صحيفة المثقف

زهرة خصوصي: وفاء يتمخّض جمرا وشهدا وضياء.. قراءة في القصّة القصيرة جدّا "طيف" للأديب السّوري منذر غزالي

مدخل: القصّة القصيرة جدّا فنّ أدبيّ قصصيّ مستقلّ عن القصّة القصيرة وإن انبجسا من ذات رحم القصّ، وقد وفد إلى رحاب الأدب مكتملَ البناء مخصوصَ السّمات منسوجا سطحه من عُمُد الإخبارفي الحكاية أُسَّ القصّ وموشَّحا عمقه بالرّمزيّة والإيحاء والتّكثيف نبضَ المنزع الفكريّ العقليّ في الأدب العربيّ... لذلك فإنّ مرحلة كشف النّسيج الدّاخليّ للقصّة القصيرة جدّا تتطلّب إدراكا لمقوّماتها المخصوصة حتّى تتمكّن مقاربتها تحليلا وتأويلا وقراءة من أن تؤمّن لذاتها بعض الموضوعيّة التي تحميها من الجور على عمق النّصّ وجوهره..

 

مقوّمات القصّة القصيرة جدّا:

القصّة القصيرة جدّا عمل إبداعيّ   يعتمد مجموعة من الأسس أو الشّروط هي:

- التّكثيف اللّغويّ المتحقّق عبر دقّة اللّغة وحسن التّعبير الموجز، الذي يحيل ولا يُخبر ويومئ ولايُفصح موحيا  بدلالات تسكن المضمون المُشرع أبوابَه لكلّ تأويل سامحا بتعدّد القراءات واختلافها اختلافا يدرك أحيانا كثيرة مضارب التّباين..

فالتّكثيف كما يقول الأستاذ مسلك ميمون:" عمليّة ضروريّة في مجال القصّة القصيرة جدّا"(1)

- الرّمز:هو أداة ووسيلة وليس غاية.. " يُغني النّصّ ويحمله على الاختزال ويلعب دورا جليلا في منحه بعدا ما كان ليأتي بلغة واصفة مباشرة، ويرفع قيمة النّصّ إبداعيّا ويثريه دلاليّا "(2) ويحمل القارئ نحو أعماقه البعيدة ليظفر بدرر الدّلالات والمقاصد...

- القفلة وهي تتّسم بكونها ترد مفاجئة غير متوقّعة محدثة للدّهشة باعثة على التّأمّل وفتح آفاق التّأويل..

- التّيمة أو الموضوع، وتكون متّسعة لكلّ الأفكار الممكنة ..

- اللّغة الشّعريّة أو شعريّة القصّ وهي التي تجد لها كلّ المشروعيّة في انتساج جماليّة القصّة القصيرة جدّا وبلاغتها، وبها يمسي مبدع القصّة القصيرة جدّا "من المبدعين البلغاء، فهو إن لم يكن بليغا متمكّنا في ضروب البلاغة لا يمكن أن يأتي بالحدث في إيجاز بليغ فنّيّ"(3)

 

 الرّاوي العليم والرّؤية من الخلف

- الأنسنة: وهي المطيّة التي بها تُبعث الحياة في الجماد والحيوان والشّجر والفكرة فتغدو فاعلة فعل الإنسان متأثّرة كتأثّره حيّة كحياته، توظيفا من الكاتب ليدرك بها مقاصده المرجوّة من نصّ قصصيّ قصير جدّا يخاطب العقول والألباب والضّمائر أكثر من مخاطبته الوجدان ..

وتجدر الملاحظة إلى أنّه ليس من الضّروريّ أن تتوفّر كلّ هذه المقوّمات الفنّيّة الخاصّة بفنّ القصّة القصيرة جدّا في كلّ نصّ ذلك أنّ "ظروف الكتابة ومعطيات النّصّ والحالة النّفسيّة للمبدع.. كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر واحتجاب أخرى.."(4).

 

النّصّ: طيف

سمع الأطفال صوتها البعيد, تركوا لعبهم, وهرعوا مسرعين, كما أوصاهم أهلوهم.

لم يأبه الطفل الصغير, ولم يجرؤ أخوه ان يرجع ليأخذه.

رجال الإنقاذ, الذين كانوا يرفعون الأشلاء، أقسموا أنهم رأوا ملاكاً قرب المكان... طفلاً صغيراً يحمل لعبته!.

منذر غزالي

......................

تصدير:

"الهاجس الإبداعيّ يخضع بصورة أساسيّة لاعتبارات جماليّة، ولكنّ ذلك لا يعني بالضّرورة أنّه مقطوع الصّلة بالمناخ الفكريّ لزمانه، فهو عن وعي أو عن غير وعي منه بذلك، انعكاس للأسئلة الحارقة التي تؤرّق الوعي الجماليّ في محيطه.."

فرج الحوار(روائي تونسي)

 

متن القراءة:

1/ طيف: الوفاء

وهبنا المبدع السّوريّ منذر غزالي بنتَ قريحته "طيف"، قصّة قصيرة جدّا تحقّق فيها الوفاء لمقوّمات هذا الفنّ القصصيّ بشهادة نخبة من النّقّاد الأجلّاء المختصّين في تقييم النّصوص المندرجة ضمن هذا السّياق وتخصيصها بلقب القصّة الذّهبيّة في هذه الزّاوية..

ولعلّ الوفاء في هذه الأيقونة يتجاوز الجانب الفنّيّ إلى الجانب الاجتماعيّ حيث جعلها مصوّرة لواقع مجتمعه السّوريّ خاصّ وواقع عربيّ عامّ موسوم بالجور والحلم التّوّاق إلى الحرّيّة المسبيّ من طرف أخطبوط الحكومات ذات القرار السّليب المَسوس من الخارج ..

وإنّ قراءة عميقة لهذا النّصّ الأيقونة يجعلنا ندرك أنّ هذا الوفاء قد تمخّض وجعا وشهدا وضياء في آن وإنّه لَعَمري روعة من روعات قريحة أديبنا المبدعة المغداقة..

وللكشف عن هذا التّوأم الثلاثيّ للوفاء في قصّة طيف علينا الانطلاق من الدّرجة الأولى لقراءتها التّأويليّة وهو التّفكيك وأساسه التّفسير المعجميّ للمفردات الذي يكون المدخل الضّروريّ لمساءلة النّصّ عن المخبوء في بنيته العميقة .

وإنّ توقّفا عند أبرز مفردات النّصّ كشف ما يلي:

- طيف(5)

-طيف الخيال هو مجيئه إلى النّوم. كقول أميّة بن أبي عائذ:

ألا يا قومي لطيف الخيا   ل أرقّ من نازح ذي دلال

-الطّيف هو المسّ من الشّيطان،كما نجد في قوله تعالى:" إذا مسّهم طيف من الشّيطان"

-الطّيف هو الجنون كما يقول أبو العيال الهذلي:"فإذا بها وأبيك طيف جنون"

-الطّياف هو سواد اللّيل

- الطّفل والأطفال هم الذين ما لم يتمّ فيهم البنيان مرحلة النّضج والبلوغ

- أوصاهم: فعل أوصى هو أكثر الأفعال إدراكا للتحقّق من أفعال الطّلب لقوّة السّلطة النّفسيّة للموصي على الموصَى لذلك يُسمّى الطّلب الأخير للإنسان المحتضر وصيّة تُنفّذ دون جدال..

- أهلوهم: الأهل هم الدّائرة الأوسع من الأسرة وإن ضمّتها، لهم السّلطة المعنويّة المتوارية غير المعلنة، ويسمّى كلّ من اتّصف بصفة فصارت تُنسب إليه بأنّه أهل لها كأن نقول"أهل ثقة" و"أهل علم" و"أهل مكائد"....

-   ألعابهم: اللعبة هي عالم الطّفل الذي يدور فيه وحوله ومعها يشعر بوجوده واستقلاليّته ويتعلّم الحياة السّليمة إدراكا وحركة وبها تتحقّق سعادته في أبهى تجلّياتها..

- ملاكا: الملاك هو المخلوق السّاميّ المنزّه عن كلّ شائبة المرفرف في السّماوات العليا الذي لايحتاج صراطا يعبره إلى الفردوس لأنّه امتداد منه...

وإنّي انطلاقا من هذا التّوقّف عند ما ارتأيته مفاتيح لهذه الأيقونة القصصيّة "طيف" قد تجلّى لي ما يتمخّض به الوفاء فيها من وجع وشهد وضياء..

 

2/ طيف: الوجع

أنشأ الأديب منذر غزالي قصّته القصيرة جدّا "طيف" محمّلا التّيمة فيها وجع الوطن خاصّة والأمّة عامّة..

- الطّيف خيال: فيه يتجلّى وجع مكابدة الحلم، حلم شعب بالظّفر بالحريّة يذروه واقع مرير تسكنه سرائر خبيثة وغول خارجيّ تسلّل إليه ينخر عُمُدَه من الدّاخل، فيُقبَر الحلم ويظلّ رسمُه في الأرواح والأفكار ينخرها..

فالأطفال في النّصّ ذا يتخلّون عن ألعابهم التي تمثّل الحلم والوجود والفرح وهل يوجع الطّفل فقد أكثر من فقد لعبته؟ !

- الطّيف جنون: فلولا جنون الجور والهوس بالسّلطة والعرش ما قُبر الحلم وما كان الوجع، فهو رحم الأوجاع التي تكابدها شعوبنا ..

- الطّيف مسّ من الشّيطان: وهل كان الجور المجنون والهوس بالسّلطة لولا مسّ من الشّيطان أصاب النّفوس فلوّث نقاءها ونخر العقول فذهب برشادها؟

فهاهو الأخ لا يرجع ليأخذ أخيه إلى برّ أمل نجاة من الغارة فائزا بأمل حياة يلفّه الدّجى.. 

- الطّيف عتمة ودُجى: هو المتاهة التي باتت الشّعوب تضرب فيها على غير هدى تكابد حساكتها ووجعَ الخطى فيها ووجعَ الجهل بأوان انتهائها ووجعَ الإلحاد بوجود ذاك الأوان..

ما أمرّها أوجاع نتغرغر بها ونشرق فلا نحن ابتلعناها وألها وجودنا ولا تقيّأناها وأنهينا وجودها...

وما أروعه إبداع ينتسج من كلمات مختزلة حكاية تنضح بأوجاع الواقع لتهبنا شهد الأمل..

 

3/طيف: الشّهد

رغم ما شحن به الأديبُ المبدعُ منذر غزالي قصّتَه القصيرة ذي "طيف" من مجامر وجع تسكبها إلينا وفاء لواقع معيش يكابد كلكلَه ومعه نكابده، فقد ترك للشّهد فيها نبع منه يدفق..

نقرأ النّصّ فتثخننا سهام الألم به تنطق لكنّنا نجد أنفسنا أمام نهاية  هي بارقة أمل وبلسم لجراح الفكر والرّوح..

"رجال الانقاذ الذين يرفعون الأشلاء أقسموا أنّهم رأوا ملاكا قريبا من المكان.. طفلا صغيرا يحمل لعبته" : ذي الجملة هي قفلة النّصّ، قفلة ضمّت في جراب الوجع فرحا ظاهره نجاة طفل وباطنه دوام حلم بغد أفضل واعتراف بطهارة المكان/الوطن حتّى بات كالسّماء سموّا به تحلّ الملائكة وكالفردوس نقاء يسكنه الأطفال بلا حساب ولا مشقّة صراط..

لا أشهى من شهد الأمل ينبجس من قرب الوجع وعتمة القفر..

ولا أعظم من حرف يزرع الفرح في الرّوح ودمع وجع الحكاية ما جفّ من المقل بعدُ ..

ألا بوركت قريحتك أيّها الأديب المائز منذر غزالي..

 

4/طيف: الضّياء

إنّ روعة فنّ القصّة القصيرة جدّا يتجاوز جماليّة البناء وعمق الدّلالة إلى أنّه لا يكتفي بوظيفة الإمتاع والمؤانسة بل يتعدّاها إلى تحميل النّصّوص رسائل فكريّة لا حدود للمجالات التي تلجها أو الوجوه التي تُعرّيها..

وتلك الرّسائل هي منارات تنتصب على شواطئ الواقع لتشير إلى الصّخور المنشبة أنيابها تنتظر تيه سفن وجود تعبر يمّ الحياة، وتهدي إلى مرافئ غد آمن فيه تتحقّق عذاب الأماني..

وما حاد النّصّ "طيف عن هذا المنهج القصصيّ، بل تضمّخ بالوفاء له فتمخّض لنا عن ضياء..

إنّ الأديب منذر غزالي حمّل نصّه القصير جدّا هذا عدّة رسائل تشير إلى موضع العلّة في الموضوع المتناول وتفتح للقارئ أبواب الأمل. ولعلّ قراءتي المتواضعة هذه جعلتني أتبيّن منها ما يلي:

 

- موضع العلّة:

نقف في "طيف" ونحن قد غصنا في عمق يمّها على أنّ الحلم الذي تعلّقت به شعوبنا وهبّت إلى التّمسّك به كطفل يتشبّث بلعبته رغم هول الواقع وصوت الحقيقة الصّادحة بضعف عودنا، قد كان غضّا ما بلغ النّضج والاكتمال وأنّا استعجلنا قطافه فظفرنا بحموضة مرجفة وعلقم يأبى مذاقه أفولا..

ذا موضع علّة الوجع الذي تكابده أوطان الرّبيع العربي، كما أومأت إليه ذي القصّة القصيرة جدّا وأنا أستجديها بوحا..

 

- بارقة الأمل:

رغم زفرات الوجع في "طيف" تتناهى لقارئها المتعمّق ترانيم انتظارات لغد أفضل، ترانيم غنائيّة تردّد أنّ الحلم الذي يسكننا يظلّ كطائر المينيرفا  لا يفنى ومن أشلائه ينبجس صادحا بجمال الوجود لأنّه أسمى أبعادنا، وأنّه ما ضاع حقّ تباركه السّماء وتبشّر به رفرفة الملاك لأنّ طلب الحرّيّة يرقى بالإنسان إلى ذرى الفراديس وحياض الملائكة..

وما خفي عن فكري المستقرئ لذي الأيقونة من  رسائلها أعظم من أن تدركه ذي القراءة البسيطة..

 

ختاما

تظلّ القصّة القصيرة جدّا الفنّ الأدبيّ الذي يذهب بعض النّقّاد إلى اعتباره أدب الخاصّة أو خاصّة الخاصّة من القرّاء بما يتّسم به من ارتكاز على التّكثيف والرّمزاللّذين يجعلان الحقول الدّلاليّة للنّصّ متعدّدة ويدفعان القارئ إلى إعادة إنتاج النّصّ بعد جهد التّفكيك والتّحليل والتّأويل ليظفر برسائله..

وتظلّ القصّة القصيرة جدّا الأيقونة "طيف" تزخر بجمال وروعة وعمق حالت محدوديّة ذي القراءة عن إدراكها..

ويظلّ الأديب المبدع منذر غزالي يدهشنا ويمتعنا ويؤانسنا ويُضيء ما أعتم أمامنا من تيمات كلّما وهبنا ما تدفق به قريحته المائزة..

ونظلّ كلّما نهلنا من ذي القريحة نستزيد دفقا يروي الظّمأ..

 

زهرة خصخوصي/تونس

.......................

(1-3-4) مسلك ميمون: "مقوّمات الإبداع في القصّة القصيرة جدّا"(موقع آفاق العروبة)

(2) أحمد جاسم الحسين: "القصّة القصيرة جدّا، مقاربة بكر" 1997

(5) لسان العرب لابن منظور: ج8 ص243

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم