صحيفة المثقف

زهرة خصخوصي: تشظّي الخطى

MM80غدا يتناثران..

انتهى بهما الدّرب إلى ضفّة بلا جراب يضمّهما..

غريبة وحيدة تسافر إلى وطنها البعيد.. وحيدا غريبا يقبع في وطن لا ريح فيه بعدها للحياة..

- ما أقصر رحلتنا..

تمتمت.

تأمّل وجهها الغارق في أراجيح روحها المتبلبلة.. كم يدرك أنّها لا تتوق إلى ارتحال.. كم يدرك عجزه عن استبقاء جذور خميلتها لتتجذّر في مرجه..

- أجدب مرجي .. أخشى عليك يا خفق الرّوح فيه ذبولا..

جلجل في نبضه الصّمت مكلوما..

في سجن من وجل وانتظارات عقيمة انتفضت روحاهما.. ولاذتا بالتّلظّي بمجامر وهن الخطى في درب مقارعة النّوى..

بالأمس كانا هنا.. حلما منتفضا من عقال الدّجى، مرفرفا نحو أفق ضياء لا يأفل، صادحا بتراتيل عمر من نسيج حكايا شهرزاد..

حطّت بها الطّائرة ذات مساء..

كان ينتظرها على حافة صبر مشروخ.. وعدته بالمجيء وهي تقرأ خاثرائط الوجع في وطنه، تشتمّ في أعطافها شذى رقّة الياسمين..

ضجّ بمطارق شوق إلى نسائم الثّلج في خطاها وجلجلة أجراس المرح في معابد كلماتها..

وعدته بإقامة لن تطول ..

هيّأ لإقامتهما أعذب أهازيج الحلم..

تأبّطته.. ترك لها ذراعا تتأبّطها والخافق يرنو إلى اندساس في مخمل حضن..

اقتادها إلى نزل جميل يُشرف على البحر ويُسند إلى صدر الجبل ظهره...

تمازج العنبر واللّجين في خطاهما..

تزواوجت الهاجرة والجليد في انتثارات الكلمات..

ما تمّ حمل.. ظلّ رحم الانتظارات عقيما..

نظرت إلى ساعة تعتلي صهوة معصمها وقالت:

- بيني والارتحال يوم يزخر بعبق فردوسك.. بيننا وآتي الوصال دهرا من عزم الخطى..

تأمّل نظراتها الآنّة تائهة البوصلة.. همس: "ألا تظلّين..؟"

ردّت مختنقة بالكلمات: " آن ميقات المُضيّ.. ساعاتنا لا تتوقّف يا صاح... رافقني.."

زلزلت دعوتها أديمه.. لا منفذ إلى هذا الحلم.. لا إغراءات السّماء ولا نظرة هذه الشّقراء عند قدمَي أحلامه الكسيحة يشفعان..

لاذ بالصّمت..

لاذت بدندنات معجَمَة بها تذبّ غربان دمع تترصّدها على تخوم الصّبر على سياط وجع..

...............

كان ودقا.. زخّات ماء تجرف زخّات ماء...

الماء نبض الكون وعاشق الحياة الخجول الذّلول..

تزاحمت جحافل الوصال ،غيم على صدر غيم يتهادى بها هودج السّماء..

رفعا بصرا يرنو إلى الوجه الحاني على خدّ الأرض يلثمه وما اكتفى من عناق.. اهتزّ خافقاهما طربا لترانيم الهمسات المخمليّة..

_لله درّ هذا الوله...

بل لله درّ الولهين...

_ما الوله إلّا ذاك اللّحن الخافت في عيونهما النّازّة شوقا وحنينا.. لله درّ اللّحن يحرّك فيهما الزّهر والفنن...

_ لولا أنامل خافقيهما العازفة على أوتار التّيم ما تردّد ذا اللّحن في الكون ناثرا فينا ريح الشّوق لارتعاشة الغصن وشهقة الوردة لقطرة الطّلّ الأولى تداعب خدّها الغرَّ، تُبلبل خطو روحها الطَّفلة وتُثمله بانسكابات الوصال..

_أتراكَ ثملتَ بمرآهما وعانقت روحك الأمنيات..؟!

_أتراك ما رفرفت في فلك المنى..؟!

امتدّ الودق مدرارا يكنس الحزن عن وجه الأديم، ضحكات الحقول الممتدّة أمامهما انتشاء تُبحر بهما بعيدا عن الشّرفة الباردة..

اندسّت في معطفها الخشن، والتفّ في حضن صمت من جليد..

غرق الكون في عتمة الغيم والمساء..

من خلف الشّرفة البلّوريّة امتدّ مطر أخرس الهطل يزيد فؤاديهما جدبا..

تهدّج صوته:

_ظلّي يوما آخر.. أيثقل يوم ممشى السّاعة في ديارك..؟!

_لا يخمد هطل انتشاء يوما حرائق آتي الخطى..

_ستتيبّس بعد أفول ريحك خمائل ربيعنا..

_قد نلتقي كلمات..

_ما عاد لرنين الكلمات في خافقي ذاك الصّدى.. لستُ مينيرفا، إن ترمّدتُ إذ ترحلين ما عُدتُ أنبعث مرفرفا نحو فيض ذاك اللّقاء...

همهم الكون:" هطل فرح لارتحال.. ودق حزن لارتداد الخطى.. إن كانت ثمالة الشّهد علقم ما جدوى الوصال..؟ ما سحر اللّقاء..؟"

لملمت السّماء دنانها..

شحّ نزّ الودق وجفّت مقلها من زخّات الهوى..

صاح الدّيك..

_إنّه الفجر.. ماعاد بيننا والارتحال غير أنّات سحّاب الحقيبة يصمّ آذانه عن نداءات البقاء..

تمتم وهو يجرّ خطاه إلى غرفتها..

الباب مُشرع..

ناداها، ولج الغرفة، لا ساكن لها غير الصّقيع وكلمات مشرنَقَة على خدّ المرآة: " إنّي مضيتُ.. أوّاه ما أثقل جرابي بصخور عبارات الوداع.. "

جثا على ركبتين من هشيم.. صاح: " ربّاه خلقتُ ألوفا، عاشقا همس النّساء.. أوّاه من أتون عزم النّساء..!"

 

زهرة خصخوصي / تونس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم