الأفقي فالعموديّ، ارتقاء واعتلاء لمدارج الشغف وتوقا إلى درجة الشرف وسنام الحب وذروة الكمال..

ولعلّ من أدق المعاني الممكنة في هذا الخطاب التردّد بين حالي القصور والقدرة، وفي أصداء الاستفهام رجْع أصوات تشكّل جوقة يتفاعل فيها متلفّظون مختلفون ظاهرون متخفّون، لا يبدون إلا في ثنايا الوحدات المعجمية أو التراكيب وما ينعقد بينها من صلات..

ومن هذه الأصوات ما يقول إنّ هذا الشغف سيصل إلى منتهاه أو يشقّ أن يصل أو لن يصل، أو سيكون أمرا عظيما أن يصل..

وفي الاستفهام عن الكيفية ما يفتح أبوابا تأويلية على إمكانات عدّة في القراءة ..ومن أقرب ما يبدو من المعاني في هذا السياق شوق المتكلمة إلى ذاك المنتهى وتحسّسها السبيل إليه، لتكون فيه ابتداء آخر وتخلق خلقا ثانيا..

 

2) منتهى الشغف..لاستعادة الذّات..والفناء في المحبوب..بمنتهى الحرية..ومنتهى العبوديّة...

تصل فاء السببيّة، سببيّا، بين منتهى الشغف، درجة عليا ومقاما رفيعا من مقامات الحب، وشفافيّة الذّات لحظة إدراكيّة تحرريّة تكون جسرا للاتصال والتماهي والانصهار مع الحبيب..

فأدرك بلحظة تعرٍّ مع ذاتي، أنني أهبك كلّي طواعية

واعتمادا على قوّة المفهمة  الاستعاريّة، يفضي مجال الرّحلة إلى مجال التعرّي والعري، تجرّدا من اللّبوس الحضاريّ والثّقافيّ والتّاريخيّ ومن قشرة الكينونة المعطاة وحجاب الزّمان، لتعيش المتكلّمة، إمكانا وأمنية، لحظة الشفافيّة والحرّيّة، فتمتلك القدرة على موهبة الذّات للمخاطب، ترجمانا للحب وتحررا من قيود الأنا والأنانيّة..فيدخل الخطاب معبدا للتقرّب، إذ تزفّ العاشقة القديسة ذاتها عروسا للحبيب الكونيّ الكامن فيها، وحين تبلغ ذاتها تبلغه، فتملكه، وتملّك نفسها إيّاه..

تلك هي اللحظة العصيّة البعيدة القريبة التي تريد المتكلمة بلوغها، ولمّا تبلغها..فتحياها افتراضا ووهما عظيما، ويقينا، وحلما واقعا، وواقعا حلما..

 

3) العبوديّة والعبادة لله الحبّ..تبشيرا بدين الحبّ...

يستقرّ الخطاب ويبلغ منتهاه وإن توسّع في الوصف  بالحال والنعت..ولنا في الحال 1(ناسكة) ما يختزل صورة العاشقة إن بلغت أو متى بلغت منتهى الشغف، فتتجرّد من أردية الوجود وتعود إلى أصل الوجود:

ناسكة لا تطمع إلا بالرضا من إله...

وقصدنا إلى فصل الموصوف عن صفته (إله /يسكن عينيك) لنتبيّن بنية القول الشعريّ وهي تنمو معجميا وتركيبيّا، فتتضافر دلالة النسك ودلالة القصر/الحصر، لتنزيل الخطاب في سياق زهديّ "تقليديّ" لو سكتت الشاعرة عن الوصف..إلا أنّ الطفرة الوصفيّة :

ناسكة لا تطمع إلا بالرضا من إله يسكن عينيك

كسرت السيرورة السيميائيّة العتيقة، وحوّلتها لتوليد معنى عشقي يتماهى فيه الإلهي والإنسانيّ، ويكون فيه الحب سبيلا إلى الكمال الإنساني، حين يلقى الإنسان ربّه بعد شوق الدّهور، وقد خاله بعيدا، وإذا هو قريب، بل هو الحب والجمال حيثما كانا..في زهرة..في نظرة..في عينيْ من نحبّ..لأنّه هو الله الحبّ في قلب من أحبّت فشغفت فأدركت فنسكت فصلّت، لأنّها عرفت، كما عرف الشاعر حين قال:

والذي يعرف ريتا ، ينحني

ويصلي

لإلهٍ في العيون العسليّة!...

 

الحبيب بالحاج سالم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم