صحيفة المثقف

بكر السباتين: سنديانة الروح وطائر الزرزور.. المبدع ورجل الصناعة تيسير حرب

bakir sabatinفي لحظات التجلي مع الذات، نبحث أحياناً في الذاكرة المزدحمة عن أصدقاء نبلاء لا يجب العبور عنهم دون توقف لاستنهاض شيء جميل جمعنا ذات يوم، وحين لا نجد لهم أثرا في غياهب الذاكرة العميقة، ستغمرنا الدهشة بأسئلتها عن سر هذا الشعور الغامر بالتلاقي العميق في مكان وزمان ما!! لتكتشف ماذا يعني تلاقي الأرواح .

هذا هو الشعور العميق الذي كان يغمرني كلما أرسل المبدع تيسير حرب تعليقاً فذاً على ما أكتبه من نصوص شعرية أو قصصية أنشرها على صفحتي الرسمية في موقع التواصل الاحتماعي فيسبوك، إلى أن قرأت النص المذهل التالي بعنوان:

"ماذا لو"

قال كاتبه:

" ماذا لو قطفوا كل الأزاهير هل يغرق النحلُ في لججِ الريح ؟ أم يغزلُ أحلاماً سداسيةً، ويصب قوالبَها من رحيقِ القهر .

يا معشر النحل، أين تأوِ القبرات ساعة المطر؟ وأين ترفرف الفراشات اذا بات الضوءُ دون أنياب الرماد؟

ماذا لو مات الشاعر، هل تَفْنَى القصيدة وتبكي بغير دموع ؟ وهل تحوم في غير مدارها المراثي ؛ الا إذا عافت الكأسُ رحيق الزجاجة، ولم تجل في زقاق وعيي .

ماذا لو مات الغدُ بالأمس ؟ فهل تراني إلا حرفاً يبحث عن كاتبه في قصاصة تدحرَجَتْ وتاهت بين خطى الريح .

إلى أن قال:

" ماذا لو بُعِثَ الأمس عارياً من رماده، غَضّاً، باعثاً طفولتي متعرِّقاً جبينُها من لهاثِ الروح ؛ لآويتُ غديْ في لحدِ يومي، فهل تُراني إلا في فَيْءِ حلمٍ لم أبرح أضغاثه بعد  !!! ماذا لو... "

فعلقت على هذا النص الذي تفاعلت معه بكل مشاعري ويقظتي، فقلت:

" هذا نص سردي مفخخ بالصور الشعرية .. الدهشة في حرثه قمح تستشعر براعمه الضوء، وتستل النور من رمادية البوح فتخلصه من السواد.. لتميز الحديقة لون زهرة الود وهي تحتفي بحمرة الغسق.. فترتجف أيادي قاطفيها، وقد تعبقت بفلسفة التراب والجذور..فمن يقتفي أثر الروح فيحتسي قهوتها لن تفرق السبل بين قلبه وحظه المكتوب.. نص مدهش ويعج بالأسئلة!!"

فمن هو المبدع والاقتصادي الطموح تيسير حرب؟

كان علي قبل كل شيء التنقيب عنه معرفياً من خلال الموسوعات الأدبية عبر الشبكة العنكبوتية، ثم في موقع رابطة الكتاب الأردنيين، فلم أجد له أثراً، إلى أن اتصل بي ذات يوم من عمان راغباً بزيارتي من أجل التعارف وقراءة بعض نصوصه الجميلة عليّ، وكانت زيارة لي عائلية.. وطياً لكثير من التفاصيل إلى أن شرع في الحديث عن تجربته في الكتابة، فتهيأ الحقل ونثر بذور شعره في حقل اللقاء، تنسمنا خلاله عبق الروح الهائمة في الخيال، نرتشق قهوة الصحبة الطيبة من عمق السؤال، ما جعلها جلسة آسرة ومفعمة بجمال الكلمة وروح التلاقي الذي انفتح بيننا على كل الفضاءات دون محاذير،  بفطرية عازف الناي الذي يبهج عزفه شقائق النعمان، وقد حلق في أجوائنا السنونو يخبرنا عن رحلته في سماء الأدب وفضاءات الروح: "هل التقينا ذات يوم يا تيسير!" وكأن السنونو أجاب بأن الأرواح تتلاقي في الماضي لتستمر في حدائق الاستشراف على محاذاة المستقبل إلى أن ننطوي في الغياب، وأثناء اللقاء قرأ علينا تيسير حرب النص التالي تحت عنوان:

"رَحيل "

قال فيه:

"رَحَلَتْ كآخرِ لوحةٍ

مرّت بها عينُ قُبَّرةٍ

وارتطمتْ بشروخِ نافذةِ الغيب

كأنّي بها حطامٌ تاه في الصورةِ

أم صورة تبعثرتْ بين الكُسور

كانت كثوانٍ ذابتْ في رحيل الغسق

وألمَحُ قُطيراتِ دمِها بين السطور

لمْ تكتَمِل بَعْدُ الروايةُ

ولم تتَّقِد بالحياة البُذور

غصصٌ تتْرىْ في عتمةِ النفس

ولم نذُقْ في الفقاعةِ

سوىْ طعم القشور"

فأنتابني شعور غامر في أننا اجتمعنا روحياً ذات يوم، وقد التقت اهتماماتنا في كل المحاور، حيث كان البوح سيد الموقف والشعر أفق تجاوز الغرفة التي جمعتنا ذات مساء.

وخلال الجلسة التي اتخذت طابع الأمسية الأدبية، وفي غمرة قلبين غمرتهما الدهشة إزاء الشعر الذي حلق عالياً في سماء الجمال، حدثني المبدع حرب عن نفسه بتلقائية الفنان الذي يحسن البوح بفطرية السرد دون أن يُكَذِّبَ تيارُ الشعور لديه، جوهرَ نصوصه المفعمة بأريج المحبة، ونكهة الهيل الفواحة عبر نوافذ قلبه المليء بالخير .

كأنه بذلك يبوح بالسر الذي جعل يدفع بهذا الاقتصادي الطموح كي يعبر عن مشاعره العميقة من خلال النصوص الإبداعية، معلناً عن انحيازه إلى جانب الإنسان، وكونه ثرياً كان يعطي اهتمامه للفئة الأشد فقراً، حيث خرج منها معدماً ليحقق ذاته في هذا الزمن الصعب، ويستطيع المهتم بكتاباته التقاط شيئاً من ذلك في نصوصه الثرية بالصور الشعرية المفعمة بعاطفة جياشة تجمع بين الرحمة والشعور بالألم، ليسجل من خلالها موقفه إزاء الظلم والفقر المتفشيين كالطاعون في الفئة المحرومة التي خرج منها صلباً كساق سنديانة تغور في وجع البداية الصعبة لتشق طريقها إلى السماء، بعصامية الشوك في الرمضاء، ليقبل على تحدي الظروف والصعاب بأشد صلابة في حياة يأكل قويها الضعيف، وتتحكم في مدخلاتها شريعة الغاب.

تيسير حرب كاتب متمرس ويمتلك أدواته، لا يرصف الصورة الشعرية على جدارية البوح كلوحة فسيفسائية تقليدية، وهذا سياق جمالي لافت بتكويناته الرائعة، بحيث يخرج المعنى من النص كأنه مقطوعة موسيقية أخّاذة تهتف كل آلة موسيقية فيها منفردة، ولكن تيسير شسدهشك أكثر إذْ يسقيك من سلافة المعنى، ورحيق الزهر ليذيب الصورة الشعرية في النص فيفوح عطر المعنى، فلا يرى المتلقي تكوينات اللوحة وجمالياتها إلا من خلال رهافة الحس ونباهة القلب، فتشعر بلذعة الدهشة، ونسائم الروح وهي توقظ براعم الحنظل والشقاء كي تصيل لشمس الحقيقة التي توشح الأرض بالنهار، وتنثره بالزهور، وترسل إلى الليل ضوء القمر.

هذا هو الشاعر المبدع تيسير حرب، الذي توارى في ظل الحديقة مطلقاً لروحه العنان كي تحلق مع الزرزور قريباً من شرفات الصدفة، حتى تمازجت تعليقاتنا المتبادلة كقطعة الحلوى وهي تذوب في قهوة الحوار المنكه بأريج المحبة، كأنها تحيط بقلب راهب يتجلى بالدعاء.

نشر تيسير حرب كثيراً من ابداعاته على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع على الشبكة العنكبوتية،ولكن الأجمل في سياق علاقتي به ما تجلى في لقائنا الأول، إذ قضينا معاً أمتع الأوقات بالعوم بعيداً على محاذاة الأفق المنفتح على المدى، وعميقاً في غياهب الشعر ووظلال الخيال.

وكان لمذاق نصوصه الخاص وقعه الجميل عليّ، فتساءلت عن نتاجه في مجال الشعر المنثور والتأملات العميقة فأجاب بأن لديه ثلاث مخطوطات تنتمي إلى جنس الشعر المنثور أولها ديوان (على شفا محبرة)، ولديه تجربة مسرحية يشغل وقته بها تدخل في سياق التجريب .

وعن سر الألم المتجذر في بوحه الشعري رغم يسر حالته المادية، لفت انتباهي إلى عمق تحربته في الحياة التي انسدلت على ألوانها الخلابة غلالة من حزن، كأنه مالك الحزين الذي يسعدك بألوانه الجميلة فيما تبوح عيناه بحزن غائر، غذى مشاعره دائماً بحب العطاء دون حساب، وبقبول الآخر والخروج من الغرف المقفلة لتنسم الهواء في مجتمع صحي يقبل به .

فقد عانى تيسير حرب شظف العيش في حياة مليئة بالأشواك، كابد خلالها واجتهد حتى يثبت لزهرة النور بأن الديدان لا تأكل من البراعم إلا التي تهوى المبيت يابسة في الحفر، فاشرأب ليرتوي من ينابيع النهار سلافة الحياة وروح التحدي في صراع البقاء .

وفجأة طوى كل التفاصيل ليضعني على متن الشوق باتجاه كيف صار رجل أعمال ناجح في مجالي الصناعة والتجاره، إذ تنتشر أعماله بين المغرب وعمان والسعودية، كما لديه طموحات لمشاريع زراعيه في بلد عربي آخر يجري التخطيط له الان.

وهو ما شجعني على تلخيص سيرته الذاتية لضمها إلى النسخة المنقحة من كتابي:

"الفلسطينيون وتجربة النماء عبر العالم" المنشور في موقعي الرسمي على الشبكة العنكبوتية (موقع الروائي بكر السباتين )، ففوجئت به، ونحن نحتسي القهوة في ظلال حديقة بيته الجميل بالبنيات بعمان، يتحدث عن جوهر الرحمة من خلال قصصه مع الكادر الوظيفي الذي يعمل معه عبر مسيرته الطويلة:"هم جزء من أسرتي الكبيرة" مؤكدا كمن لسعته النار بانه لم يعاقب احداً قط منهم في حياته على خطأ او ذنب اقترفه لا بل كان يبقيه على رأس عمله ويكافئه إن صلح حاله، لأن الرحمة في نظره تعويذة مغلفة بالرحمة، بوسعها أن تحول دون التائب والعودة إلى مستنقع الخطيئة، أما الحزم المفرط في الادارة فهي منفرة وقد تعثر خطوط الانتاج .

ويعتقد المبدع حرب بأن هذا النوع من من الإجراءات الاداريه التي تتوخى الرحمة تجاه موظفيه؛ كانت تمنحته طاقة إيجابية حيال التعامل مع الموارد البشرية في العمل من باب العدالة في سياق احترام حقوق العامل، وهو لا ينسى بأنه بنى صرحه الاقتصادي بالتعاون مع شقيقه (ياسر حرب) بعد حياة بائسة في إطار الوظيفه، ومقارعته للصعاب بروح التحدي والرغبة بالتغيير.

بدأ تيسير حرب حياته المهنيه بوظيفه محاسب في سلطة الطيران المدني براتب قدره مئه وعشرة دنانير عام 1986م، وتلاها بمهنة خطاط في مجال تصميم وتنفيذ اللوحات الاعلانيه (القارمات)، ثم افتتح شركة الأولى بفرعين وكانت متخصصة ببيع قطع غيار السيارات ذات المنشأ الكوري في شرق عمان قرابة اربعة عشر عاماً. وبعد إصابة هذا القطاع بالكساد تحول إلى قطاع الصناعة والتجارة المفتوحة في السعوديه كمستثمر برأسمال أولي قدره مليون ريال .

ويمتلك الان عدة مصالح منها: شركة استثمارية أنشأها مع شقيقه في الرياض عام 2006 لانتاج الحبيبات البلاستيكيه  تحت اسم شركه "العمالقه السعوديه للصناعات البلاستيكيه" وأنتاجها يربو على 100 طن شهرياً تصدر بأكملها الى الاسواق الاردنيه، وشركة استثمارية أخرى مقامة حاليا في المغرب بمدينة (كازابلانكا) تنتج المواد البلاستيكيه، والمندرجة في قائمة المواد الكيميائيه والتي تدخل كمواد مساعدة لإنتاج الصناعات البلاستيكيه مثل: (تيتانيوم، وستابلايزر، والبرافين، وستيريك أسيد، والملونات البلاستيكيه) إضافة إلى المنتجات البلاستيكيه التي تدخل في صناعات الكوابل والاحذيه والخراطيم وجميع المنتجات البلاستيكيه اللينه ...وتغطي هذه المنتجات السوق المحلي في المغرب فيما تزود مصنعهم في الرياض بالمواد الأوليه .

في اخر سهرتنا، وبعد مثاقفة معرفية مبهجة في كل القضايا التي تطغى انعكاساتها على عالمنا المتأزم، كان لا بد من أن نحلق معاً في سماء الخيال على متن اخر قصائده المنثورة، وهي بعنوان:

" كفى خداعاَ"

يقول فيها:

"رسولُك لم يَلتقيْ وحيَهُ

لتُبعَثَ لؤلؤةً

في خرائب هذي القرائن

تاهتْ مفاتيحُك

في مغاليقِ السما

ولم تَعُدْ وتراً

في حناجر المآذِن

فلستَ سوى مِلْحاً

تَذوّقَ جُرحَنَا

وغصّتْ بماِءك

الجداولُ والذُّرى

...والمساكن ْ

يا أيها الخائنُ شِرعةَ السنابل

كيف تدَّعي عذوبة البحر

وأنت الغارقُ

في عُباب هذا الكأس

الآن أشقُّ لسان صمتي

وأُبحرُ في دم

كلِّ خائنْ

أنت العهرُ الذي التقى

الموءودةَ في قاع تلك البئر

والمتراسُ الذي

أجهضَ سر الكمائن

أنت ذاكرة الجُبِّ والغَيَابةِ

وتعلم رائحةَ العتمةِ

وأنياب الرحىْ ...

والمطاحِن

وتحسن رسم التضاريسِ

على شفاه الضغائِن

رأيت فيك حقد الموج

إذ يشـدُّ

تلابيبَ السفائِن

أنت من خرقَ السفينة

وهي تمخر عُباب روحي

تتلو مطلع القصيده

المكتوب تحت جفن

شِراعِيَ الشّادِنْ

هما آخر بيتين

من معلقتي انتَحـراْ

إثـرَ حرفٍ شائِن

عَبَسَ البحرُ لما

أُغْرِقَتْ فيه

القصيدة والرهائن

يا أيها القصيد ...

جُثّة ريشةٍ طارتْ

من جناحها أنا

وليس غير الزمانِ

يكشف سـرَّها

بين أحطابِ المدافنْ "

إنها قصة سنديانة الروح التي تحاور النسائم وطائر الزرزور الذي يحلم بالغناء. فإلى اللقاء مع شخصية أخرى نتناولها تحت عنوان:" مبدعون خلف الستار".

 

بقلم: بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم