صحيفة المثقف

أمهات المؤمنين وأسطورة الآلهة الأم

ali saediفي تاريخ الأمم والشعوب، على اختلاف معتقداتها وعصورها، قدستْ الكثير من الرموز درجة التأليه والعبادة، وقد توزعت تلك الرموز بين الذكر والإنثى، وإن بشكل غير متساو، حيث أوكلت للآلهة الذكور المهمات الأكبر في إدارة الكون، فيما تكفلت الإناث بمهام حيوية وفاعلة أهمها الوالدة والأمومة، وكانت لصيقة الأرض برمزية خصبها وعطائها، ومنها اقتبست الأديان خلق الإنسان من التراب، في إشارة للأرض الأم .

لكن الآلهة الأم، تحولت في نسخة منها الى آلهة اختصت بالحب والجمال والأنوثة الخارقة، ورغم انها زوجة الأله القوي (تموز) الإ انها لم تمتنع مع عرض نفسها على جلجامش الذي صدها بعنف، فكرهته وحاربته، كذلك تحولت بدورها الى آلهة للحكمة كما في أثينا الأغريقية، وأم لأله إيزيس المصرية، ثم أم لنبي (مريم التوراتية) وابنها المسيح .

تلك الفكرة عن الأم المقدسة، أنتقلت بدورها الى الإسلام في شخصية فاطمة (أم أبيها) التي كان من شأنها أن تكون المقدسة الأولى في عموم المسلمين من دون منافس، لولا زواجها من زعيم المعارضة وواتر قريش (الإمام علي) الذي رفض حصر الخلافة في قريش ونادى أن تكون في الناس لمن هو أهل لها، كما طالب بالمساواة بين المسلمين، وهذا ما اعتبرته قريش تفريطاً بحقها التاريخي في زعامة العرب الذي جاء الإسلام لتكريسه وإكسابه درجة القطعية المقدسة .

الرفع من شأن فاطمة وجعلها الأولى بين القرشيات، من شأنه تقوية زوجها وإعطائه زخماً قد يجعل حركته وخطابه أكثر خطورة، خاصة مع التفاف أعداد كبيرة من المتضررين من هيمنة قريش حوله.

لذا كانت الأحول تقتضي عملاً على مستويات متعددة، يستطيع محاصرة وعزل الخطر القادم الذي يمثله (الثائر) القرشي قائد (تيار اليسار) كما يذهب الباحث المصري محمد صالح، وهذا الثائر لم ينجح في اكتساب شخصيات مهمة من بطون قريش يمكن أن تسانده في تطبيق مفردات خطابه ورؤيته لبناء دولة الإسلام، وعلى ذلك كان يفترض تجريد الثائر (الفقير مالياً ) من أية مصادر للدخل من جهة، وابراز شخصية نسائية مقابلة، لاتوازي (البنت أم أبيها ) وحسب، بل تتفوق عليها وتطغي على ذكرها .

ما يلاحظ في أساطير الشعوب، إن المقدس في الأنثى، يكاد يقتصر على آلهات الحب والجمال (إنانا وعشتار وفينوس وأفروديت) أو آلهة الحكمة أثينا وديانا، أوالآلهة الأم التي ارتبطت بالأرض والخصوبة (ننماخ السومرية وإيزيس المصرية) كذلك زوجة كبير الآلهة عند الأغريق (زوس) التي تناصب البطل الأسطوري (هرقل) العداء وتحرضّ عليه، الإنثى الأسطورية الوحيدة التي شذت عن مجمع الآلهة الأنثوي، هي (باندورا) الإغريقية، التي فتحت صندوق الشرور، وتسببت بسلسلة من المذابح والمآسي بدءاً بطروادة وماتبعها.

 

أمهات المؤمنين والصراع على الأسطورة (2)

لم يقتصر تبجيل الرموز النسائية على الأساطير وحسب، بل دخلت شخصيات نسائية تارخية، بتشكيل اسطوري نتيجة شهرتهن كملكات أرتبطن بأنبياء(بلقيس وسليمان) أو تسببن بمقتل أنبياء (سالومي ويحيى)، أو ورثن أزواجهن في الحكم (زنوبيا) أو شكّلاً ثنائياً فرعونياً (نفرتيتي واخناتون) ومن الرموزالدينية المقدسة السيدة مريم العذراء والدة السيد المسيح، الإ إن الكنائس المسيحية أختلفت وتقاتل قروناً، بسبب شخصية المسيح ذاته وصفاته الإلهية أو البشرية، ولم تكن مريم موضع خلاف .

في المورث الحضاري ماقبل ظهور الأديان، كانت هناك ثنائيتان متضادتان – عشتار وجلجامش الرافديني، وهيرا وهرقل الإغريقي، وفي الإسلام وجدت هذه الثنائية امتدادتها في العداء بين علي أبن عم الرسول، وعائشة زوجة الرسول .

الرموز الأنثوية الثلاث في عدائهما للأبطال الملحميين الثلاثة، وجدت كذلك مايناظرها من رموز أنثوية وقفت الى جانب الأبطال وساندتهم

 -ننسون بصفاتها الإلهية أم جلجامش، مقابل عشتار عدوته

- كليمنسترا زوجة هرقل، مقابل هيرا .

- فاطمة زوجة علي، مقابل عائشة .

لكن ننسون لم تسطع منع عشتار من محاولة النيل من جلجامش، أما كليمنسترا، فقد واجهت مصيراً مأساوياً بأن قتلت مع أولادها، بيد هرقل نفسه بعد أن مسته هيرا بحجر أصابه بجنون طاريء ومؤقت، فيما غيب الموت فاطمة باكراً من صراع محتدم .

العداء بين جلجامش وعشتار وردت أسبابه في رفضه لها وأهانتها، وقد سلطت عليه الثور السماوي – كناية عن ثورة قامت ضد حكمه في مدينته اوروك – وهو مايذكر بالرفض التي ووجه به الإمام علي وتزعمته عائشة وبعض كبار الصحابة، أما هرقل، فسبب عداء هيرا له، كان تفضيله من قبل زوس كبير آلهة الإغريق، على حساب ابنها (فولكان) إله النار والبراكين، أما العداء بين عائشة وعلي، فلم يتناول المؤرخون والرواة والمحققون، أسباباً واضحة له، وتركوا فجوة كبيرة في التاريخ لم يجر ردمها، فعلي لم يقتل لعائشة قريب أو نسيب كما عند هند بنت عتبة حيث قتل أخاها الوليد، وبالتالي ليس في الوارد موضوع الثأر القبلي مثلاً، أما التقارب العمري بين عائشة وعلي، فربما شكل نوعاً من المنافسة على التقرب من الرسول، خاصة أن علي تربى في أحضان النبي المحروم من الولد الذكر، ولم تستطع عائشة تعويضه عن ذلك، وحينما زوجه فاطمة، أنجبت له ولدين أعتبرهما النبي آله وعائلته، ومن ثم ازداد حجم الإهتمام الذي يمنحه الرسول لفاطمة وزوجها وأولادها، وماكان ذلك ليرضي الزوجة الأثيرة والجميلة عائشة بما لها من دالّة ومكانة، أما الركن الأكثر إثارة للخلاف، فقد تمثل بالتوجهات اللاحقة التي تبلورت في شخصية كل من علي وعائشة وتمثلت في (حزب) المحافظين الذي مثله الخليفة الأول (أبو بكرالصديق) ومساعده الأقرب (عمر بن الخطاب) ومن معهما من كبار رجالات قريش، و(حزب) الإصلاحيين بقيادة علي ابن أبي طالب، ومن ثم ليس مستغرباً أن تنحاز عائشة الى المحافظين بقيادة والدها لتصبح الرمز الأهم لاحقاً وركناً من ثلاثي القداسة الذي سيرتفع الى مستوى التأليه، وكأنه أمتداد للتثليث الذي عرفته الشعوب القديمة (آنو وأنليل وعشتار)عند الرافدينيين، وزوس وبوسيدون وأفروديت عن الأغريق، والآب والأبن والأم في المسيحية، وبالتالي فعائشة كذلك تحولت الى (أمّ أبيها) لتصبح من ثم أمّ المؤمنين الأكثر حضوراً وتأثيراً عبر التاريخ، الذي لم يشهد تقديس شخصية نسائية الى درجة الموت في سبيلها أو اتخاذها مرتكزاً لتكفير أي طرف لايؤمن بمكانتها، رغم ان أشدّ المناصرين لها، أورد من الأحاديث مايمكن أن يؤخذ عليها(*).

 

أمهات المؤمنين والأم الواحدة (3)

ثلاثي القداسة في التباعد الأبدي

 (الإصلاحيون) بدورهم، سيبنون ثلاثي قداستهم كذلك، متخذين من فاطمة أحد أهم أركانه، ومن زوجها وأبنها ركنيه الآخرين، أما النبي، فقد أستأثر به حزب المحافظين بنسبة كبيرة، رغم المحاولات الحثيثة للإصلاحيين، في الحصول على حصتهم من صاحب الرسالة وإيراد أحقيتهم بالولاية من بعده .

في مراحل مختلفة، استطاع اتباع ثلاثي المحافظين (أبو بكر وعمر وعائشة)، مدّ نوع من التصالح مع ثلاثي القداسة عند الإصلاحيين في وإن بشكل متفاوت، فقد نال علي الاحترام – وان بدرجة أقل من الشيخين – باعتباره رابع الخلفاء الراشدين، فيما بقيت فاطمة على موقعها كأبنة للنبي وحسب دون رفعها الى مرتبة أعلى، أما الحسين فقد موقع الإشكالية بين من يراه ثائراً على الظلم، أو خارجاً عن طاعة الخليفة .

ذلك التصالح عند اتباع المحافظين، له مايبرره، فعلي لم يشقّ عصا الطاعة أو يستبب في قتال، فلم تحسب عليه معركة الجمل أو حرب صفين، إذ ظل الإعتراف بخلافته قائماً تاريخياً بدلالة تصنيفه ضمن قائمة الخلفاء الأربعة الأوائل، واللعن على المنابر في الزمن الأموي الأول، لم يدم طويلاً ومن ثم لم يتجذر كثقافة أوفقه .

تيار الإصلاحيين لم يستطع فعلاً مقابلاً، فقد ظل عدم الإعتراف بقداسة الثلاثي الآخر قائماً ومن ثم تحولّ الى فقه قائم بذاته، دخل هو الآخر طور القداسة كجزء من عقيدة إيمانية، ابتنت على (مظلومية الحقّ المسلوب عنوة) ولم ينفع إن ماسلب من فاطمة (أرض فدك) أعيد الى ورثتها على يد خليفة أموي (عمر بن عبد العزيز) رفع اللعن عن عليّ وأعاد الأمور الى نصابها، كذلك لم تثمرحقيقة إن الخلافة عادت لعلي في مرحلة لاحقة، لكنها لم تهدأ بوجود الركن الثالث من مقدسة المحافظين (عائشة) واستمرار التأثير الحاسم فيما تركه وأوصي به الركن الثاني (عمر) .

 الأحاديث القليلة التي رويت عن فاطمة، كانت تنبيء بشخصية تمتلك من الصفات الذاتية مايؤهلها للعب دور محوري في الأحداث القادمة، فقد استطاعت مواجهة زعيمي قريش الأكبر والصحابيين الأكثر نفوذاً ومكانة (الخليفة الأول ومساعده) في مناظرة حول ماصودر من أرض ورثتها عن أبيها، وكانت قوية الحجة متماسكة المنطق، لكن وفاتها المبكرة، أفقدت زعيم الثورة مسانداً مهماً كان يمكنه أن يترك بصمته على مسارات قريش، ومن ثم أفسح في المجال أمام الرمز الأنثوي الآخر (عائشة) أن تترك ذلك الأثر الذي مازال قائماً .

لم يبق في نساء قريش من ينافس عائشة، فهي زوجة النبي وأبنة أول الخلفاء، ولما كانت أكثر زوجات النبي أثرة وقرباً منه، لذا فمن الطبيعي تقبّل نقلها ماورد من أحاديث ستؤخذ كمصدر موثوق، ومن ثم تتحول الى أحد أهم مرتكزات الإسلام وتشريعاته، خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة، ولما كانت الوحيدة من بين نساء النبي، التي تدخلت في الخلافات السياسية بشكل مباشر، فقد اقتصر لقب (أمّهات المؤمنين) عليها وحدها في واقع الأمر .

خلاصة ذلك أنها شخصية تاريخية وجدت في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية وشهدت بداياتها زمن الرسول، ثم ماتبعها من أحداث، ولاشك سيجد الدارسون الكثير مما يمكن ايراده وروايته عنها كما أية شخصية تاريخية أخرى، لكن رفعها الى مرتبة قدسية لم تُعرف من قبل، لابد يحتاج الى دراسات شاملة ومعمقة لاترتبط بالشخصية ذاتها بالضرورة، فهي قد تجاوزت مرحلة الأسطرة، بل وتعدت عند بعض الطوائف مرحلة الإلوهية بكل أشكالها، وقد يستنتج الباحثون إنها الشخصية الأنثوية الأكثر اشكالية في التاريخ، والأكثر تقديسا كذلك، إنهابمثابة (الآلهة الأمّ) أقله فيما ينظر إليها واقعاً، وإن لم يكن تشريعاً وفقهاً .

تلك هي خلاصة مكثفة لأمة أنقسمت بعنف في أولات أيامها، ومازال الإنقسام متواصلاً بعنف أشدّ، يتغذى من أساطير، صنعتها الكراهية، ويعاد تغذيتها بالكراهية .

 

...........................

 (*):الكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 206 ط دار الصادر ( اقتلوا نعثلا فقد كفر) وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 51 وفي ص 72 )اقتلوا نعثلا فقد فجر )والسيرة الحلبية ج 3 ص 356 )اقتلوا نعثلا فقد كفر ) والفتنة ووقعة الجمل المؤلف : سيف بن عمر الضبي الوفاة : 200 تحقيق : أحمد راتب عرموش الطبعة : الأولى سنة الطبع : 1391المطبعة : الناشر : دار النفائس – بيروت ص 155 ( اقتلوا نعثلا فقد كفر ) .

-(*)اسم الكتاب: صحيح البخاري

دار النشر: دار ابن كثير , اليمامة

بلد النشر: بيروت

سنة النشر: 1407 - 1987

رقم الطبعة: الثالثة

المحقق: د. مصطفى ديب البغا

(4439)- [4788] حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: هِشَامٌ حَدَّثَنَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص) وَأَقُولُ: أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ، قُلْتُ: مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ "

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم