صحيفة المثقف

يسري عبد الغني عبد الله: الطريق إلى امتلاك مفاتيح المعرفة

yousri abdulganiيرى العلماء العارفون، والدعاة المخلصون أن عالمية الإسلام وقدرته على التعايش مع كل الحضارات والثقافات، في جميع الأزمنة والأمكنة تفرض على كل من يتصدى للحديث عن الإسلام وقضاياه أن يكون متسلحاً بكل ما في عصرنا من علوم ومعارف، مع ضرورة الوعي في هذا السياق بأن هناك مسئوليات تقع على عاتق الأمة الإسلامية لتقوم بدور يليق بمكانتها .

نقول : إن قضايا أي مجتمع تنبع من ظروف المجتمع نفسه، وعلى المفكر والمصلح أن تكون عيناه على أحوال المجتمع ليستخرج منها القضايا التي يجعلها محوراً لتفكيره واهتماماته، وهذه قسمة من قسمات الفكر الإسلامي الواعي المستنير، والذي يهتم بتنزيل الأحكام على الواقع المعاش، ذلك لأن من خصائص الفكر الإسلامي المعالجة الواقعية لأحوال الناس، بحيث تكون الأحكام متفقة مع ما يكفل الإصلاح لأحوالها، فإذا بعد المفكر عن هموم الناس، وانشغل بالقضايا الفرعية وبالجزئيات انصرف الناس عنه وعن فكره .

لذلك فإن أهم المسئوليات التي يجب أن تنهض الأمة بها في سبيل النهوض والتقدم إيقاظ الوعي، وإشاعة الفكر الصحيح المستنير الصانع للرقي و التحضر، وبالتالي تقدم الأمة بوجه عام .

*

وفي رأينا: إن تلك قضية لا خيار للأمة الإسلامية فيها، ذلك إذا التزمنا بأساليب العصر الذي نحياه وسبل التقدم ـ في عالم يقفز قفزات غير مسبوقة في طريق العلم والتكنولوجي ـ والتزمنا كذلك بقواعد وأساليب وآفاق ومستحدثات تتغير وتتقدم كل يوم بل كل ساعة، وأدركنا أننا نعيش في عالم يتجمع ليقوى، ويتوحد ليغزو ويسيطر ويهيمن، ويتسلح بالعلم ليتقدم، ويتعاون في مجال التعليم والمعلومات ليضع الأسس، ويرفع المستوى البشري ليزيد من صلاحيته، عالم يجب أن نفهم أنه يحترم البحث العلمي والتطوير والابتكار ويسعى للتكامل بينها ليضيف إلى سرعة التقدم، سرعة الإنجاز والجودة، والشفافية، والتنافسية، والإدارة المبدعة .

عالم يتوحد من أجل امتلاك القدرة على الإنتاج الضخم القادر على التنافس لينتشر على وجه الأرض بدون حرب، ويغزو بغير سلاح إلا سلاح العلم والمعرفة والبحث .

*

إن التقدم قضية لا تتصادم مع الدين بل أنه يكرسها، ويعلن أنه لا جدوى من الإيمان المجرد دون أن يقترن بالعمل الجاد ورفع كفاءة الفرد الذي بذلك يكون مؤمناً صالحاً بحق، تلك صورة تمثل تأثير الدين القيم الذي يوجه الإنسان لحماية الإنسان في كل زمان ومكان، مما يؤكد معنى دعوة الإسلام إلى أن العمل الصالح يرفع من قدر الإنسان وقيمته .

والعمل الصالح بمفهومه الأعم هو العمل المجود المتقن الذي يلتزم بتقوى الله عز وجل، وينفع الناس، ويضيف إلى حياتهم كل الخير، اغترافاً من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، وفضله العميم، واستجلاء للحقائق، وانفتاحاً على الحضارات، واستفادة بجهد الآخرين، وذلك تأكيداً لمبدأ جدوى النقل الذي لا يفسد العقل .

نقرأ عن تلك الاتجاهات التي تدعو إلى الجهاد في عصرنا الحديث، مؤكدة على أن الجهاد فريضة معلومة دائمة في كل وقت .. ونحن نقدر هذه الاتجاهات ونحترمها، ولكن لا بد لنا من تحديد: أي نوع من الجهاد نقصده في هذا العصر الذي نعيشه؟ .. نرى أن الجهاد فريضة ملزمة على المسلم في كل زمان ومكان، الجهاد بالعلم والمعرفة، والسعي إلى التقدم والتحديث، ليبقى الإنسان المسلم ودينه ورسالته غاية في الأمان المدعم بالقوة حتى لا يتمكن أحد من إضعاف عقيدتنا، أو الإخلال بفكرنا الوسطي المعتدل، أو نهب اقتصادنا، أو تبديد طاقاتنا، أو تشتيت شملنا .. بالعلم والاتحاد والوعي والتخطيط السليم نستطيع أن نواجه هؤلاء الذين يتصرفون في مستقبل الأرض ومصائرها، كأنهم أولياء على الأرض كلها، وظنوا في غيهم أنهم قادرون عليها . !

*

وإن كنا نريد الفلاح لأنفسنا ولأمتنا فعلينا أن ننجح فيما نواجهه ونجابهه من تحديات، وننجح في حل ما نعاني منه من معضلات، ولن يكون الحل ناجعاً أو المواجهة مجدية إلا إذا أدركنا جيداً ضرورة التقدم والاستفادة من كل ما أنجزته العلوم الإنسانية، وأبدعته طرائق البحث العلمي، وأنتجته أساليب الإدارة الحديثة بصرف النظر عن مصدرها، وقد دعانا الإسلام إلى أن نأخذ العلم من أي مكان في العالم مهما بعد عنا، وعندما نأخذ علينا بالانتقاء، بالاختيار، نأخذ ما يفيدنا، ما يرتقي بنا وبأمتنا إلى الأحسن وإلى الأفضل، واضعين في الاعتبار أننا نعيش في زمن سحب اعترافه من الغافلين والمتواكلين والمترددين، زمن قرر أنه لا مكان فيه لمن لا يعمل ولا يعرف ولا ينتج .

مطلوب منا قبل كل شيء إعادة ترتيب بيت الوطن الإسلامي، وترابطه من الأساس، أملاً في رفع مستوى الحياة للشعوب الإسلامية كافة، وتحسين أحوال معيشتهم لتحقيق الرخاء المبني على التقدم، وهذه مسئولية أهل الفكر والنظر، أهل الحل والعقد .

*

لقد كانت الأمة الإسلامية عند توحدها، أمة رائدة في البحث والفكر، ولكنها عندما أصيبت بالجمود والتوقف عن الإبداع والجدية والاجتهاد، وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من حالة لا يرثى لها .

نعم، لقد تفوق علماء المسلمين الأوائل، وكانت كتبهم وأبحاثهم مفتاحاً للمعرفة، بل أساساً للنهضة الغربية المعاصرة .

إن من أهم النقاط المضيئة في الإسلام : أن أول كلمة نزلت على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) هي كلمة (اقرأ) ويقصد بها أخذ مفتاح المعرفة، ونلاحظ أن هذه الكلمة تكررت في السورة نفسها .

تبين أولاهما { اقرأ باسم ربك الذي خلق } بمعنى : امتلك مفتاح المعرفة كعالم الشهادة، وعالم المخلوقات التي في كل ما حولك، اقرأ كتاب السماء، وما في السماء من أبراج ونجوم، اقرأ كتاب الأرض وما فيها من بحار وأنهار ومحيطات، وما في جوفها من معادن وزيوت، واقرأ ما حولك من كتاب الطير وهن صافات في رحاب السماء الصافية اللازوردية، لا يمسكهن إلا الله الواحد الأحد، القادر القدير، واقرأ علم النبات والحيوان .. كل هذا يعني توجيه الإنسان إلى معاني الشهادة، حتى يملك الإنسان أسباب الرقي والتفوق والتقدم .

أما ما يتصل بعالم الغيب فلسنا مكلفين بقراءته أو الخوض فيه، لأن القرآن الكريم نفسه قرر في وضوح لاريب فيه أن الله تبارك وتعالى سيتولى إحاطة نبيه علماً، بحيث قال في الأمر الثاني: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم } .

*

نقرر هنا أننا إذا كنا ندعو إلى الانفتاح على الآخر إيماناً منا بأن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، ونتبادل الآراء والخبرات والتجارب والأفكار والمنافع من أجل واقع أفضل لنا ولذوينا، إن كنا ندعو إلى ذلك فإنه من الضروري الحفاظ على هويتنا، على ذاتيتنا في مواجهة محاولات الانمياع، أو محاولات إذابتنا في ظل العولمة و تجلياتها، ومن أهم الوسائل التي نقترحها للحفاظ على هويتنا ما يلي : ـ

(1)     إعلان الاعتزاز بالهوية الثقافية العربية الإسلامية، والدعوة الدائمة للحفاظ على قيمنا وتقاليدنا وأعرافنا وأخلاقنا، وذلك حتى لا نهملها .

(2)     أن نحذر مسألة التقليد الأعمى الضار الذي يفعله كثيرون منا، ويمضون في إثر الحضارة الغربية، والسلوكيات الوافدة إلينا التي لا تتفق مع مبادئنا ومثلنا، مع أعرافنا وتقاليدنا، و الأهم من ذلك عقيدتنا السمحة المعتدلة .

(3)     ضرورة أن نشجع الدراسات والأبحاث والكتابات التي تلقي الضوء الساطع على كل الإيجابيات التي تحفل بها الحضارة الإسلامية، من أجل أن نجعل المواطن المسلم يعتز بدينه وعقيدته وتاريخه وحضارته .

وغني عن البيان أن الوسائل السابقة هي دور وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، أضف إلى ذلك المؤسسات العلمية والثقافية والدينية في بلادنا، ولا ننسى أهمية (الإنترنيت) في ذلك حيث أنه من الممكن إنشاء العديد من المواقع التي تدعو إلى الحفاظ على هويتنا الإسلامية .

*

وعبر هذه السطور نطالب بضرورة بث روح التفاهم والتعاون بين الأديان لخدمة الإنسان في كل زمان ومكان .

يقولون ويكتبون : إن الغرب يتخوف من الإسلام، وهذا في رأينا خوف ـ إن وجد ـ فلا مبرر له على الإطلاق، لكن حقيقة المشكلة أن الغرب نفسه يعيش اليوم متأثراًَ بالظروف التاريخية التي أدت إلى الحروب الصليبية بينه وبين المسلمين، وهي حرب سياسية اقتصادية أساسها المصالح المنافع، وليست حرب دينية بأي حال من الأحوال، ويحرص الذين أشعلوها على إثارة العدوان والأحقاد بين أبنائهم ليظل يكرهون الإسلام، ويحقدون عليه، وعلى أتباعه، ولو فهموا الإسلام جيداً لوجدوه دين الحب والسلام والتعاون واحترام الآخر .

على كل حال فنحن لا نعجب إذا رأينا باحث مثل (صموئيل هنتجتون) مؤلف كتاب (صراع الحضارات)، والذي صدر عام 1996 م، يتحدث عن الإسلام، ويتنبأ بأن بؤرة النزاع في المستقبل سوف تكون بين حضارة الغرب من جانب والحضارة الإسلامية من جانب آخر، وعلى الغربيين أن يفرغوا من الإسلام في الألفية الثالثة (القرن الواحد والعشرين) .!!

ولا عجب أيضاً أن يأتي هذا الكلام في أعقاب ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق / ريتشارد نيكسون، عندما تنبأ بأنه سوف يحدث صراع حتمي بين الغرب والعالم الإسلامي .

كذلك نتذكر جيداً ما صرح به أمين عام الحلف الأطلنطي بعد فترة من انهيار الاتحاد السوفيتي حيث قال : إن الإسلام هو الخطر القادم أو العدو البديل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي .

وقالوا في الغرب أيضاً : إن أمريكا انتهت من العدو الأحمر (روسيا)، ولم يبق أمامها إلا العدو الأخضر (الإسلام) .

وأخيراً : يجب ألا نشغل أنفسنا بنظرية المؤامرة علينا في كل وقت، فخير مواجهة لكل ذلك العلم والعمل والاتحاد، علينا أن نتكاتف عملياً بعيداً عن المقولة الساخرة التي نرددها (لقد اتفقنا على ألا نتفق)، علينا أن نتكاتف من أجل إظهار عطاء الأديان التي منطلقها الحب والخير والحق والعدل والمساواة والجمال، هذا العطاء الذي هدفه خدمة الإنسان في كل زمان ومكان بعيداً عن العنف والتطرف والتعصب والكراهية .

ونختم كلماتنا والأمل يحدونا في أن نضع الأيدي في الأيدي، لنتعاون ونتضامن ونتعارف فنكون جميعاً شركاء في الحياة، شركاء يظللنا الإخاء والتسامح والسلام والمحبة، بدلاً من أن نتعادى ونتناحر، شركاء يوظفون كل طاقاتهم لخير الإنسان و سعادته .

والله ولي التوفيق،،،

 

د . يسري عبد الغني عبد الله - باحث وخبير في التراث الثقافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم