صحيفة المثقف

يوسف الهادي: لو كان ابن تيمية حيَّاً ودَخَلَ مدينة الأعظمية

إلى الأخ الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف مع وافر الاحترام

 طالعتُ أخيراً على الشبكة العنكبوتية في موقع (منتديات كلّ السلفيين) مقالاً كتبه أبو معاوية مازن بن عبد الرحمن البحصلي البيروتي تحت عنوان (جمعُ الفوائد المنثورة من رحلة د. بشار عواد معروفإلى المملكة العربية السعودية) سنة 1436هـ/2015م. لخَّص فيه بعض تفاصيل رحلة هذا الباحث الذائع الصيت والمحقق الشهير في مجال التراث الإسلامي، ونقلَ بعض ما ذكره الدكتور معروف في المنتديات التي دُعيَ إليها هناك، ويُلفت النظر في إحدى تلك المنتديات، الثناء الذي كاله للشيخ ابن تيمية وما لحق به من أذى، وفي أثناء ذلك قال شيئاً كان ينبغي لنا نحن العراقيين أن نعرفه لأنه شيء فولكلوري خاص بمعتقدات عامة الناس، فلنقرأ ما قاله الدكتور بشار عواد:

(ابن تيمية ـ على سبيل المثال ـ اضطُهد اضطهاداً شديداً، وسُجن، ومُنع عنه الورق والقلم، وأصبح في السجن ليس عنده إلاّ قراءة القرآن من حفظه.

وفي عصرنا الحاضر الشيعة عندنا في العراق كانوا يحرقون كتب ابن تيمية، وكان مَن أراد الشفاء من مرض يقولون:العلاج أحرق كتاب لابن تيمية تَشْفَ.

فمثلاً امرأة لا تحمل يدلُّونها على العلاج: تحرق كتاب منهاج السنة لابن تيمية وهذا علاجها.

وكذلك من يعذِّبها زوجها أو أي مصيبة يقولون: أحرقي كتب ابن تيمية يعطيكِ(1) الله مرادك).

1080-yousefالحقيقة أن هذا الكلام يُسمَع لأول مرة، وما ورد فيه من وصفات سحرية لا يعرفه أيُّ عراقي، والشيعة العراقيون بصورة عامة لا يعرفون من هو ابن تيمية إلا بعد أن انطلق حَمَلَةُ فكرِه من أمثال أبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي بشحذ سكاكينهم وقتل شيعة أهل بيت رسول الله (ص) في العراق وغيره، بل وقتْل مَن يخالفهم من أتباع المذاهب السُّنِّيَّة وسائر خلق الله، فتساءلوا عن هذا الدين الذي يبيح قتل الأبرياء فوجدوه لدى ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب اللذين استندا إلى حديث مكذوب على رسول الله زعموا فيه أن الحبيب المصطفى المبعوث رحمة للعالمين والذي وصفه الله ـ أصدق القائلين ـ بأنه لم يكن فظَّاً ولا غليظ القلب، قال: (لقد جئتكم بالذبح)(2).

حسناً، إذا كان هؤلاء الكَذَبَة يصرُّون على كون رسول الله ذبَّاحاً، ألا يرَون أن أفضل فرصة كانت بين يدي المصطفى ليكون ذبَّاحاً ـ وحاشاه ـ هي عند فتحه مكة للانتقام من كل العذابات التي أذاقها إياه زعماء الشرك المكِّيُّون وأذاقوها أصحابه حتى أُثِر عنه قوله (ما أُوذي نبي بمثل ما أوذيت)؟ ترى لماذا لم يمارس حقه المزعوم في الذبح ويجعل الدماء تسيل ودياناً في بطحاء مكة؟ بينما أفصح معدنه السماوي الرحيم عن نقاء قلبه فأعلن بمحبَّة: اذهبوا فأنتم الطلقاء. أين هذه الرأفة من بشاعة الذبح؟(3). 

 نعم للعراقيين تقاليدهم التي يشتركون فيها مع غيرهم من الشعوب الإسلامية في التوسل إلى الله بحق الأنبياء والأئمة والأولياء مما يدخل بعضه في باب الشفاعة ومما لسنا بصدد الكلام عليه الآن. وأنا على يقين أن الأستاذ الفاضل بشار عواد معروف لم يسمع شخصياً هذا التقليد الخاص بابن تيمية وكتبه، وربما نَقَلَه إليه شخص عابث يبغض شيعة أهل بيت رسول الله (ص) المعروفين باسم الإمامية الاثني عشرية، أو أن أحداً ممن لخَّصوا كلامه جاء بهذا الكلام من عنده.

أذكر في صباي أنه حينما كانت الولادة تعسر على المرأة كانوا يذهبون إلى مؤذِّن أحد الجوامع القريبة ليدعو لها، فيرتقي هذا المنارة وينادي بأعلى صوته: (ياقريبَ الفَرَج؛ عالي بلايه دَرَج؛ عبدك بشدَّة ويطلب منَّك الفَرَج)، ويردد ذلك عدة مرات، والذي شاهدناه أن الله سبحانه يستجيب برحمته لذلك فتلد المرأة، وعندها يؤتى لهذا المؤذن بـ (البشارة) وهي هدية صغيرة من حلوى أو نقود.

أما ثناء الدكتور بشار على ابن تيمية والكلام على اضطهاده، فالمعروف الآن أن هذا الفكر التكفيري الوهابي الذي يدمِّر العالم الإسلامي ليس على الخط الذي يسميه المفكر الجزائري مالك بن نبي (من طنجة إلى جاكارتا) فحسب، بل وإلى جميع البقاع التي يقطنها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إنما هو فكر ابن تيمية ومن سبقه من متشددي الحنابلة الذين عُرِفوا بجرأتهم على تكفير مخالفيهم واستباحة دمائهم وأعراضهم سواء أكانو مسلمين أم غير مسلمين.

ومن الضروري أن لا يُركَن إلى آراء ابن تيمية في مَن يختلف معهم في الرأي، فهو قاس قسوة مفرطة بحقهم وكان سبَّاباً لعَّاناً لهم ويبتكر بحقهم الشتائم ابتكاراً.

 ومن ذلك أنه يسمِّي الحسنَ بنَ يوسف ابنَ المُطَهَّر الأسدي المعروف بالعلاَّمة الحلي أحد كبار علماء الشيعة الإمامية الذين يلمزهم بـ (الرافضة)، يسمِّيه (ابن المُنَجَّس)(4) عكسَ اسمِهِ (ابن المُطَهَّر).

كما كان قاسياً على آخرين أيضاً، قال الصفدي إن ابن تيمية (كان مُغْرَىً بِسَبِّ ابنِ عربي محيي الدين، والعفيفِ التلمسانيّ، وابنِ سبعين وغيرِهم من الذين ينخرطون في سِلكهم. وربما صرَّح بِسَبِّ الغزاليّ وقال: هم قلاووز الفلاسفة، أو قال ذلك عن الإمام فخر الدين الرازي)(5)، واشتُهر عنه أن (بالَغَ في الحط على ابن العربي وتكفيره)(6).

 وأضاف الصفدي أن الشيخ ابن تيمية كان ينبز الفيلسوف المنطقي الشهير علي ابن عمر الكاتبي القزويني الشافعي المعروف بدَبِيران، فيقول دُبَيْران(7)، أي أنه ينسبه إلى الدُّبْر ويُصغِّره ويثنِّيه.

قال العلامة ابن حجر إنَّ ابن تيمية (كان لتعصُّبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سبَّ الغزالي، فقام عليه قوم كادوا يقتلونه)(8).

بل كان يبلغ به الأمر حيناً أن يدعو إلى قتل مخالفيه لمجرد أنهم لا يوافقونه رأيه؛ فقد ظهر خلاف حول الجَهْر بالنِّية في الصلاة وغيرها، أي أن يرفع المصلي مثلاً صوته بالنِّية لدى شروعه في الصلاة، فماذا كان رأي الشيخ ابن تيمية؟

أفتى الشيخ بأنَّ مَن يؤمن بالجهر في النية ينبغي أن تُعرَض عليه التوبة، فإن تاب وتراجع عن رأيه سَلِمَ، وإلاَّ قُتِل، ونصُّ كلامه هو: (ومَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ دِينُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ الشَّرِيعَةَ، وَاسْتِتَابَتُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ قُتِلَ)(9). 

إن هذا الذي جَهر بالنية في الصلاة مسلم ينطق بالشهادتين وكان يؤدي ما فرضه الله عليه، وكان ينبغي أن يُعصم دمه، لكن ابن تيمية يرى وجوب أن يكون دمه مسفوحاً.

 

لو كان ابن تيمية حيَّاً ودَخَلَ مدينة الأعظمية ببغداد

ينتمي الأستاذ الفاضل الدكتور بشار عوَّاد معروف إلى مدينة الأعظمية أحد أحياء بغداد الكبرى التي اكتسبت اسمها من الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت إمام المذهب الحنفي حيث يوجد ضريحه الفخم المقام على قبره، مما هو موضع اعتزاز سكان هذه المدينة التي تقيم فيها عوائل كثيرة من عشيرة العُبَيد العربية التي ينتمي إليها الدكتور معروف. وفي كل عام ومع الاحتفالات التي تعمُّ أرجاء العراق بذكرى مولد الحبيب المصطفى (ص)، فإن أهل الأعظمية يقيمون احتفالاً فخماً يكون مركزه ضريح الإمام أبي حنيفة حيث تُضاء الأنوار بصورة مبْهِجة، ويتجمَّع أهل الأعظمية في ذلك الضريح وما حوله مسرورين مع أُسَرِهم يوزعون الحلوى والعصائر، بينما يرتقي المنشدون المنابر مرددين المدائح النبوية بأصوات عذبة فقد:

      وُلِد الهُدى فالكائناتُ ضياءُ           وفمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ

 ترى لو كان ابن تيمية حياً وشاهد ما يصنعه أهل الأعظمية من احتفاء بهذه الذكرى فماذا يصنع؟

أولاً: لكون ابن تيمية حنبلياً فإن رأيه سينطلق مما يعتقده الحنابلة الذين عُرف عنهم أنهم يرون أبا حنيفة ضالاً مبتدعاً، لنقرأ مثلاً ما ينقله اللالكائي الشافعي عن الإمام أحمد بن حنبل وابن المديني في الإمام أبي حنيفة النعمان: (إذا رأيتَ الرجلَ يُحِبُّ أبا حنيفة ورأيَه والنظرَ فيه فلا تطمئن إليه وإلى مَن يذهب مذهبه مِمَّن يغلو في أمره ويتخذه إماماً)(10). وكذلك رأي ابن أبي يعلى الحنبلي في أصحاب أبي حنيفة وأتباعه الذين يُدعَون أصحاب الرأي بقوله: (وأصحاب الرأي وهم مبتدعة ضُلاَّل أعداء للسنة والأثر، يبطلون الحديث ويردُّون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويتَّخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إماماً ويدينون بدينهم؛ وأيُّ ضلالةٍ أبينُ ممَّن قال بهذا وترك قول الرسول وأصحابه واتَّبع قول أبي حنيفة وأصحابه؟ فكفى بهذا غَيَّاً مُرْدياً وطغياناً)(11)، وبإزاء ذلك فإن الحنابلة إذا اتَّهموا أحداً ببغض أحمد بن حنبل سارعوا إلى تكفيره حيث نسب الربيع بن سليمان مؤذن المسجد الجامع بالفسطاط وراوي كتب الإمام الشافعي إلى الشافعي قوله: (مَن أبغض أحمدَ بن حنبل فهو كافر؛ فقلتُ: تطلق عليه اسم الكفر؟ فقال: نعم، مَن أبغضَ أحمد بن حنبل عانَدَ السُّنَّة، ومَن عاند السُّنَّة قَصَدَ الصحابة، ومَن قَصَدَ الصحابة أبغضَ النبيَّ، ومَن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم، كَفَرَ بالله العظيم)(12).

ومن معاصرينا نجد الشيخ المحدِّث السلفي اليمني مقبل بن هادي الوادعي ـ وهو من كبار علماء الوهابية ـ  ألَّف كتاباً عنوانه نشر الصحيفة في ذكر الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة(13)، ذكر فيه 125 مسألة شرعية قال إن أبا حنيفة خالف فيها رسول الله (ص).

فإذا زدنا على ذلك الذنب الذي لا يُغتفر وهو البدعة باحتفالهم بالمولد النبوي الذي يحرِّمه الوهابيون، فستكون عقوبتهم ثقيلة على يد الشيخ ابن تيمية ومَن والاه.

ثانياً: لكون قبر أبي حنيفة والمسجد المسمَّى باسمه أصبح مقصداً للناس يصلُّون فيه ويدعون الله لقضاء حوائجهم، ويترحمون على صاحب القبر المدفون فيه، وهذه بدعة وكل بدعة ضلالة، فإن الشيخ ابن تيمية سيبادر ومعه جمع من الفقهاء ممن يرون بناء الأضرحة بدعة أمثال الشيخ ابن باز والشيخ أبي إسحاق الحويني(14) إلى جلب المعاول والفؤوس وسيهدمون القبر ويقتلون كل مَن كان فيه أو أراد زيارته لأنه مبتدع ضالّ كافر. وإن قبر الإمام أبي حنيفة ليس عندهم أكرم من قبر رسول الله، ورأيهم فيه معروف، ولو سنحت الفرصة لأتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (وهم أتباع ابن تيمية أيضاً) اليومَ وأمِنوا غضب المسلمين في أرجاء العالم لهدموا قبر النبي (ص)، فهم ما يزالون حتى يومنا هذا ساخطين على بناء قُبَّة على قبره، بل إنهم شبَّهوا القبة المقامة على قبره (ص) بآلهة الشرك والكفر: اللات والعزَّى وهُبَل، حيث يقول الداعية الوهابي المعروف مقبل الوادعي: (هذا وقد هَمَّ الإخوان(15) رحمهم الله، في زمن عبد العزيز رحمه الله عند دخولهم المدينة أن يزيلوا هذه القُبَّة، وليتَهم فَعَلوا، ولكنهم خشوا رحمهم الله من قيام فتنة من القبوريين أعظم من إزالة القبة، فيؤدي إزالة المنكر إلى ما هو أنكر منه. وكم للقبوريين مِن دعاوى باطلة إذا دُعُوا إلى إزالة تلك القباب التي أشبهَ بعضُها اللاتَ والعزَّى وهُبَل)(16).

فهذه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية وُجِّه إليها الاستفتاء التالي: (هناك مَن يحتجُّون ببناء القبة الخضراء على القبر الشريف بالحرم النبوي على جواز بناء القباب على باقي القبور، كالصالحين وغيرهم، فهل يصح هذا الاحتجاج أم ماذا؟).

فكان جواب هذه اللجنة هو: (لا يصحُّ الاحتجاج ببناء الناس قُبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم على جواز بناء قباب على قبور الأموات، صالحين أو غيرهم؛ لأن بناء أولئك الناس القبة على قبره صلى الله عليه وسلم حرامٌ يأثم فاعلُه)(17).

ورأيُ ابن تيمية واضح وصريح في هذا وهو قوله: (لَيْسَ لأَحَدِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلاةَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ لا نَبِيٍّ وَلا غَيْرِ نَبِيٍّ وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّ قَصْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ بِحَيْثُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لا قَبْرَ فِيه، فَقَدْ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ، وَخَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ قَائِلُ هَذَا وَمُعْتَقِدُهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ. بَلْ لَيْسَ لأحَدِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ الصَّلاةَ عِنْدَهَا. فَلا يُقْبَلُ ذَلِكَ لا اتِّفَاقًا وَلا ابْتِغَاءً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَالذَّرِيعَةِ إلَى الشِّرْكِ)(18). وهو ما فصَّله الشيخ عبد اللطيف أحد أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: (وعند المشهد الحسيني قد اتَّخذه الرافضة وثَنَاً؛ بل ربَّاً مدبِّراً وخالقاً ميسِّراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معابد اللات والعزى وما كان عليه أهل الجاهلية.وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخيّ والشيخ عبد القادر؛ فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسُنَّتهم)(19).

أيسمح ابن تيمية ببقاء قبر أبي حنيفة النعمان وما جاوره من مقابر الصالحين، وهو الذي لا يقيم وزناً لضريح الحبيب المصطفى (ص) ويدعو إلى عدم زيارته ويوجِب على أتباعه تهديمه إنْ استطاعوا؟

روى الخطيب البغدادي عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني قوله: (ما تقولون في مسألة اتَّفَقَ مالكُ وأصحابُه، والشافعيُّ وأصحابُه، والأوزاعيُّ وأصحابُه، والحسنُ بن صالح وأصحابُه، وأحمدُ بن حنبل وأصحابُه؟ فقالوا له: يا أبا بكر، لا تكون مسألةٌ أصحَّ من هذه. فقال: هؤلاء كلُّهم اتَّفقوا على تضليل أبي حنيفة)(20)، ثم أورد رواياتٍ تقول إن أبا حنيفة استُتِيبَ من الزندقة والكفر مرَّاتٍ(21). وهذا النص سيكون نصب عينيّ ابن تيمية وقد شمَّر عن ثيابه وأمسكَ بفأسه.

تُرى ما الذي سيفعله الشيخ ابن تيمية بأهل الأعظمية إذا قاوموا رغبته في (إقامة عقيدة التوحيد الصحيحة) كما يراها هو بتهديم قبر الإمام الأعظم والمسجد المسمَّى باسمه، ونحن نعلم أن سَدَنة هذا القبر والمسجد هم من شخصيات معروفة من عشيرة العُبَيد الذين توارثوا السدانة لعقود طويلة كابراً عن كابر؟ ألاَ يستقدم عليهم جيشاً من الجهاديين المنتشرين في كل مواضع التكفير التي فيها آلاف السيوف المشحوذة المعدَّة للغزو وقتْل كل من يُعارض تلك العقيدة وأخْذ مَن يبقون على قيد الحياة عبيداً وجواري سبايا لكونهم كفرة ومرتَدِّين من أهل الأعظمية وغيرها؟ إنهم سيرتكبون في الأعظمية ما ارتكبه أوائل الإخوان الوهابيين عندما غزوا مدينة كربلاء سنة 1216هـ/ 1801م من قتل ونهب وقلع للذهب الذي فيها وسلب للمقتنيات والتحف النفيسة، هذا في الضريح، أما في المدينة فيقول الباحث المرموق ستيفن لونغريك: (عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه، كما سرقوا كل دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، ولم يحترموا النساء ولا الرجال، فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أَسرهم، ولقد قدر البعض عدد القتلى بألف نسمة، وقدر الآخرون خمسة أضعاف ذلك)(22).

نعم، سيفعل الوهابيون بقيادة ابن تيمية في الأعظمية وفي بغداد ما هو أسوأ مما فعله أسلافهم خصوصاً مع وجود وسائل الدمار الحديثة من متفجرات ومدافع ثقيلة، وسيجعلون الأعظمية بل وبغداد دار حرب ويحيلونهما خراباً يباباً.

ولن يقف الأمر عند هذا الحدّ، فالكفرة والمرتدُّون كما يقول ابن عابدين (يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ نِسَائِهِمْ لأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَمَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ جَائِزٌ؛ وَكُلُّ مَوْضِعٍ خَرَجَ عَنْ وِلايَةِ الإِمَامِ الْحَقِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ. وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ ذَرَارِيِّهِمْ تَبَعاً لأُمَّهَاتِهِمْ لأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الأُمَّ فِي الاسْتِرْقَاقِ)(23). وإنما يُستَرَقُّون لسبب بيَّنَه أحد الفقهاء الشافعية قال فيه إنه إنما يُبْقي على النساء والصبيان الأسرى أحياءً لغرض ممارسة الجنس مع النساء والفتيات وتحويل الصبيان إلى أيدي عاملة مجانية، فلنقرأ قوله في تبيان هذه الفتوى: (إنما لم أَقْتُل النساءَ والصِّبيانَ لأنَّهم يَصيرون لنا أموالاً بنَفس السَّبْي، فكأنَّ الحكمةَ في ذلكَ مع الكُفْرِ أنه يتعجَّلُ الانتفاعُ برِقِّهم والاستمتاعُ بالنساءِ، والاستخدامُ والتمَوُّل للصِّبيان)(24)؛ وهذا بتمامه يتفق مع الفتوى الشهيرة التي أطلقها الشيخ أبو إسحاق الحويني في عصرنا في وجوب الجهاد والغزو وسَبْي الفتيات والنساء والتِّجارة بالرَّقيق(25). وإنَّ رأي ابن تيمية في الاسترقاق معروف فهو يقول: (يجوز استرقاق العرب والعَجَم)(26)، وسيكون قرير العين لأنه بذلك يخالف رأي الإمام أبي حنيفة صاحب القبر الذي سيهدمه الذي يقول: (لا يجوز استرقاقُ العرب، كما لا يجوز ضربُ الجِزية عليهم، لأنَّ العربَ اختُصُّوا بشرف النسب لكون النبيّ صلى الله عليه وسلّم منهم)(27).

 

..........................

(1) واضح أن الدكتور قالها بالعامية فلم يعربها، ذلك أن الصواب: يُعْطِكِ.

(2) ورد الحديث في: سيرة ابن إسحاق (ت 151هـ)، 4/213؛ السيرة النبوية لابن هشام (ت 213هـ)، 1/187؛ مسند الإمام الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، 2/218؛ صحيح ابن حبان (ت 354هـ)، 14/526)؛ تاريخ الإسلام للذهبي (ت 748هـ) (ط تدمري)، 1/165؛ السيرة النبوية لابن كثير (ت 774هـ)، 1/471، والبداية والنهاية له أيضاً، 3/61، وفي مصادر أُخر مثل تاريخ الطبري وابن الأثير... وواضح أن الأصل في هذا الحديث هو محمد بن إسحاق كاتب السيرة النبوية.

(3) انظر تفاصيل مهمة عن قوله (ص) (من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار) في أضواء على السنَّة المحمدية للشيخ محمود أبو رَيَّة، 61 ـ 68.

(4) انظر: الصفدي، الوافي بالوفيات، 7/13، 13/54، أعيان العصر، 2/293؛ المقريزي، السلوك، 3/93؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، 9/267، المنهل الصافي، 5/174.

(5) الصفدي، الوافي بالوفيات، 7/13. القلاووز: مفردة تركية تعني طليعة الجيش أو المرشد على الطريق أو الجاسوس (انظر: فرهنك فارسي: قلاوز).

(6) ابن حجر، الدرر الكامنة، 1/147.

(7) الصفدي، الوافي بالوفيات، 7/13. ودَبِيران تعني الكاتب والمُنشئ. وتزخر كتب الفهارس بآثار هذا العلاَّمة الجليل النافعة (انظر مثلاً: حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/540، 2/1614؛ الطهراني، الذريعة، 10/181، 13/212، وغيرهما من المصادر)، توفي دَبِيران سنة 675هـ. 

(8) ابن حجر، الدرر الكامنة، 1/154.

(9) انظر: ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، 2/99 من طبعة دار الكتب العلمية التي حققها محمد عطا ومصطفى عطا وصدرت في بيروت سنة 1408هـ/1987م؛ وفي 22/143 من الكتاب نفسه الذي طُبع بعنوان مجموع الفتاوى (22/143)، وحققه أنور الباز وعامر الجزار ونشرته مكتبة الوفاء بالمنصورة في طبعته الثالثة سنة 1426هـ/2005م، وفي 1/2 من الطبعة التي قدَّم لها حسنين محمد مخلوف. وإنما أطلنا في التعريف بمصادر هذا النص التكفيري لأهميته.  

(10) اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 1/171؛ ابن المبرد، بحر الدم، 161.

 

(11) ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة، 1/35 (ط الفقي)، 1/71 (ط العثيمين).

(12) ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة، 1/29 (ط العثيمين).

(13) نشرته دار الحرمين في القاهرة.

(14) رأي الحويني في هذا الأمر مشهور ومنشور على صفحات الإنترنت بالصوت والصورة تحت عنوان: (حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور ـ للشيخ الحويني)، وهو: (لايجتمع مسجدٌ وقبرٌ في دين الإسلام)، ونسب هذا الكلام إلى الإمام الشافعي، وأضاف الحويني (الصلاةُ في المساجد التي فيها قبور محرَّمةٌ، ولكن ليست باطلة؛ فلو صلَّى في مسجد فيه قبر، فإنَّ هذا لا يبطل صلاته، لا نقول له أَعِدِ الصلاةَ مرةً أُخرى، لكن يحرُمُ عليه أن يصلي في هذه المساجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ألاَ إنِّي أنهاكم عن ذلك، ألاَ إنِّي أنهاكم عن ذلك،  ألاَ إنِّي أنهاكم عن ذلك).

قلتُ: إذا صحَّ هذا الحديث فالنهي إنما هو لكونهم كانوا يتوجَّهون في عبادتهم إلى تلك القبور، أي إنهم كانوا يعبدون تلك القبور، بينما لا نجد في المسلمين على اختلاف مذاهبهم مَن يتوجَّه في صلاته نحو تلك المقابر، بل إنهم يتوجَّهون ـ حتى وهم في داخل المساجد التي فيها مقابر ــ هو نحو الكعبة المشرَّفة، ويتوجهون في قلوبهم نحو الله.   

(15) الإخوان: ميليشيات وكتائب جند شكَّلها الملك عبد العزيز بن سعود في أول ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانوا يده الضاربة يُغير بهم على المدن والقرى فينهبونها ويحرقون نخيلها ويقتلون سكانها إن لم يعلنوا إذعانهم للدعوة الوهابية، ثم يجبرون الناس على دفع الضرائب للملك، ومن مشاهير  استباحاتهم للمدن والقرى ما مارسوه من قتل ونهب واغتصاب للنساء وأخذهم أهلها جواري وعبيداً لهم عند استباحتهم مكة المكرمة والطائف سنة 1342هـ/ 1923م.

(16) كتاب حكم القبة المبنية على قبر الرسول لمقبل الوادعي ص 264، تأليف مقبل بن هادي الوادعي المتوفى سنة 1424هـ، طُبع هذا الكتاب ضمن كتاب رياض الجنَّة في الرد على أعداء السُّنة للوادعي نفسه، مكتبة صنعاء الأثرية، اليمن، 1424هـ/2003م.

(17) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية (المجموعة الأولى، السؤال الرابع من الفتوى رقم  8263): جمع وترتيب أحمد بن عبد الرزاق الدويش، ومن هذا الكتاب نسخة منشورة على موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء  http://www.alifta.com

(18) ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، 27/257، تحقيق الباز والجزَّار، وانظر أيضاً: ابن تيمية، رأس الحسين، 213، تحقيق الدكتور السيد الجميلي.

(19) عبد اللطيف آل الشيخ، عيون الرسائل والأجوبة على المسائل، 2/671، تحقيق حسين محمد بوا، الطبعة الأولى، مكتبة الرشد في الرياض. والمقصود بالمشهد الحسيني ضريح الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وبالعباس شقيقه العباس عليهما السلام في كربلاء، وبمشهد علي ضريحه في مدينة النجف الأشرف، أما عبد القادر فهو الزاهد المعروف الشيخ عبد القادر الكيلاني وقبره مشهور في بغداد.

(20) الخطيب البغدادي، تاريخ مدينة السلام، 15/527.

(21) المصدر نفسه، 15/523 ـ 527.

(22) لونغريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، 261.

(23) ابن عابدين، العقود الدُّرِّيَّة في تنقيح الفتاوى الحامدية، 1/95، طبعة بولاق بالقاهرة سنة 1300هـ. وهذا الكتاب هو في فقه الحنفية.

(24) أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، كتاب الفنون، 1/126 ــ 127.

(25) الفتوى موجودة بصوته على شبكة الإنترنت مع ردِّه فيما بعد على المعترضين عليها.

(26) ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، 31/217.

(27) نقل ابن تيمية نفسُه رأي أبي حنيفة هذا في كتابه مجموعة الفتاوى، 31/219، الطبعة التي حققها الباز والجزَّار.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم