صحيفة المثقف

ماجدة السعد: على هامش ثلاثة نصوص قصيرة

majida saad (القشة) لسعد سعيد: قد يستدرجنا نص ما واعدا بلذته، لكن نص القشة لم يفعل، نحن امام نص لا يتجاوز الصفحتين يقوم على متخيل سردي هو: طبيب كان قد خطف ابنه قبل ثماني سنوات ودفع فديته ولم يعد الابن، اثناء ذهابه الى عمله صباحا يرى جثة طفل ممزقة اثر انفجار وقع.اثناء عمله يلتقى زوجين فقدا ابنهما الوحيد في انفجار اخر، فلم يستطع السيطرة على نفسه وترك العيادة ليبحث عن ابنه المفقود.

بدءا قد يكون اختيار الثيمة المستندة الى مرجعية متفجرة معاشة اختيارا لا يسهل التعامل معه قصصيا، أخص الاقصوصة تحديدا، على الرغم من"أن القصة القصيرة تميزت بقابلية التحرك واستيعاب ردودالفعل الحارة، وبمحاولةالرد على التساولات التي تبرز في أعقاب الهزات الكبرى" (1) الا أن نصا يقل عن صفحتين يتضمن جثة طفل وجثة شاب وجثة متوقعة (جثة الابن المفقود) وانفجارين وعويل ودموع لا تنتهي، والتعامل مع ثيمة مثقلة الى هذا الحد بالفجائعي لهو أمر ليس مستحيلا، لكنه يتطلب درجة عالية من الحساسية والتيقظ والموهبة الفطرية في كتابة الاقصوصة، وهذا تحديدا ما افتقد اليه كاتب النص، وان كان موفقا باختيار العنوان واشتغاله المميز مع الخاتمة!

لقد اختار القاص السارد المحايد وهو اختيار موفق من حيث المبدأ لانه يكفل انقطاعا عاطفيا أو مسافة امنة بين السارد والمسرود، بيد ان اللغة الانفعالية والتي تصل حد الترهل فوتت اية فاعلية لهذا الاختياروساوته باختيار ضمير المتكلم المتورط بوصفة أحد الشخوص!

ولتبيان التضخم الانفعالي قمنا بعمل جدولين أحدهما للكلمات والعبارت الانفعالية واخر للفجائعي:

مرتبكة / شعر بالاهتمام فورا / قال بغضب مكتوم / حالة طارئة / بخشونة / لن ينتهي على خير / كاد ان يسقط ارضا / لم يجرؤ / فهالته التوليفة العجيبة / من ملامح الحزن والغضب والخوف / الوجه المحتقن / نهض من مكانه بلا شعور / وهو يتطلع اليهما بذهول / بذلت جهدا كبيرا / شعر بتعاطف قوي / قبل ان تستعيد سيطرتها على مشاعرها / بصوت مرتجف / كأن يد (كذا) همجية قد أمسكت بقلبه بكل قسوة / التوسل / بصوتها ..من غور عميق / جهودا خارقة / أي أذى / من خلات لوعة / كل حزن الدنيا تتجمع في قلبه / ولكنه تحامل / نخاف عليه / طبعا تخافون عليه / الا أن نخاف عليه / بصوت ملؤه لوعة / هزته / فدكت طلائع الدموع عينيه / أوشك أن يصرخ بها / بذل جهدا خارقا / لم يجرؤ على خرقه / بصوت يتحشرج / لم يستطع السيطرة على نفسه / المستغربة / تساؤلها الحائر.

أما جدول الفجائعي: لم ينقطع عن البكاء / كان انفجارا اخر من الانفجارات التي تأبى أن تفارقهم / جثة الطفل الممزقة / جثة الطفل المدماة / المريض الباكي / كانا يبكيان سوية / نوبة بكاء جديدة / من خلال دموعها / لم يتوقف عن البكاء منذ ثلاثة أيام / الرجل المنتحب / فانخرط بنوبة بكاء / فألفاه غارقا في دموعه / الى زوجها الباكي / نوبة بكاء هستيرية ساندها فيها زوجها / الانفجار اللعين / عوت المأساة / فاضت دموعه / وهو ينشج.

واذا ما اخذنا صغر حجم النص بالحسبان يتأكد لدينا:

1 - أن هذا الكم من الانفعالات الصاخبة والضجيج والنواح مناقضا لبنية الاقصوصة وان اتخذ شكلها، هذا صخب عاطفي ميلودرامي مسرحي متخف في ثوب اقصوصة، حيث تظهر انفعالات "الابطال وهم يتأوهون، ويتعذبون، ويعبرون عن غضبهم أو يأسهم (....) فمن العويل الى الصراخ " (2) ويتجرأ اوكونور بتعميم مفاده أن "العاطفية المفرطة في الادب تعني التزييف دائما" (3) وهو ما يتنافى مع الطبيعة الحيية الهامسة المكثفة الشعرية للاقصوصة .فمن"تقاليد الاقصوصة (...) أن ابلاغ المعلومات الى القارئ، لا بد أن يتم بأكثرالطرق لا مباشرة وحياء" (4)

2- ان لغة الاقصوصة التي تهوم على حواف الشعر وتقتنص كثافته لهي_بلا شك_نقيض اللغة المترهلة المباشرة التي بلغ بها الترهل حد سوء الصياغة، ولنقتبس هذة الفقرة: (كان انفجارا اخر من الانفجارات التي تأبى أن تفارقهم..كاد أن يسقط أرضا حين رأى وجه الرجل الذي يحمل جثة الطفل الممزقة..لم يستطع أن يتبين مشاعره ولم يعرف ان كان يمت بصلة الى الطفل..هو لم يجرؤ على اطالة النظر الى الجثة الصغيرة المدماة، طبعا، بل تشاغل عنها بالنظر الى الرجل الراكض بحمله، فهالته التوليفة العجيبة من ملامح الحزن والغضب والخوف التي اجتمعت في ذلك الوجه المحتقن) ان انسنة الانفجارات التي (تأبى أن تفارقهم) تنتمي الى رومانسية تاريخية بائدة ليست محور اهتمامنا هنا، بدلا من ذلك سنطالب الكاتب بشرح التناقض بين دلالتين في فقرة واحدة.فجملة (كاد ..الى حين رأى وجه ..ألخ) تمهد الى شيء ما في وجه الرجل جعل الطبيب (يكاد يسقط أرضا) واذا به لم يستطع أن يتبين مشاعره ولم يعرف ان كان يمت بصلة للطفل.سؤال: اذا لم يتبين صلة أو مشاعر لم (كاد أن يسقط أرضا) ؟

بعد سطر واحد: فهالته التوليفة العجيبة..الى المحتقن.والسؤال: لم هالته (حالته) ازاء حدث مهول أصلا!؟ لكن السؤال المحوري: كيف اجتمعت الفقرة الاولى بعدم قدرة الطبيب على تبين مشاعر الرجل، بالفقرة الثانية التي تصف مشاعره؟؟

ومن المثير للانتباه ان الكاتب وضع حبكة لنصه بل وحقق نهاية تعد ذروة تتميز بها الاقصوصة التقليدية، نهاية تجاوبت مع عنوان النص وعمقته، بيد انه أخفق في التنفيذ بين عنوانه ونهايته، ويبدو أن الكاتب لا يعلم ببديهية أن القص ليس نقلا عن الواقع، فقدم نصا كلاسيكيا رخوا تجاوزته الاقصوصة منذ عقود مضت.

واحقاقا للحق لم يخفق الكاتب في روايتين قرأتهما له (5) صحيح انه لم يتاخم قمم الرواية العراقية، لكنه بدا متفهما للبنية الروائية ومجتهدا بل ومجربا، نتمنى له الازدهار فيها.

 

(الشروع في حلم) لسعدون جبار البيضاني

أثار اهتمامي ما قرأت (6) من نصوص للكاتب سعدون جبار البيضاني _بل باغتني بعضها_ لسببين قلما يجتمعان في كثير مما ينشر من النصوص حاليا، أولهما:

قدرته على خلق انزياحات بلاغية بواسطة كسر القرينة، ردتني الى ما توصل اليه كوهين في كتابه "الشعرية" (7) من أن الانزياح بتمثلاتة النحوية والدلالية والموسيقية = الشعر.وأذهب الى ابعد من ذلك وأقول أن الانزياح بكل تمثلاته هو جوهر الفنون والاداب والابداع بل وربما التطور الحضاري للبشرية برمته !

ثانيهما: قدرته المميزة على التغريب الدلالي في معظم ما قرأته للكاتب، وأعني بالتغريب هنا المصطلح الذي فسره شكلوفسكي الذي

الذي "يربط بين وظيفة الفن وتحطيم قواعد المألوف لتوليد ادراك جديد لدى المتلقي عن الاشياء." (8) .وباجتماع الانزياحات الشعرية والدلالية تألق كثير مما كتب من نصوص بالطزاجة والجد ة أيا كانت الثيمة المؤسس عليها النص. (9) ويكاد ادراكي مزاياه مبدعا ان يحرجني فيما رصدته من هنات وضعف في هذا النص- .وسنتطرق الى ايجابيات النص لاحقا- وهي هنات طارئة لم الحظ لها مثيلا في نصوصه التي اطلعت عليها سابقا.اول وأهم هذه الهنات الترهل، أكاد أشك فيما اذا كان ثمة أي علاقة سردية لهذه الجملة بالنص"على الرغم من ان ليلي المسكون كان يزعجني الا ان بعض الناس كانت تتمناه "، ماذا سيحدث للنص لو قمنا بحذف جمل ثلاث قبل"اسدل نفسي.."؟ لن اجيب بأن لن يحدث شيء بل أقول سيتخفف النص من ثقل لم يكن ضروريا قط.ماالذي يضيفه "طلب مني أن يجري معي حوار اخر مفتوح بعد أقل من سنة محظور نقله مباشرة عبر القنوات الفضائية واللا فضائية؟!لن يضيف بل انتقص وشتت، لن أقول "ان القصة القصيرة يجب أن تكون مثل قصيدة صغيرة، كلمة واحدة زائدة تقضي عليها"لكن أقول أنها تنال من فنيتها وتحتسب عليها، وأن التزيد نقيض الابداع.

ثاني هذه الهنات: الاخطاء النحوية والاسلوبية (10) .

ثالث هذه الهنات تراخي الكاتب في تكوين جمله والفقرة الاولى من النص شاهدا، وأضمنها أنسنة الليل يستغلني بخبث ونجاسة!، ومثلها "دون شروط مسبقة".

لننتقل الان الى خضم النص، وهو بعنوان: "الشروع في حلم" حيث المتخيل السردي فيه هو عجز شاب أو رجل عن الحلم ويحاول استعادة الحلم بأي طريقة كانت، بالعقاقير او باستنصاح من هم حوله وينتهي النص من غير أن يحقق توقه .

قد يوحي العنوان بميول رومانسية مملة ومكررة لولا ان الكاتب يتناول الموضوع بسخرية تنأى به عن ابتذال الثيمة من جهة،

ومن جهة أخرى تدخلنا هذه السخرية الى منطقة لا يكاد يطأها غير ندرة من كتاب القصة العرب في العصر الحديث (11)، بل وازعم أنها منطقة نادرا ما وطئت في تاريخ الادب العربي عموما. (12)، وهو مما يحتسب للكاتب.

بفحص النص1- تبدت بعض أدوات العطف ااحد اليات توليد السخرية، وكذلك لحفر الدلالة مثل أم وأو وحتى،

: "ماذا أعمل غدا أو ماذا عملت (...) حتى لو كان الحلم كابوسا مرعبا أو الزواج من راقصة باليه أو أن أكون شرطي حدود أو حتى لو كلب بوليسي " كانت هذه الفقرة نموذجا لما تتيحه امكانات التخيير ل (أو) في التغريب، فبعد" كابوسا مزعجا" تعقب أو "الزواج براقصة باليه " مفاجئة منقطعة عما سبق خالقة جوا من السخرية، وهي توطئة لتكرار منظم لادوات عطف بعينها تخلق تناقضات دلالية ساخرة، مثل اسلوب التداعي الذي أتاحته (أم): "هل أنك تنوي كتابة وصيتك بقلم جاف أم بقلم رصاص أم ببندقية كلاشنكوف عيار "ليس القلم ولكن صفته"الرصاص"استجلبت البندقية التي بوجوها عزز السخرية من جهة، ودلاليا فاقم المأساوي في النص بالتلميح الى الانتحار طريقا للخلاص!

2- ثمة الحوار الساخر الذي يظل يحيد عن الاجابة الجوهرية عن كيفية استعادة الحلم، منزاحة- بدلا من ذلك- الى مايبدو ظاهريا هوامش أو حتى غير ذي صلة بالموضوع، مثل الاسئلة التي يوجهها الناصح الاول للراوي – هل تحب الفاصولياء في الصيف

- هل كانت علاقتك مع جدك لامك جيدة؟

- الى من تميل، الى قوات الاحتلال أم الى العصابات المسلحة المحليةأو تللك المتسللة عبر الحدود؟

- قبل أن تموت، هل أنك تنوي كتابة وصيتك بقلم جاف أم بقلم رصاص أم ببندقية كلاشينكوف؟

وقد انتج ودعم التشتيت انتاج السخرية، وفي ذات الان ساهم بتكوين دلالات النص النهائية كما سنرى.

3- تصوير الشخصية بما يحتاجه النص تماما هي احدى مهارات البيضاني الاساسية التي لم تخذله في هذا النص وليس أدل على هذه القدرة من تشكيل شخصية غير متوازنة بالكلمات: وصفا وحوارا، " وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه ودمعت، وصار يرشح من أنفه وعرق وجهه واحمر، وتبعثر شعر رأسه ولكي أهدئ من روعه مسدت وربت على ظهره وقبلته من رأسه وطلبت منه أن يخلع نعليه قبل أن يرشقها بوجهي أو بوجه أحد المارة غأذعن وهدأ واسترخى"مما جعل النص ينضوي تحت اددب الكوميديا السوداء بامتياز. لقد تضافرت صيغ السرد في النص منتجة دلالات مفاجئة سنتطرق اليها.

فمنذ العنوان وحتى النهاية ثمة ما يجري تحت سطح السرد ومن خلاله، بدءا بالعنوان الذي

أنتج اشارة مضللة، أوحى بها للمتلقي بأن النص ينتهي ببدء فعل الحلم، الشروع تعني البدءالفعلي، مما يجعل القارئ مطمئنا الى نهاية يتحقق فيها وعد العنوان، ويتابع المتلقي محاولات الراوي في استعادة حلمه نراقب كل ما يصدر عنه من قول و فعل.

الفخ الثاني بعد العنوان هو ادوات التخيير!بل وحتى، فالتخيير لم يكن بين بدائل متساوية، انما بين بدائل تنزلق بهدوء عن نقطة افتراضية لحظة بدء التخيير باتجاه الاسفل من غير توقف.

" لا أعرف فيما اذا كان منبه الساعة يعطل أثناء الليل أم أني أتحول الى أخرس وأطرش أو أني أموت موتا مؤقتا لا يزيد على (الصحيح عن) ست ساعات"

يسهل تتبع الهبوط السلبي وليس التخيير في هذا المقطع، من مجرد عطل في المنبه الى الاصابة بالخرس والصمم الى الموت المؤقت!

مثال سابق على المثال الاول: " أتمنى أن أحلم في أحد (كذا) الليالي بأي شيء حتى لو كان الحلم كابوسا مرعبا او الزواج من راقصة باليه أو أن أكون شرطي حدود، أو حتى لو كلب بوليسي.

يسهل أيضا تتبع الهبوط: من حلم الى كابوس الى، لست أدري ان كان الزواج براقصة باليه أنحدارا

عن الكابوس وان بدت هنا كذلك بما يفرضه التتابع، يليه شرطي حدود وتساعده (حتى) بالتطرف في الهبوط الى كلب بوليسي!نفس الانحدار من ان يحلم باي شيء، ثم التنازل الى القبول بكابوس مرعب ..وينتهي بكلب بوليسي!من انسان مأزوم يبحث عن حلم، الى كلب تابع منفذ للاوامر!

اذن أحرف التخيير مضللة، لا خيار سوى الهبوط !والاداة (حتى) لا تفعل شيئا سوى الهبوط الى أسفل!

والاستشارة التي نشدها الراوي باستماتةا ايضا كانت في هبوط، من ناصح غير متوازن الى ناصح مجنون!! ثم نهبط الى نهاية كان العنوان قد لمح اليها، فلا نجد نهاية ولا شروعا! أقول هذا لان النهاية كانت نصيحة أخرى للراوي"حدق في وجهي، حك رأسه كمن يفكر، لعق زاوية فمه بطرف لسانه، ياولد نصيحتي لك أن ترشح نفسك لكتلة مجانين أو جمعية رفقا بالعقلاء أو تدون مذكراتك محاربا أو محاصرا، قالها وفر راكضا بكل ماوتي من قوة......"

ان النهاية تتعالق مع مع المرجعية السياسية بتلميح لا يغيب عن القارئ مغزاه (كتلة- جمعية- محاربا محاصرا) وبخص المحارب والمحاصر بالمذكرات يحيل بذكاء الى حقبة مضت، وب (أو) يتم التخيير المضلل لانه دلاليا يغلق الاختيار، فتفرض علينا النهاية اعادة تشكيل للنص، فترتد بنا الى ما بدا أنه هوامش في النص مستقطبة اياه ودافعة به الى المركز والذروة، غير مستجيبة للعنوان الذي يدفع جانبا بوصفه الهامشي، اذ هو العرض لا المرض!ويظل الحلم مرجأ

 

(حمار وحمزة) لخالد الشاطي:

لم أقرأ للقاص غير عدد قليل من الاقاصيص (13)، وهي كافية لأزعم أنني وجدت فيها –على قلتها- تمثيلا نقيا لبنية الاقصوصة، لا أعني بهذا القول بنية واحدة مكررة "فكل اختيار يقوم به القاص يحتوي على امكانية قالب جديد " (14) وانما قصدت جوهرها وأجواءها .فالقصة القصيرة "لم يحدث أن كان لها بطل قط، وانما بدلا من ذلك مجموعة من الناس المغمورين " (15) "ويبدو أنه مقدرا لهذه الجماعات " في النهاية الهزيمة التي يفرضها مجتمع بلا حدود" (16)

ينطبق هذا على قصص الكاتب ومن بينها قصة " حمار وحمزة " التي نتناولها بالقراءة هنا، بدءا بالمتخيل السردي الذي يتم في زمن أقصاه اثنتي عشرة ساعة وأيام أخر مجمله

حمزة رجل بسيط يعيش مع زوجته وحماره في كوخ طيني على هامش المدينة، علاقة الزوجة بالمدينة تساوي صفرا، أما حمزة والحمار تربطهما بالمدينة علاقة تقاطع لا تفاعل، حتى أن سماع الاطلاقات والقذائف لا يثير انتباههما الى درجة تكفي للتحدث بشأنه مادامت هذه الجلبة تحدث (هناك) .

يمر بهم مصادفة، و لأنهم ظنوه مستخفا بهم اعتقلوه وألقوه فوق معتقلين سبقوه، ثم يدخل الملثم ليفرز باصبعه من سيبقى لاعدامه او يعود الى بيته، ويدفع جهل حمزة بما يحدث (هناك) الى رفض الاستجابة لالحاح الملثم عليه بالانضمام الى من يبرؤون، متشبثا بمن حوله جاهلا انه يتشبث بمن سينفذ بهم حكم الاعدام.

يعود الحمار بالعربة الى الزوجة المنتظرة في الكوخ، وهي شخصية عاجزة بالكامل يرتبط وجودها وطمأنينتها بحمزة، لذا لا تجد طريقة للبحث عن زوجها غير الحمار الذي يذهب كل يوم ويعود وحيدا .

 

نبدأ بالعنوان الذي يطالعنا مخلخلا الصيغة التقليدية الشائعة لتوصيف ا لعلاقة بين الحيوان والانسان- حيث تفترض انتماءالحيوان للانسان، مثل حماره وكلبه وما شابه- يتصدر الحمار العنوان باستقلال عن حمزة أتاحه حرف الواو الفاصل بينهما، وهو حرف مراوغ لانفتاحه على تأويلات شتى، فالعطف والمعية والتأكيد بعض من وظائفه، وأي من هذه الوظائف أو كلها جائزة هنا، مما يجعل العنوان عتبة رجراجة ومستدرجة ومستفزة.وقبل ان ننتقل من العنوان لنا أن نلاحظ – على الرغم من أن الحمار جاء نكرة- الا أن تصدره للعنوان ونديته لحمزة الناتجة عن الفصل بالواو، يدفع بالحمار الى مركزية ضمنية، ملقية على حمزة ظلا من التبعية أو التهميش.

تقام بنية هذه الاقصوصة على التناوب بين أربع فقرات منفصلة

حمزة وحماره_مقابل_هم: يحتويهم فضاء (هناك) التي =المدينة أو المركز

الزوجة والحمار في البيت الطيني على الاطراف =الهامش

حمزة وحيدا في مكان احتجاز _مقابل_الملثم: يحتويهم فضاء المركز

الزوجة والحمار في البيت الطيني الهامشي

ساهم اختيار المقاطع المنفصلة بالتوتر والتشويق وعززه التناوب بين فضاءين متناقضين، وعمق دلاليا الانفصال بين المركز والهامش اللذين تقاطعا في الجملة الافتتاحية:

" مر بهم صدفة " بهذه الجملة المقتضبة البسيطة يفتتح النص، جملة تحتوي على ضميرين، الاول يعود على حمزة، والثاني ضمير لا يعود وانما يشمل.وشفرت هذه الجملة فضاء النص وشخوصه، ويحفر لفظ " صدفة" خطا فاصلا بين عالمين لا يلتقيان عادة، وأضاف أيضا اختيار اللفظ ذاته "صدفة" ظلالا تعمق المأساوي فيما الت اليه الاحداث. حتى كاد مفتتح النص أن ينافس عنوانه.

ينقسم فضاء النص الى مكانين، أولهما كوخ طيني هامشي على حواف المدينة ملحق به زريبة يكاد أن يكون خارج حركة الزمن والفعل، يقطنه حمزة مع زوجته التي تتطابق هامشيتها مع هامشية المكان تماما، ويقطن في زريبته المجاورة لهما الحمار، فضاء يتسم بالسكون والرتابة والمسالمة والامان. المدينة بالنسبة لحمزة وزوجته "هناك"، يتسم ب "الهرج والمرج" ومنه تسمع"أصوات قذائف واطلاقات"

حيث " العالم في الخارج مجنونا ومرعبا" انه مكان خطر، وليس المكان (هناك) هو الذي يحدد محتوى الفاعلين فيه، بل الفاعلين –الذين دأب السارد على الاشارة اليهم بضمير الجمع الغائب – هم بأسلحتهم بسياراتهم العسكرية من يلون فضاء المركز بالجنون والرعب، ومن يغيربالامكنة مثل تحويل ساحة مدرسة الى مركز اعتقال بانزياح مشوه للاصل، "هم " كيان يحتوي الجنود والملثم لكنه أكبر منهم، كيان يفترض في الافراد الرهبة منه والانصياع المطلق له،، سلطة مطلقة، فقد اعتقلوا حمزة للاشتباه بأنه "لم يعبأ بهم" و"ظنوه يهزأ بهم"، وهذه بعض أفعالهم: "أوقفوه، أمروه، فحملوه وقذفوه " وكلها أفعال متعدية.نستطيع أن نعد هذا الكيان شخصية فاعلة في فضائها حين اخترقه حمزة "صدفة" قادما من فضاء أخر هامشي.

في لحظة التقاطع بين عالمي حمزة وعالم "هم"يتراءى حمزة بريئا بمعنى التناقض مع المعرفة، وهو ما منعه من التبصرفيما ينبغي عليه فعله. وتظل سذاجته مصدرا لسخرية - بدأت في العنوان – متصاعدة في النص "أوقفوه وأمروه أن يصعد الى حوض احدى السيارتين "فطلب منهم: "أمهلوني حتى أعيد الحمار الى البيت، وأعود اليكم. (......) ظنوه يهزأ بهم ".

في الفقرة الاولى أدى سوء الفهم المتبادل بينه وبين"هم" الى اعتقاله حسب، أما في الفقرة الثالثة، حيث أدرك الخوف حمزة وقدر خطورة الموقف، فاقم الخوف سوء استجابته، لما جاء الملثم ليفرز الابرياء ويخرجهم من جموع المعتقلين المحكومين بالاعدام، وأشار الى حمزة أن ينضم اليهم تجاهله حمزة ألح عليه بلا جدوى، ظل حمزة متشبثا بمن حوله، "اضطر الرجل الملثم أن يتخلى عن اجراءات التكتم والسرية فتكلم مغضبا: - قم وقف مع هؤلاء !! لكن حمزة قال أنه يفضل البقاء مع الباقين . اقترب الرجل الملثم منه وهمس في أذنه أن من الافضل له أن يسمع كلامه ويذهب ليقف مع الاخرين .لكن حمزة قال أنه مرتاح في مكانه ولا يرغب في الانضمام الى الاخرين.حاول الرجل الملثم جره من مكانه بالقوة الا أنه تشبث بالمحيطين به، عندها صاح الرجل الملثم: ابق مكانك ...الى جهنم !"

لا يفوتنا ما رشح من أمله في النجاة في قوله"أنه يفضل البقاء مع الباقين"، في هذا المقطع تداخل المأساوي بما هو ساخر، منهيا أحد قطبي العنوان .

ننتقل الى الشق الاول من العنوان، الحمار: بدءا، احتل الحمار المساحة الاولى داخل النص، انقسمت الفقرات ب التناوب والتساوي بين الهامش والمركز، الا ظهور الحمار في الجزء الفقرة الاولى مع صاحبه مما جعله صلة الوصل بين الفضاءين. ما الذي يستقطبه لفظ الحمار من تداعيات لفظية ودلالية؟البلادة، الغباء، الصبر، لكن أكثرها شهرة القدرة على التحمل والخنوع.

في بداية المقطع الاول ظهر مع صاحبه كما ينبغي لاي حمار أن يكون عليه

يستحثه صاحبه"بطرقعة متتالية من لسانه "، وبدا حمزة قلقا حول اعادته الى البيت (الى فضائهما معا)، حين اختفى حمزة، فاجأتنا- الجملة الفعلية الختامية للمقطع الاول "وتكفل الحمار وحده باعادة العربة الى البيت." ليس فقط لان الفعل تكفل يستقطب دلالات موحية بالمبادرة وتحمل المسؤولية، وانما لدعم الفعل بالحال "وحده"، ثم "باعادة" التي وان لم تكن فعلا، لها قوة الفعل، فلا دلالة في هذه العبارة غير نهوض "فاعل" حل محل حمزة !عائدا ومعيدا العربة الى فضائه الهامشي.

سندع جانبا زوجة حمزة التي امتلآت بها الفقرة الثانية لنتابع تشكل الفاعل الجديد، والبديل، الحمار، في نهاية الفقرة الثانية "حينما لم تجد زوجها مع الحمار المتسمر أمام باب الزريبة، ينتظر أن تحل وثاقه من العربة وتقدم له الماء والبرسيم "لا يسعنا هنا سوى ملاحظة توقع الحمار للخدمات .

في الفقرة الرابعة والاخيرة تضطر المرأة – التي يشكل اعتمادها الكامل على زوجها ملمحا اساسيا في تكوينها- الى ازاحة هذا الاعتماد من الزوج الى الحمار، للبحث عن حمزة وهو تحول أساس، يلمح من جهة بمواربة ذكية الى مصير حمزة، ومن جهة أخرى هي ازاحة تتوج الحمار فاعلا رئيسا في فضائه .

قبل متابعة مسار الحمار نعود الى الزوجة التي احتلت نصف مساحة النص، غير أن ما يثير الانتباه أن توصيفها في النص اختلف عن أي تقديم للشخصيات في النص، اذ بدأت الفقرة بتقيم جنسها معرفا: المرأة: زوجته، علاقة بدل الثانية منها وظيفة اجتماعية، أما (المرأة) فوجود راسخ، عزز هذه الدلالة عدم قدرتها على مغادرة المكان لانها الجزء الحي منه.كما شكلت شخصيتها مرصدا لتحولات رئيسة مثل تأكيد الاختفاء النهائي لحمزة، ومن خلال سلوك الحمار معها نرصد التحول الحاصل في مسار السرد.

تنفتح نهاية الفقرة الرابعة- والاخيرة- على تأويلات متعددة يحسمها القارئ – المتلقي، "كان الحمار يدير رقبته نحوها ويرمقها بتلك النظرة المختلفة تماما عن النظرة التي ألفتها، نظرة هادئة، مصوبة الى عينيها مباشرة، نظرة يطول أمدها يوما بعد اخر، لم تفهم معناها ابدا."

في نص قصير تم تطوير شخصية الحمار من مفعول به الى فاعل !

هذا نص حقق المعادلة الصعبة في التعامل مع ثيمة صارخة من غير الوقوع في الميلودراما الصارخة.

وحقيقة أني لا أستسيغ النصح لا يمنع من أن امل أن يكرس القاص وقتا للاقصوصة، لانه ان فعل سيكون كسبا للاقصوصة العراقية .

*د. ماجدة السعد: دكتوراه الأدب العربي الحديث، مدرسة النقد الأدبي في كلية الآداب / جامعة بغداد (سابقاً) .

.............................

الهوامش

1- حركية الابداع.خالدة سعيد ص279

2- الميلودراما ص124.مجلة فصول المجلد الرابع العدد الرابع. 1984

3- الصوت المنفرد.أوكونورص116

4- خصائص الاقصوصة البنائية وجمالياتها .صبري حافظ ص 26مجلة فصول المجلد الثاني.العدد الرابع 1982

5- رواية (ثلاثة عشر ليلة وليلة) ورواية (فيرجواليه) .

6- مثل قصة الخاتم، جانب من السواد، على مرمى الزمن، ليلة حالكة واسفل الحياة .

7- بنية اللغة الشعرية –جان كوهين

8- بنية الرواية وبنية القصة القصيرة- شكلوفسكي ص33- مجلة فصول –مجلد2 – ع 4 – 1982

9- مثل قصة ليلة حالكة، وقصة أسفل الحياة.

10- بعضها أخطاء شائعة مثل: لوحده والصحيح وحده، واستخدام (بحيث) في سياق خاطئ: بحيث أسهر الليل الخ وكان الاصح حرف العطف (ف) أو أية بدائل أخرى مناسبة.كذلك كلمة (دون)

أما الاخطاء الاخرى فهي: أحد، على غير سبب، أن يبق، يجري معي حوار، تمر علي .واكاد، وبالرجوع الى كتابات البيضاني أجزم أن السرعة وعدم المراجعة وراء هذه الاخطاء.

11- مثل بعض كتابات المازني وبعض كتابات يحيى حقي من مصر، اميل حبيبي من فلسطين، ومحمد طملية من الاردن.

12- الجاحظ وهو ظاهرة استثنائية في الادب الساخر وربما مؤسسه، وبعض ابيات شعريه في القدح هنا وهناك .

13- مثل قصة (الساق الثالثة) و (قنبلة في حافلة) (لماذا الكبار على هذه الشاكلة) و (المتسول)

14- الصوت المنفرد.أوكونور.ص16

15- نفسه 13

16- نفسه 14

لا دغار الن بو وأوكونور استبصارات عميقة في بنية القصة القصيرة جعلت أي باحث فيها لا بد عائد اليهما.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم