صحيفة المثقف

الحبيب بالحاج سالم: الظواهر والجواهرأو سيمياء الجمال.. سيمياء

المرأة.. قراءة في نص "شال" لسعيد عقل

شال... / سعيد عقل

مُرخىً على الشعر شالْ

لرندلى

هلا هلا

بِهِ، بِهَا، بالجمالْ!

*

من؟ يا حَبَابَ الكؤوسْ

من جمّلك؟

من فصّلك

حلواً كحُلْم العروسْ؟

*

لم ثِنْيَةٌ تشتكي

ثم تغيبْ؟

هِمْ، يا جيبْ

بلونِيَ الليلكي

 

هِمْ لا تُقَرِّبْ يَدَا

هِمْ بالنظرْ

أبقى الأثرْ

ما لم يزل مُوصَدَا

*

يا طيب شال تُلم

عنه النّجوم

وبي هموم

لأن يرى أو يشم

*

قيّض لي موعد

في ظلّ شال

ترى الخيال

سكنى ومستنجد؟

*

ما لي سألت الزّهر

عن منزلي؟

فقيل لي:

"هناك خلف القمر"

سعيد عقل: شعره ونثره، المجلد الثاني، دار نوبليس، ص ص 103/104/105

........................

" إنّ النظر إلى الشيء ورؤية ذاك الشيء لهما عملان في غاية الاختلاف" .. (أوسكار وايلد)

الجمال حالة في الأشياء، حسّية و"معادية" للحسّ والحواسّ، ومتوسلة بالحسّ والحواسّ. وهو أيضا حالة فنّية وإن بدت حالة طبيعية، كما هو شأن الأشياء وهي تتبدّى لنا في الطبيعة (المرأة والمرأة لوحة أو قصيدة، أو الزهرة في حديقة والزهرة بريشة فنان...) ولذلك ينزل منه الناس منازل، فيقف بعضهم منه في درجة الراحة والذوق والتلذذ، ليكون عندهم موضوع رغبة بل شهوة، ويقف بعضهم منه في درجة الذّوق القائد من التحسّس البصري والذّوقي، إلى التأمّل فالإدراك الغيبي المجرّد، البعيد، المتعالي، السماوي، الإلهيّ، المطلق...

 ومن يقبل على "الأشياء الجميلة" إقبال الراغب، لا يراها جمالا، فيقف بنظرته عند حاجز الرّغبة، ومن يقبل عليها إقبال الراهب فهو المدرك للجمال الكامن فيها، لتكون عندئذ رمزا، ولا قيمة لها في ذاتها بل في ما تعنيه من المفاهيم المجردة.

ويبدو لنا أن عقلا واقع في منزلة بين الرغبة والرهبة، وبين الإحساس بالجمال ومعرفة الجمال.وهي منزلة غير ثابتة، لأنها تجربة ضرورية وامتحان إجباري للارتقاء إلى منزله "خلف النجوم.."

وهو أيضا، في موقفه الجمالي، منطلق من رؤية ذاتية خاصة يحولها الفن (الشعر) رؤية كونية عامة، ليكون قائدنا إلى ما خفي عن أبصارنا وبصائرنا وأذواقنا المحدودة ورؤانا التي تتحجب عنها جواهر الظّواهر. وهو، إذ يعلم أنه عيننا وهو يرى الأشياء، يدرك أن ما "يقوله" ليس ماثلا في موضوع القول والوصف، وليس من الموضوعات المنطقية المحكومة بمعايير الصدق والكذب (الماصدقية)، وإن كان يتوسل من الصور بما يتمتّع بقوة مرجعية إحاليّة أو موهمة بالوجود "الموضوعي"، وإنما هو، أي القول، وليد فعل إنشائيّ إبداعي، نخلص فيه من جمال إلى جمال، أي من جمال القول الشعري إلى جمال الموضوع الشعري (الشال/المرأة/الجمال جوهرا/الله صورة مطلقة للجمال المنتشر في الكون والمنصهرة عناصره في موضوع جميل أو رمز جمالي عظيم هو المرأة.)

ويعنينا أن نقرأ النص العقليّ وهو يصور التجربة الوجدانية الجمالية التأملية في تناميها، وقد تفاعلت في بنائها مكونات الخطاب إيقاعا ولغة وفكرا ومعتقدا وفلسفة جمالية مشبعة متنوعة ضاربة في عمق اليقظة الروحية المتوثبة التائقة إلى ما "خلف النجوم."

واللافت في بنية الخطاب الشعري العقلي هنا، هو اجتهاده البارز تحقيقا لجمال يقود إلى جمال، أي جمال الشعر وجمال المرأة..خطاب على خطاب أو علامة على علامة، صعودا إلى المعنى الأكبر..

لذلك مزنا بين "الظواهر" و"الجواهر" إيحاء بإشكالية العلاقة بين ما تلتقطه الحواس من علامات وما يتشكّل من "معنى" في ذهن الناظر إلى الأشياء..والإشكال المقصود يتعلق بالتّدلال أي سيرورة انبناء المعنى ، بحسب "قراءة" الناظر إلى الشيء..

كذا نظر عقل إلى "الشّال" باعتباره علامة متحرّكة متحوّلة، رمزيّة منزّلة في فضاء سيميائيّ واسع، كونيّ...

ويبدو مطلع النصّ وإن كان مقاما من مقامات الجمال أو رتبة إدراكية دنيا في رؤيته ونقله إلينا، اختزالا لطيف للسّيرورة العرفانيّة من منشئها إلى مستقرها ومنتهاها.ولك أن تنظر في ترتيب العناصر التالية في "المطلع" كم هي متراتبة متحاملة متعامدة:

أ) به

ب) بها

ج) بالجمال

وهكذا يتجلى المنطق العامّ الحاكم رؤية الشاعر وهي تلتقط الجزء (شال لرندلى) ليكون "معناه" فيه وفي صاحبته، لأنه منها إليها، ويكون صورة الجمال الحسّية المتشكّلة المتحقّقة المدركة بمختلف الحواسّ..

وعقل، إذ يصف الشال، يرى صاحبته، فيرقى من الجزء إلى الكلّ، ثم من الكل إلى كلّ الكلّ، أي من المعنى(الشال الجميل، المرأة الجميلة) إلى معنى المعنى (الجمال مفهوما مجردا نستدل عليه بما تشهده حواسنا وتنفعل به نفوسنا وتهتز وتطرب فتتوق إلى ما خلف العلامة..ما "خلف النجوم..")

 

1) الجمال حالة وجودية مدركة

منشأ النص حالة إدراكية يتشكل بها موضوع الإدراك، متعلقا من متعلقات موضوع أكبر (الشال/رندلى)، فلا يكون إلا بها ولها، ولا تكون في هذه اللحظة الإدراكية إلا به (شال لرندلى).. وهو يُلتقط في حال ناتجة عن فعل جماليّ مقصود (مرخى على الشعر)..وهكذا تتشكل اللّوحة في تركيبها وتلازم عناصرها، فلا يكون للشال شأن إلا وهو "مرخى على الشعر" لا في أي وضع آخر، ولا يكون له من شأن إلا وهو لرندلى لا لأيّ كائن آخر..

كذا تكون الصورة الأولى متمتعة بأكبر قدر من الإحاليّة المعززة بالعَلَميّة (رندلى) المعيّنة للفرد باعتباره حضورا في العالم للجمال.

إلا أنّ هذه "الوصفيّة" الإنشائيّة سرعان ما تضمحلّ بجنوح الخطاب لإحاليّة ذاتية داخليّة من خلال "التعقيب" التعبيريّ (هلا هلا) المحدّد، رغم الطاقة التعبيرية الطافحة، "لبرنامج" الإدراك الجمالي والارتقاء فيه من مستوى أول (شال) إلى مستوى ثان(رندلى) فمستوى ثالث (الجمال) وبذا الاقتران نصعد من الأعيان الأفراد إلى المعاني بل معنى المعاني (الجمال) ماثلا في "الأشياء" الكثيرة والظواهر المنفصلة المتصلة، المردودة، بفضل الرؤية الجمالية، إلى وحدتها أو واحديّتها وجوهرها العلويّ (الجمال..)

مُرخىً على الشعر شالْ

لرندلى

هلا هلا

بِهِ، بِهَا، بالجمالْ

 

2) الجمال حالة في الأشياء، متشّكلة، مركّبة، مصنوعة.

يشتغل عقل بالجمال في هذا النصّ في مستويين : شعريّ /فنّي ودلاليّ فكريّ.ولا انفكاك لأحد المستويين عن الآخر، لانّ الأوّل سبيل إلى الثّاني، ولا وجود للثاني إلا بالأوّل. فالأشياء لا توجد، إنّما نحن نوجدها، على الهيأة التي نراها، ولنقل يوجدها الشعراء وغيرهم من المبدعين، ولهم في إيجادها استراتيجياتهم المختلفة ومواد صناعتهم الخاصة. وهم في ذلك "مؤوّلون" جاعلون من ألفاظهم (أقوالهم الشعرية) مدلولات لما رأوه في المستوى الأول من علامات، أي الأشياء باعتبارها علامات "فارغة" تملؤها الرؤية المتعالية عن بسيط المواضعات والاصطلاحات. وتتحوّل مدلولاتهم، وقد تشكّلت خطابيّا في أقوال، ضربا آخر من العلامات (نعني العلامات اللغوية المشكلة لنظام سيميائي مركب) المفتوحة لإنتاج المعنى المحكوم برؤيتنا وهي تنتج "المؤولات" المالئة للعلامات الفارغة.

لذلك نرى عقلا يتحوّل من الإحاليّة الإخبارية الخارجيّة إلى العلّيّة، فيتساءل عن الهويّة، هويّة الصّانع، صانع الجمال أو الأشياء الجميلة، لتكون على الهيأة التي عليها يراها حين إليها ينظر..

من؟ يا حَبَابَ الكؤوسْ

من جمّلك؟

من فصّلك

حلواً كحُلْم العروسْ؟

وهو يرى الشال منتشيا مماهيا بين ثناياه وحباب الكؤوس، فيكون للموضوع الجمالي أثره الوجداني الممثل للموقف الطبيعي البدائيّ من الجمال، يتطور أو يرتقي إلى رغبة في "علم بالجمال" من حيث أن وراءه صانعا وصناعة وسراّ بل أسرارا يراد علمها "لنفهم الجمال" ونكتشف كيف يكون له فينا ذاك السحر، فيصنع بنا ما يصنع، بالغا بنا درجة "السّكر الجماليّ.."

وليس سؤال عقل سؤالا ميتافيزيقيا، وإن بدا كذلك، إنما هو تعبير عن الحيرة والدّهشة والقصور الجميل عن فهم ما لا يُفهم، وعقل ما لا يُعقل، وحسب عقل أنه يحسّ وينفعل، ليصل إلى حالة إدراكية أرقى، متوسلا بأدوات ووسائط في العرفان، غير ما يتاح في المعرفة الحسية أو العلميّة أو العقليّة..

وفي الخطاب مؤشر ات مختلفة تتضافر لتوجيهنا إلى ذرى في وعي عقل بالظاهرة الجماليّة، يخرجها نسبيّا من "سرّيتها" أو لا معقوليتها. من ذلك أنّ من مقتضيات القول أنّ للجميل/الجمال صانعا يتمتّع بقدرة غير عاديّة، وأنّ سمات الجمال رهينة الفعل الجماليّ، وليست سمات "طبيعيّة" أو قبليّة. وبذلك يقف بنا عقل في صميم إشكاليات الجمال أو الجميل من حيث ماهيته وأصله، ويبني رؤيته على مصادرات معلومة في فلسفة الجمال المألوفة.

ويمكن أن نفصّل النظر في سؤال الهويّة هذا، وصولا به إلى مراق مجرّدة يوحي بها الخطاب في منتهاه.

والمهمّ في هذا المستوى من حركة النصّ أنّ للشيء عند عقل كونين: كونا أول يكون به في طور التشكيل والتشكّل، وطورا ثانيا يكون به في درجة الاكتمال والاستواء موضوعا جماليّا مدركا. وفي تضافر معنيي التكثير والجعليّة في بنيتي (جمّل/فصّل) ما يؤكّد أنّ الجمال عند عقل هو عمل تدريجيّ واع يقتضي خبرة وتمكّنا من أدوات الصناعة، صناعة الجمال. وهو إذن عمليّة "عقليّة" أو شبه عقلية، واقعة بين الإحساس المحض والعقل المحض..

إلاّ أنّ للاستفهام عن هويّة صانع الجمال بعدا أهمّ، هو البعد الشعريّ، لأنّ الجمال مردود لا إلى صانعه بل إلى رائيه، وفي هذه الحال يكون المتكلم هو صانع  الجمال وهو ينظر إليه فيراه، ويصوغ رؤيته شعريّا، فيجعلنا شركاء في إدراكه الجماليّ. وبذلك يتعدّد الموضوع الجماليّ الواحد من حيث أنه رهين اللحظة الإدراكية الذاتية الخاصة غير المتاحة إلا لذوي الرّأي والرؤية. فما كان شال رندلى إلا لأنه موضوع وموصوف وموجود ومتشكل خطابيّا، فاقدا لكلّ الخاصيات والسمات خارج الخطاب، وخارج أثر الخطاب المراد، أي أنه رهين التشكل الخطابيّ والتشكل القرائيّ معا..

وهذا التشكل الجماليّ الخطابيّ يتجلّى في الصورة المفتوحة المؤوّلة على ألف وجه، مادامت ضاربة في الذوق والخيال والتجريد:

حلواً كحُلْم العروسْ..

 

3) الجمال موضوع هياميّ...

يتطور الخطاب "تفصيلا" للموضوع الجماليّ (الثنايا/الثنية.) وتخييلا حواريّا يُتّخذ فيه الحوار سبيلا إلى بيان "الأثر" الجماليّ كما يراه عقل. وهو أثر يتضافر صوتا المتكلم والموضوع الجمالي(الثنية/الشال) لإبرازه من خلال عمل الاستفهام (لم ثنية تشتكي ثم تغيب؟) إيحاء بما في الحركة (حركة الشال/حركة المرأة) من فتنة في التثنّي والتأنّي ، توقع الأثر الهياميّ الذي يخرج على ضوابط العقل، فيكون ضربا من التيه والخبل بل الجنون، عشقا وفرط تعلّق..

وتأتي صيغتان طلبيتان تصريحا بالموقف المطلوب بإزاء الموضوع الجماليّ.فلايملك الماثل في حضرة الجمال إلا أن يهيم، إن أسعفته الرؤية ووجد السبيل إلى سرّ أسرار الجمال:

لم ثِنْيَةٌ تشتكي

ثم تغيبْ؟

هِمْ، يا جيبْ

بلونِيَ الليلكي

ويبلغ النص في هذا المستوى من التنامي الدلاليّ درجة عالية من التركيب والامتلاء، إذ تتكثّف فيه الأصوات وتتعاضد القوى الإنشائيّة استفهاما وأمرا ونهيا، تعبيرا عن الحيرة الجمالية كما سلف، واختزالا للموقف إزاء الجمال، وصرفا عن امتلاكه وتحويله موضوع استلذاذ واستمتاع..وفي تجاور العملين( هم، لا تقرب يدا)  تكثيف تركيبيّ للحظة دراميّة يقع فيها الماثل أمام الموضوع الجماليّ بين نزعتين: الأولى "بيجماليونيّة" (منبوذة) رغبة في معانقة موضوع الرغبة وامتلاكه، والثانية "هياميّة" (مطلوبة) تأمّليّة، متوسّلة "بالنّظر" في كلّيته الإدراكيّة..

هِمْ، لا تُقَرِّبْ يَدَا

هِمْ بالنظرْ

وحين يأتي "النّظر" بديلا عن "اللّمس" أو المسك، تمتدّ المسافة، مسافة التقديس والرّهبة، وتعلو في النفس قوى، فتتمكّن وترقى بصاحبها عرفانيّا إلى ما وراء الحسّ، وراء الموضوع الجماليّ الحاضر في العالم، إلى الموضوع الجماليّ الأكبر، الغائب...

ويضجّ النص بخطابات "متجادلة" متصارعة متقارعة متفاعلة داخل كيان المتكلّم، ويأتي الاحتجاج للهيام في شكل "قانون" تعلّقا بما يبقى من "أثر" مادام الطّهر هو الواقي من خيبة اللّذة العابرة:

أبقى الأثرْ

ما لم يزل مُوصَدَا

ويعمد الشاعر إلى مدّ درامية العلاقة بين المتكلم والموضوع الجماليّ، فيحتدّ التوتّر بين النّزعتين: الاتصال والانفصال، والرغبة والرّهبة، والتّدنيس والتّقديس، ويجد في المقابلة بين "النجوم" في عليائها ، وهي "تلمّ" عن موضوع الرّغبة، بما تعنيه النجوم من ترفيع وتنزيه، والمتكلّم والمحرّك "الأرضيّ" التّرابيّ "اليوسفيّ" الذي يوقظ الحواس والجوارح في نزوعها إلى امتلاك موضوع الرغبة :

يا طيب شال تُلم

عنه النّجوم

وبي هموم

لأن يرى أو يشم

وهو، إذ "يهمّ" به، يتردّد ويرتدّ، ويضعف ويشتدّ، ويكون بين حسّ جارف ونفس مستعففة، فيعيش المحنة القاسية، القاتلة المحيية، الواضعة الرافعة، ويسيتعيد"بطولات" العشّاق القدّيسين، ليتحرّر من المنزلة الانفعالية الحسّيّة إزاء الجمال، ناشدا منزلة أخرى، أرقى وأكمل وأنسب للذات الإنسانيّة في أصل معدنها وتركيبها..

لذلك نرى عقلا "يكتب" تاريخا للإنسانيّة في تطور وعيها الجماليّ، بدءا بالطور الحسّيّ الذي يعانق فيه الإنسان "الأشياء" الجميلة ويتملّكها بحواسّه، فينفعل بها وهو ينظر أو يلمس أو يشمّ..

وكذا هو في نظرته إلى المرأة/الموضوع الجمالي الأكبر في العالم، يقع منه دون "الهيام" فيتخذه "وثنا" صلبا بلا أبعاد. ولكن الصّوت يأتيه، في طور آخر من "نموّه" الجماليّ والرّ وحي والعقليّ، يردعه ويوجّهه و"يربّيه":

هم، لا تقرّب يدا...

وهذا من معانيه أنّ "تقريب اليد" هو دون الهيام، وأنّ الهيام هو السبيل إلى بلوغ المنزلة الأرقى..المنزلة التي يعبر فيها الإنسان من الحس إلى الخيال..درجة دون المطلق الجماليّ، أو خطوة في الطريق أو الصّعود إليه..

 

 

4) أمام الجمال...من الحسّ إلى الخيال

وحين تبلغ "الأزمة" أشدّها، تأخذ ملامح الحسّيّة في الخبوّ والخفوت، وتتضعضع الرّغبة في الإمساك بموضوعها، ويتحوّل اللّقاء بين المتكلم و"الشال" إلى "تقييض" عجيب لا يُعرف أو لا يُدرك من وراءه، إلاّ من حيث أنّه يريد بالمتكلّم سموّا، فأتاح له هذه المحنة، وضرب له موعدا، من حيث لا يعلم، مع الشال، وصاحبة الشال:

قيّض لي موعد

في ظلّ شال

ويغمر الشال الفضاء السيميائي ليصبح عنوانا له، ويمتدّ "ظلّه" (وفيوء الفردوس ذات الظلال...)وتنفتح للمتكلم أبواب الخيال، ليسكنه ويتخذه ملاذا من "الحسّ" ومعاذا، وتكون المسافة "المختارة" والانفصال المطلوب،  شرطا لتنامي القوى الرّافعة إلى الرّتبة السنيّة:

ترى الخيال

سكنى ومستنجد؟

 

5) "علم الجمال"...علم المنزل..المنزلة

تؤكد الرّباعية السّابعة والأخيرة أنّ النص كان، ليكون تجربة روحيّة جماليّة يمكن عقلها كما سلف، وهي ذات منطق وأطوار وخصائص. ومن أخصّ خصائصها أنّ عقلا يتّخذ من حبّ المرأة سبيلا إلى السّماء، إلى الرفعة الرّوحيّة والمنزلة الإنسانيّة المتعالية عن مألوف النّظر واللّهو. وهو في هذا جاعل من المرأة رمزا كونيّا أكبر، وحضورا للجمال في العالم، ينبغي رؤيته والصّعود فيه وبه ومعه إلى الجمال في موطنه وعلاه..فيماهي بين المرأة والجمال، فكرة مطلقة متعالية عن المعايير الجمالية المدركة حسّيّا. وإن شئت فهو يقرأ الأشياء في الكون، وضمنها "الشيء" الأكبر (المرأة) بحسب "سيميوزيس" خاصّ، تكون به المرأة العلامة الحيّة في الأرض، ويكون الجمال هو المعنى العلويّ الذي ينبغي أن يُرى فيها، هنا، ومنها يصعد إلى "هناك" حيث هي، مجردة متجردة من كينونتها الظاهرة ، مدركة في كينونتها الجوهر، باعتبارها صنوا للجمال المطلق الذي إن رُئي بُلغت المنزلة، بعد المحنة:

 

ما لي سألت الزّهر

عن منزلي

فقيل لي :

"هناك، خلف القمر"

ويظلّ هذا المنزل "المنزلة" حلما ومطمحا ومبتغى عسير المنال، ولكنّ السبيل إليه معلومة وشرط الوصول هو اليقين بأنّ "رندلى" هي الجمال حقّا لا وهما. ولذلك ينبغي أن تعشق حتى المنتهى..

ذا ما يتنشر في كلّ نصوص مجموعة "رندلى"، بعبارة ناضحة بعلم اليقين:

 

سليه: حقّا أنا الجمال؟

يقُلْ: بلى

والمنتهى أنت والخيال

يا رندلى

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم