صحيفة المثقف

يحيى محمد: ميتافيزيا المفردة الكونية

لقد سبق لنظرية النسبية العامة لاينشتاين ان جعلت عملية التأثير الكوني وليدة العلاقة بين هندسة الزمكان والطاقة او المادة، وعندما تم اكتشاف توسع الكون نهاية العشرينات من القرن الماضي اخذت التصورات النسبية تبدي بانه لا بد من الرجوع الى بداية لا تسبقها بداية اخرى، وهي تمثل نقطة مكانية ولحظة زمانية مرافقة، وتحمل هذه النقطة كتلة طاقوية هائلة. فمن خلال تلك الحالة المعبر عنها – فيما بعد - بالمفردة singularity بدأ ما يعرف بالانفجار العظيم ومن ثم التوسع او التضخم الكوني. فالمفردة هي نقطة مضغوطة الى ابعد حد من التكثف المادي. وبحسب النسبية تُقدّر كثافة المادة وطاقتها بانها غير متناهية ضمن هذه النقطة التي يكون فيها الزمن والمكان منعدمين او صفرين.

هذا ما يلزم عن النسبية العامة، فالمفردة هي نتاج هذه النظرية، وعلى الاقل انها معتبرة طبقاً لنظريات التوسع والتضخم الكوني. فقيم الطاقة لدى المفردة تبقى قيماً لا متناهية، ومن هذه البداية جاء التأثير السببي ضخماً للغاية، وما زالت اثاره سارية الى يومنا الحالي من دون ان نعرف حدود هذا التأثير ومخلفاته واللحظة التي سيتوقف عندها مستقبلاً، فلحد الان لا يجزم الفيزيائيون اي شكل من الاشكال الذي يتوجه اليه التوسع الكوني، فهل سينتهي الى حد ثم يعود الى النقطة التي بدأ منها، ام انه يستمر الى ما لا نهاية له من دون توقف؟

ويعتبر الفيزيائي والقس البلجيكي لومتر اول من استنتج وجود هذه النقطة البدئية استناداً الى معادلات النسبية العامة وتوظيفاً لاكتشافات هابل حول تباعد المجرات عن بعضها البعض. ففي ورقة نشرها عام 1927 فسر فيها ازاحة دوبلر الضوئية بانها دالة على تمدد الكون، اذ عمل على حل معادلات النسبية، وتنبأ بان الكون يتمدد، وقد بدت الفكرة غريبة انذاك، حتى نقل عن اينشتاين بانه احتج - وقد احمر وجهه - بتصريح مفاده : (معادلاتك الرياضية صحيحة، لكن فيزياءك فظيعة). وفي عام 1930 اقترح لومتر بان كوننا المتمدد قد بدأ من نقطة متناهية في الصغر اطلق عليها الذرة الاولية، وهي المسماة فيما بعد بالمفردة والتي من خلالها بدأ الانفجار العظيم، ثم اخذ بالتوسع او التضخم كما يفسره قانون هابل.

ليس من شك ان المفردة قد حيّرت علماء الكون الى يومنا هذا. فلو اردنا ان نسترجع التوسع الكوني الى الوراء حتى نصل الى لحظة البدء بالتقلص شيئاً فشيئاً، فسيعني ذلك ان الزمان والمكان سيتحولان الى تلك المفردة دون تعديها، اذ بدأ التأثير من هذه النقطة الكونية من دون زمان ولا ابعاد مكانية محايثة.

ان من المفارقة ان تكون المفردة من لوازم النسبية العامة في الوقت الذي تكون مناقضة لمضامينها، فهي الحالة التي تكشف عن خطأ هذه النظرية وعدم امكان تطبيقها عليها. فالنسبية تتنبأ بالمفردة حيث تكون درجة الحرارة والكثافة والانحناء فيها لا نهائية، لذلك اعتبرت لدى الفيزيائيين خاطئة تماماً. فعند الرجوع الى الوراء زمنياً فان الجسيمات تتقارب فيما بينها شيئاً فشيئاً حتى الوصول الى نقطة التفرد، وعند هذا الحد ينبغي ان تكون الطاقة غير متناهية وفقاً للقوانين الفيزيائية المتعارف عليها. فمثلاً لما كانت المسافة بين الجسيمات في حالة المفردة او النقطة عبارة عن صفر، فان تعيين قوة الثقالة بين الجسيمات ستكون لا نهائية طبقاً لقانون الجاذبية، اذ القوة تتناسب عكساً مع مربع المسافة بين الجسمين.

ولا تقتصر هذه المشكلة على المفردة الكونية لدى النشأة الاولى، او ما يعرف بظروف الانفجار العظيم، وانما تلوح ايضاً ما يحصل لدى الثقوب السوداء، فهي ايضاً تمتلك مفردتها الخاصة، وفي الحالتين تعجز معادلات النسبية العامة عن معالجتها.

فللمفردتين صفات مشتركة، فسواء في بداية الكون او في حالة الثقب الاسود يحصل التفرد بفعل الجاذبية الضخمة، وعندما يتحدث الفيزيائيون عن المفردة الكونية (البدئية) فانهم لا يميزونها من حيث الكثافة المادية عن تلك التي لدى الثقوب السوداء. مع ان هذا الحديث يتضمن شيئاً من المفارقة، فرغم انه في الحالتين هناك مفردة وجاذبية ضخمة، لكن ما يحصل هو شيء معاكس. فللمفردة الثقبية صفة الابتلاع لكل ما حولها بفعل الجاذبية الضخمة، في حين يحصل العكس في حالة المفردة الكونية (البدئية)، اذ يتولد منها انفجار عظيم يدفع كل شيء في حوزته الى الخارج.

ويعود تاريخ الحديث عن الثقوب السوداء الى عام 1783، فقد طرح جون ميتشل بحثاً حول النجوم من حيث احجامها وابعادها وكتلها، وقام بقياس تأثير جاذبيتها على الضوء المنبعث من اسطحها، وذلك استناداً الى النظرية الجسيمية للضوء كما عرضها نيوتن، وقد توصل الى ان من الممكن ان تكون هناك نجوم لها كثافة لا تقل عن كثافة الشمس وان اقطارها اكثر من 500 مرة قدر قطر الشمس، ففي هذه الحالة ستعمل الجاذبية على ثني الضوء دون ان تسمح له بالخروج والوصول الينا، لذلك تبدو مظلمة او غير مرئية، ومن ثم سميت بالنجوم المظلمة. وفي عام 1796 نشر الفرنسي لابلاس كتاباً طرح فيه بحثاً عن (النجوم غير المرئية) وجاء مشابهاً لفكرة ميتشل من دون علم بما قام به الاخير، حيث كشف فيه عن اثر الجاذبية في جعل بعض النجوم مظلمة او غير مرئية لعدم تمكن الضوء من الافلات من شدة الثقالة. لكن هذه الفكرة اختفت من طبعة كتابه لعام 1808 وما بعدها من الطبعات، وذلك بعد ان شاعت ابحاث يونغ وفرزنل التي اثبتت بشكل قاطع بان الضوء عبارة عن موجات وليس جسيمات خاضعة للجاذبية.

اما خلال القرن العشرين فقد قدّم الفلكي الالماني كارل شوارزتشايلد (Schwarzschild) اول محاولة علمية جادة لاستنتاج الثقوب السوداء من النسبية العامة سنة 1916، اي بعد ان نشر اينشتاين نظريته في نفس السنة، وقد ابدى الاخير عدم اقتناعه بالفكرة الجديدة، وفي عام 1939 طرح تفسيراً انكر فيه مثل هذه الثقوب. لكن تبين لدى عدد من العلماء خلال الستينات بان ما وصفه شوارزتشايلد هو الواقع الصحيح، وكان منهم ستيفن هوكنج وبنروز ودايسون وويلر الذي يعود اليه الفضل في اطلاق الثقوب السوداء على هذه النجوم. ومع ان الكثير من الفيزيائيين اعتبروا هذه الثقوب خيالية، لكنها لقيت ترحيباً خلال التسعينات من القرن المنصرم لتزايد الادلة حولها.

والمعروف ان الثقب الاسود يتكون من النجم اذا ما كانت كتلته كبيرة جداً، فاحياناً تبلغ هذه الكتلة عشرات المرات من كتلة الشمس او اكثر، وهي ما تجعل قلب النجم شديد التكتل، فتزداد جاذبيته ويصبح مهيئاً للتحول الى ثقب، اذ تبدأ عملية التكون بعد ان تستنفد التفاعلات النووية الحرارية للنجم طاقتها، اذ تتغلب قوة الجاذبية في قلب النجم على هذه التفاعلات التي كانت تقاومها، فتُسحب المادة الى الداخل ومن ثم يتقلص حجم النجم ويتكثف، ومنه يتكون الثقب، حيث يقوم بابتلاع كل ما حوله بسبب ضخامة هذه القوة.

مع ذلك فالثقوب السوداء مازالت مفترضة من دون ان يدل عليها شاهد او دليل تجريبي مباشر، فبحسب النسبية انه لا يمكن رؤيتها ابدأ، حيث يستحيل ان ينفذ منها اي شيء حتى الضوء تحت وطئة ثقالة الجاذبية، وهذا ما يجعلها عصية على الاثبات والاستشعار. لكن هناك طريقة لستيفن هوكنج ذكر بانها اشرقت عليه في لحظة اكتشاف هي اشبه ما يكون بالالهام العرفاني عام 1974، فقد حاول ان يثبت بان هذه الثقوب تشع بعض التيارات الضوئية دون ان تكون مظلمة تماماً، وذلك اعتماداً على نظرية الكوانتم.

فبحسب الكوانتم ان المجالات الفضائية ليست صفرية لعدم اليقين، فالفضاء مليء بخلق وفناء الجسيمات الزوجية المتضادة، المسماة بالتقديرية او الوهمية، حيث تظهر بشكل ازواج متضادة، لكن سرعان ما يفني الجسيمان احدهما الاخر، وهو ما يحدث ايضاً في المنطقة القريبة من الثقب الاسود، فهناك جسيمات زوجية افتراضية حول الثقب، ومنها الزوج المتعلق بالفوتونات، فكثافة الطاقة السلبية لافق الثقب الاسود تحني الزمكان مما تجعل اشعة الضوء يتباعد احدها عن الاخر، على عكس الكثافة الايجابية للطاقة التي تجمع الاشعة كما هو مرئي. اي ان المقدرة الهائلة لجاذبية الثقب يمكنها ان تحقن طاقة في زوج الفوتونات فتبعدهما عن بعض في منطقة الفضاء المجاورة لافق حدث الثقب الاسود، اذ يمكن ان يسحب احدهما ليهوي داخل الثقب قبل تفانيه مع نظيره المضاد، فيما يفلت الثاني بالاندفاع نحو الخارج بعيداً. لذلك يتكون منه تيار مستمر من اشعاعات منبعثة للخارج، مما يجعل الثقوب السوداء مشعة. وتولّد هذه الظاهرة ما يُعرف بالشعاع الهوكيني، نسبة لهوكنج. وعليه فالثقوب السوداء ليست سوداء تماماً.

فهذا ما تنبأ به هوكنج، وهو ان الثقوب السوداء تصدر اشعاعات باستمرار تجعل من طاقة الثقب او كتلته تتناقص، وكلما قلّت كتلة الثقب زادت حرارته، وبالتالي زاد انبعاث الاشعاعات منه، الى ان تتبخر تماماً فيكون حالها كحال سائر مناطق الكون العادية.

مع ذلك فلحد الان لم يتمكن احد من رؤية هذه الثقوب ولا التحسس باشعاعتها المفترضة وفقاً للحسابات الرياضية التي أتى بها هوكنج؛ لا ضوئياً ولا حرارياً، فقد جاب الفلكيون بحثاً عن مثل هذه الاشعاعات لكن دون جدوى، اذ لم يجدوا اي من هذه الاشعاعات المركزة في نطاق اشعة جاما. لذا تبقى قيمتها تعود الى التحليل الرياضي الصرف مع بعض الادلة غير المؤكدة، وبالتالي فهي مازالت مقبولة لدى غالب الفيزيائيين الى يومنا هذا.

ان التشابه بين المفردتين الثقبية والكونية البدئية جعل هناك من يقترح بأن الكون كله قد يكون واقعاً في ثقب اسود عملاق، كالذي افاده ويلر. كما رأى الفيزيائي سمولين ان ظروف الإنفجار العظيم تتشابه مع مراكز الثقوب السوداء، وعليه اقترح ان كل ثقب اسود هو نواة لعالم جديد يخرج للوجود عبر إنفجار هائل، لكنه محتجب عن انظارنا للأبد من خلال أفق حدث الثقب الاسود.

وعلى عكس ما ذهب اليه ويلر وسمولين فان كل هذه التشابهات والتماثلات بين ظروف المفردتين الثقبية والكونية البدئية لم تبرر للفيزيائيين ان تكون لوازمهما متحدة او متماثلة. فبين هاتين المفردتين فارق كبير في النتائج المترتبة عنهما. فالمفردة الثقبية تبتلع ولا تنفجر او تتمدد، فيما ان المفردة الكونية تنفجر او تتمدد، وحتى الاشعاعات التي تبثها المفردة الثقبية وفقاً لحسابات هوكنج فانها تعتبر شحيحة جداً الى درجة انه يستحيل اكتشافها تجريبياً، لذلك فانها تختلف تماماً عما يحصل في حالة المفردة الكونية من الهيمنة الاشعاعية.

يبقى ان هناك فرقاً ضمنياً لدى المفردتين، فالمفردة الثقبية توصف بانها بالغة البرودة الى درجة انها تقترب من الصفر المطلق، فمثلاً ان الثقب الاسود ذي الكتلة الاكبر من الشمس ثلاث مرات له درجة حرارة صغيرة جداً، فهي اعلى من الصفر المطلق بحوالي جزء من مائة من المليون درجة. فيما ان المفردة الكونية بالغة الحرارة بما لا يعادلها اي ظاهرة حرارية في الكون. وبلا شك ان هذا التمايز هو ما يبرر للفيزيائيين القول بان المفردة الكونية وظروفها التالية تحمل من الطاقة الحرارية ما لا تتحملها قوة الجاذبية؛ قبل وبعد تحررها او تميزها عن وحدة قوى الطبيعة المعروفة، لذلك حصل الانفجار او التمدد لتفوق الطاقة الحرارية على الجاذبية. فهذا هو ما يفسر لماذا حصل الانفجار او التوسع في حالة ظروف المفردة الكونية فيما انه يحدث العكس في حالة المفردة الثقبية. ولو اننا عولنا على النظرية القائلة بان الكون بدأ بارداً للغاية وليس حاراً كما هو السائد، او ان المفردة فيه قد اتصفت بالبرودة القصوى، ففي هذه الحالة ستكون ظروف المفردة الكونية مشابهة لظروف مركز الثقب الاسود او المفردة الثقبية، وعليه سوف يمتنع ان يكون هناك انفجار في الكون الاولي او توسع وتضخم. وان كانت هناك اعتبارات قد تعيد الثقة بان الكون قد نشأ نشأة باردة، او انه يتصف بالازلية والتراوح بين البرودة والسخونة عبر دورات مستمرة من دون انقطاع.

لقد سبق ان قلنا بان النسبية لم تتمكن من حل مشكلة التفرد؛ سواء في حالة الثقوب السوداء او في حالة النشأة الكونية. فمن الناحية الرياضية تتصف المفردة بطاقة وكثافة لا نهائيتين. وفي حالة النشأة الكونية ان التمدد يفترض التفرد كمنطلق، والتفرد يقتضي اللانهاية ومعضلتها الرياضية، لذلك تبطل النسبية عند هذه النقطة الفريدة.

***

ان معضلة المفردة البدئية لا تقتصر على الجانب الرياضي للتحاليل الفيزيائية، انما هناك مشكلة اخرى فلسفية تلوح النظريات الكونية عموماً والنسبية العامة خصوصاً، فالسؤال الميتافيزيقي يطرح نفسه من اين اتت المفردة الكونية وكيف تولدت وهي تحمل في جعبتها طاقة الكون الضخمة كلها؟

لم يكن لدى النسبية ما تتحدث عنه قبل تلك المفردة المعقدة غاية التعقيد. فليس باستطاعتها ان تتحدث عن فضاء وزمان سابقين ومقترنين بالطاقة المضغوطة باعلى مستويات الضغط الكوني الهائل. فالزمان والمكان مقترنان بالطاقة والمادة، واذا لم يكن من الممكن تقسيم المفردة او الرجوع بها الى حالة ابسط، اذ كل ذلك يفضي الى التسلسل اللامتناهي، فانه ليس من الممكن ايضاً الحديث عن زمان ومكان سابقين، وبالتالي ليس من سبيل سوى افتراض ان المفردة قد ولدت من العدم التام، وبالتعبير الرياضي انه قد ولدت من الصفر المطلق؟

ليس من شك ان عصر اينشتاين كان يعتبر الحديث عما يسبق المفردة هو من القضايا الفلسفية والميتافيزيقية التي ليس لها علاقة بالعلم. فالعلم رهين بوجود الواقع الفيزيائي، وان هذا الاخير متشكل من الزمكان والطاقة، فاذا ما كان هذا التشكل صفراً فانه ليس هناك واقع فيزيائي، وبالتالي لا مجال لأن يكون هناك علم بالتبع.

فهناك قلق يعبر عن كيف يمكن للعدم او الصفر المحض ان يولد شيئاَ مهولاً من الطاقة الضخمة لدى حيز ضيق للغاية من نقطة الفضاء، هكذا فجأة من دون مرور بوسائط تطورية تسمح بتجمع الطاقة الهائلة، ومن ثم تفترض شيئاً من الفضاء الواسع؟ كيف امكن ان تكون هناك نقطة تحمل كل شيء كوني دفعة واحدة، وهي غير قابلة للانقسام والارتداد؟ ان هذه النقطة او المفردة ليست بالامر البسيط، فهي تحمل طاقة الكون كله بقواه المختلفة، فكيف تولدت فجأة من لا شيء؟ كيف امكن للصفر ان يولد عدداً، مثل ان يولد واحداً مركباً ابلغ حالات التركيب، حيث يحمل في طياته اعداداَ لا متناهية من الكسور الحدية؟.

فباعتبار ان المفردة تمثل شيئاً واحداً، وفي الوقت ذاته انها مركبة ابلغ حالات التركيب من الطاقة الضخمة، فهذا يعني ان الصفر المتمثل بالعدم قد انتج ما لا نهاية له من دون مرور بالارقام التصاعدية..؟

انه وفقاً للنسبية لا مجال لافتراض شيء من الفضاء والزمان السابق للطاقة والكتلة، وبالتالي فوجود المفردة بطاقتها الضخمة هي البداية الاولى لصنع الزمكان، فهي تمثل زمكاناً كمونياً خالياً من الابعاد الفعلية. فالمفردة هي النقطة الفضائية الاولى غير القابلة للتقسيم والارتداد رغم كونها تحمل طاقة الكون كله.

يا للمفارقة.. فكل هذه الطاقة قد جاءت دفعة واحدة من الصفر من دون تفكيك، اذ لا مجال لافتراض ان تكون المفردة ذات طاقة ضئيلة جداً، او باردة للغاية.

والنتيجة هي ان خلق الكون من لا شيء يعني خلق ما لا نهاية له من الصفر المطلق. فالعدم يساوي صفراً، ووجود الشيء يساوي واحداً، لكن هذا الشيء ليس بسيطاً وهو يحمل تلك الطاقة الضخمة للغاية، وبالتالي فالواحد هنا هو تعبير عن اللانهاية، وهو ما يعني ان من الصفر ينتج الواحد اللامتناهي، فعملية المرور من العدم الى الوجود هي مرور سلسلة لا متناهية من الطاقة، وهو ما يجعل المشكلة ميتافيزيقية.

هكذا لم يتبين وفق نظرية المفردة الكونية من اين اتت الطاقة الضخمة الى الوجود رغم عدم وجود ابعاد زمكانية. فهي من هذه الناحية تثير مشاكل ميتافيزيقية، وتبطل عندها المعادلات والقوانين العلمية؛ طالما انه ليس لها معنى محصل بحسب الفهم الفيزيائي. لذا ليس من الغريب ان يبدأ العلم الفيزيائي بقوانينه المعروفة من لحظة ما بعد المفردة. فاول لحظة معتبرة لدى الفيزيائيين هي ما تعرف بزمن بلانك (10-43 ثانية)، وهي اقل فترة زمنية محسوبة على الاطلاق، ومن حيث تاريخ الكون يمثل زمن بلانك اول لحظة مقررة فيزيائياً دون ان يسبقها لحظة مستقلة سوى المفردة، وتقدر درجة الحرارة عندها بحوالي (1032 كلفن)، وفي هذه اللحظة بدأت الجاذبية بالتحرر قبل بقية قوى الطبيعة المعروفة (الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والشديدة)، ومنها بدأ الكون يتمدد ومن ثم يبرد ويزداد توسعاً بالتدريج مع اضطراد الزمن.

 

ان من المبرر للفيزيائيين ان يعتبروا الكون في زمن بلانك هو بداية الانفجار العظيم. لكننا نتفاجأ عندما نجد الفيزيائيين موتز وهين يذكران بان علماء الكون قد بدأوا دراساتهم عندما كان عمر الكون (10-35 ثانية)، فهذه هي البداية وليس بالامكان الرجوع الى ما قبلها، فهي بنظرهما تمثل لحظة الانفجار العظيم.

والحقيقة ان هذه البداية ليست مقنعة، فقد سبقتها حقبة زمن بلانك التي منها بدأ الكون بالتمدد بعد تحرر قوة الجاذبية واستقلالها، بمعنى ان في هذه الحقبة بدأ الزمكان بالظهور والتمدد بابعاده الاربعة. وبحسب التحليل الفيزيائي ظهرت بعد هذه الحقبة لحظة ثانية مستقلة، وذلك عندما اصبح عمر الكون (10-35 ثانية)، حيث تناقصت عندها درجة الحرارة فاصبحت (1027 كلفن)، وفيها تحررت القوة النووية الشديدة عن سائر القوى. وليست هذه الحقبة هي بداية التطور الكوني او الانفجار العظيم، فكل ذلك كان متوقفاً على تحرر الزمكان الذي يمثل الاصل في التمدد الكوني، وهو ما يدين الى تحرر قوة الجاذبية واستقلالها، كالذي حدث خلال الحقبة الزمنية الاولى المتمثلة بزمن بلانك. اما قبل هذا الزمن فيفترض انه لم يحدث شيء مميز سوى وجود المفردة بطاقتها اللانهائية.

***

 لقد افضت مشكلة التفرد الى ان تقوم نظريات عديدة بالالتفاف عليها ضمن معالجات افتراضية مختلفة، وذلك تجنباً للدخول في متاهات القضايا الميتافيزيقية، فضلاً عن العمل وفق القوانين الفيزيائية المتعارف عليها من دون شائبة. وقد اتخذت حالات الالتفاف والنفي اشكالاً مختلفة، منها نظرية القفزة الكمومية، وهي تفترض ان الكون انبثق دفعة واحدة كقفزة من الفراغ المتصل او الزمكان اعتماداً على نظرية الكوانتم. فالكون بهذا الاعتبار قد نشأ من لا شيء، وأصل الفكرة يعود الى ايام الحرب العالمية الثانية، ثم تم تطويرها بداية سبعينات القرن الماضي، حتى توجت اخيراً لدى لورانس كراوس حالياً. وبلا شك ان هذه النظرية قد تجاوزت اعتبارات النسبية العامة، حيث تقوم على زمكان مينكوفسكي الخالي من الجاذبية وترتبط بالنسبية الخاصة وهندستها الاقليدية.

كما منها نظرية عدم التحديد لهارتل وهوكنج، اذ تفترض بان الكون نشأ من دون بداية محددة ولا زمن محدد، فالبداية منبسطة وسط مجموعة من النقاط المتساوية بلا مركز معين، كما ان الزمن كان مجرد متصل مكاني.. فلا زمن موجود ولا مفردة محددة حتى يقال من هنا بدأ النفخ في النار او الانفجار العظيم. وتعتمد هذه النظرية على كل من النسبية والكوانتم، فمن خلال الاعتماد على النسبية تم التخلص من الزمان بتحويله الى مكان، كما من خلال الاعتماد على الكوانتم تم التخلص من اي مفردة معينة لنشأة الكون طبقاً لمبدأ عدم اليقين. فالبداية تنطلق من لحظة زمن بلانك، وقبلها لم تكن هناك لحظة زمنية ولا بداية محددة، فهناك نقاط غير قابلة للتحديد وفقاً لإحتمالات الكوانتم، وهي تعبر عن المتصل المكاني الرباعي قبل نشأة الزمان.

لكن من المعلوم ان زمن بلانك يمثل اللحظة التي تحررت فيها الثقالة او الجاذبية من سائر قوى الطبيعة المعروفة. وبالتالي يقتضي ان يبدأ الامتداد المكاني من هذه الحقبة لا قبلها، الا اذا اصبحنا نتحدث عن زمكان مينكوفسكي المعدوم الثقالة، وهو ما ابطلته النسبية العامة.

كما هناك نظريات التفاعل التي تفترض بان كوننا قد نشأ بفعل التصادم او الاتحاد بين اشياء موجودة سلفاً، من دون حاجة لافتراض التفرد. فبعض النظريات ترى بان كوننا هو نتاج انفجار ضخم حصل بفعل تصادم فقاعتين كونيتين فنتج عنهما كوننا الحالي، كالذي يخمنه جماعة من اصحاب نظرية الاوتار. كما تفترض نظرية اخرى بان الانفجار حصل بفعل اتحاد جسيمات ثقيلة جداً سميت اونيتونات، فقد تولد من هذا الاتحاد جسيمات النكليونات – كالبروتونات والنترونات - في الوقت الذي تخلف عن ذلك انفجار عظيم هو سبب نشأة الكون، وتعود هذه النظرية الى الباحث الفيزيائي موتز، حيث اعتقد بان من الممكن ان يتكرر هذا السيناريو في المستقبل من دون حاجة لافتراض مفردة بدئية. لكن هذا التقدير لا يحظى بموافقة النظريات الفيزيائية الاساسية، كالنسبية والكوانتم، فكما عرفنا بان النسبية ترد الكون الى المفردة كنقطة اخيرة من دون امتداد ولا تباعد جسيمات او اتحاد فيما بينها، فيما ان الكوانتم تشير الى حالة التراوح الكمومي وفقاً لمبدأ عدم اليقين، وهو ما جعل الكون ينبثق من العدم..

كذلك هناك نظريات الارتداد الكوني، وتفترض ان للكون دورات ازلية يمر بها من خلال نقطة ارتداد بلا حاجة للاخذ بفكرة التفرد. فعند العودة بالزمن الى الوراء يصل الكون الى ادنى حجم له ثم يتمدد مجدداً. وقد كان عالم الكونيات الروسي زلدوفتش Zeldovich (1914-1987) يرى بان الكون يتوسع وينكمش ثم يعود فينفجر بالتوسع وهكذا الى ما لا نهاية له، وفي كل مرة يزداد حجمه ويدوم اكثر. وقد جاءت هذه النظرية للتخلص من مشاكل نظرية الانفجار العظيم، لكن زلدوفتش اعترف عند تدليله على نظريته الارتدادية انه اخفق وان الكون الارتدادي لا يصلح حلاً لمشكلات الانفجار، بل انها تتزايد باستعماله.

ثم تكررت مثل هذه المحاولة لدى اصحاب نظرية الاوتار، وذلك بالاستعانة بزمن وحيز فيزيائيين ضيقين ونهائيين للغاية مع وجود كتلة وطاقة يحملانها، وهو زمن بلانك ومسافة بلانك او حجمه كأقصى حدود الانطلاق الزمكاني. وبالتالي فكل حركة وانتقال وتغير وتأثير لا يمكنها ان تتجاوز هذه (الحدود البلانكية). فمن خلال هذه التحديدات يمكن التخلص من القيم اللامتناهية، كما يمكن التخلص من فجوة ظهور الحادثة من لا شيء.

وتقتضي نظريات الارتداد ان يكون الكون ازلياً من دون بداية ولا نهاية محددة.

اضافة الى ان هناك نظرية الثبات الكوني (الحالة الثابتة) التي تعود الى عدد من الفيزيائيين ابرزهم فريد هويل، وهي لا تعترف بوجود مفردة كونية، بل تسلم بان الكون ازلي غير متناه في زمانه ولا فضائه، وهو من هذه الناحية ليس بحاجة الى افتراض مفردة ولا الى انفجار عظيم. وقد كانت هذه النظرية جذابة وشائعة لدى الفيزيائيين لمدة عقود قبل ان يتم التخلي عنها منذ منتصف ستينات القرن الماضي، وذلك بعد اكتشاف اشعاع الخلفية الكونية الدال على ان للكون بداية تتمثل بالمفردة.

هذه هي مجمل النظريات التي التفّت على نظرية المفردة الكونية او انكرتها، وكلها تمثل سيناريوهات تخمينية مفترضة دون ان تمتلك ادلة فيزيائية معتبرة..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم