صحيفة المثقف

شهادات حية: أسترالية تعشق العربية.. تترجم مختارات شعرية للشاعر العراقي يحيى السماوي

بهدف كتابة رسالتها للدكتوراه عن "حكايات ألف ليلة وليلة" مركزة على الطريقة التي تعامل بها الأوربيون - وعلى تعاقب الأجيال- مع هذه الحكايات، سواء من ناحية اقتباسهم لبعض ما ود فيها، أو إساءة قراءتها،أو قراءة ما رغبوا في أن يروه فيها.

ومع انغمارها في قراءة الحكايات مرة تلو الأخرى، بالإضافة إلى دراستها للكثير من المصادر، أصبحت خطة رسالة الدكتوراه شديدة الجاذبية بالنسبة إليها، ووجدت نفسها تقع في عشق اللغة العربية، وهي تقول إنها بمجرد ابتدائها بدراسة اللغة العربية، وجدت نهمها يزداد للتعمق في فهمها بشكل جيد، ودراستها على نحوٍ مرضٍ. ومن هنا قامت بثلاث زيارات إلى اليمن ولبنان، كما قامت بزيارات عابرة لبلدان عربية أخرى. وهي إذ تعمل اليوم أستاذة في قسم الدراسات الشرقية بجامعة جنوب أستراليا تعتبر أن دراستها للغة العربية هي واحدة من أغلى التجارب التي قامت بها في حياتها.

وبعد أن حل الشاعر العراقي يحيى السماوي في ولاية جنوب أستراليا عكفت الدكتورة ساليس على دراسة مجاميعه الشعرية الأربع عشرة والتي حمل آخرها عنوان "نقوش على جذع نخلة"، وقامت بترجمة مختارات منها إلى اللغة الإنكليزية صدرت مؤخراً عن إحدى دور النشر في سدني بعنوان "ضفتان ولا جسر" وهو عنوان قصيدة للشاعر تصور اضطراره إلى مغادرة بلده العراق، وقد نشرها في مجموعته "الأفق نافذتي" ، ويقول فيها:

لم يمهلْني الرعبُ طويلاً

فَتَعَكَزْتُ ضلوعي قبل طلوع الشمسِ

طريداً

أبحثُ عن واحاتِ أمانْ

مرَّ الليلُ الأولُ في قريةِ "سيِّد جبار" ..

الثاني؟

في الصحراءِ..

الثالثُ؟

في "سفوانْ"

ثمَّ توارى النخلُ…المدن الثكلى..

والخِلاّنْ

 

وعلى الرغم من إجماع عدد من الذي يجيدون اللغتين العربية والإنكليزية على صدق وشفافية ونجاح الترجمة، نجد الدكتورة ساليس تقول في كلمة موجزة ثبتتها على الغلاف الداخلي الأخير ، أن اللغة العربية هي لغتها الثانية، ولكنها ليست مترجمة، وإن الصعوبة التي واجهتها هي أن القصائد تتحدث بروح عربية، وتعكس ظلالاً عربية، قد لا تنجح ترجمتها إلى لغة أخرى، وهي تتجسد في قوالب رفيعة ومرنة في آن، ولكن الظلال قد تبدو مراوغة عند الترجمة. ولم تنس الدكتورة ساليس أن تشكر في كلمتها أربعة عشر شخصاً تشاورت معهم أثناء قيامها بالترجمة معظمهم من العرب وبينهم الدكتور رغيد نحاس رئيس مجلة "كلمات" والدكتور عباس الزين.

قدم لهذه المختارات الشعرية الدكتور توماس شابكوت الأستاذ الأقدم في جامعة أديلايد ورئيس قسم الدراسات الشرقية فيها، وهو يقول في تقديمه :" أننا يمكن أحياناً أن نضع العالم في جيبنا، ولعل قصائد هذه المختارات تشعرنا بشيء من هذا القبيل، إذ أنها جاءت محملة بزخم من الوعي والمعاناة، وهي تجسد لنا بشفافية وعمق تجربة الشاعر وخلفياته ومصادر تكوينه الإبداعي والاجتماعي".

 

وعلى صعيد آخر يقول أن قصائد المجموعة تذكر من يقرأها بالمحاكاة الساخرة والمريرة التي كانت تعرضها شاشات التلفزة، وكيف كان العراق بتاريخه الطويل يتعرض للعبة جر حبل شريرة بين نظام صدام حسين وفئات متنافرة وفاتحين منتظرين، بالإضافة إلى الصور التي لا يمكن تصوير كم كانت تبعث من الحزن عما كان يشهده العراق تحت ظل حكم صدام حسين، قبل أن تقرع طبول الحرب ويرتفع دوي القنابل.

 

ويرى أن قصائد عدة في المجموعة عبرت بشكل مؤثر عن هروب مبدعي العراق من بطش الدكتاتورية، ومعاناتهم المريرة في المنافي، ويؤكد أن المترجمة إيفا ساليس استطاعت بصفاء وحس عالٍ، أن تنقل لنا ما كانت تنبض به القصائد من أحاسيس، فشعرنا بأننا نحياها ونتنفسها مع انثيال صور النخيل وانسياب نهر الفرات ووهج الصحاري.

 

وهو إذ يعترف بصعوبة ترجمة الشعر من لغة أخرى، يرى أن الأمر يزداد صعوبة عندما يتعلق الأمر بلغة لها رنينها الثقافي المتراكم مع الزمن، وهي لغة صعبة مليئة بالإشارات، ولكن المترجمة وضعت بين أيدينا المفاتيح، عبر كل ما بذلته من سعي جاد وقلق واعٍ.

 

ويتوقف الدكتور شابكوت عند قصيدة للشاعر بعنوان "من رماد الذاكرة" فيصفها بأنها طرية ومعبرة بشكل خطير، ومشحوذة بشكل رفيع، ويرى أن مقطعها القائل "أذكرُ أنَّ أُمي حَدَّثَتْني عن بيوت دونما أبواب"..يرى أن هذا المقطع يذكر العديد من الأستراليين بأيام الماضي والبراءة، حيث كانت الأبواب تترك بأمان دون إقفالها، ويعبر عن إعجابه الشديد بالمقطع الأخير من القصيدة والذي قال فيه الشاعر:            

               على ما سوفَ يذكر بعدنا الأبناءْ

               إنَّ الأرضَ

               أضيقُ من حبالِ الشنقِ في بغدادَ

               والماءَ الفراتَ له

               مذاق الصّابْ..

               وأنَّ الجارَ يخشى جارَهُ

               وتخافُ من أجفانها الأهدابْ

 

وقبل أن يختتم مقدمته، يعود بذاكرته إلى 1983عام عندما حضر مهرجاناً شعرياً أقيم في ملبورن شارك فيه شاعر يوناني اسمه ديميتري تاسالوماس لم يكن معروفاً عل الإطلاق في أستراليا، ويذكر أنه ناقشه وناقش مترجمه فيليب كروندي حول عدم جدوى نشر مجموعة شعرية له. ولكن عندما نشرت المجموعة بعد مرور عام واحد ضمن منشورات جامعة ولاية كوينزلاند الأسترالية، جذبت الأنظار بسرعة، ونالت بعد وقت قصير من صدورها جائزة مجلس الكتاب الأسترالي، ومنذ ذلك الوقت اعتبر هذا الشاعر ولا يزال شاعراً مهماً في أستراليا.

ويختتم مقدمته بالقول: عندما عرضت علي قصائد الشاعر السماوي لأول مرة واجهت صدمةً مماثلة من الاعتراف، ووجدت أن بيننا في مدينة أديلايد الأسترالية شاعراً عراقياً يمتلك تجربة غنية يرفدها إحساس مُقْنع  وعميق، وقد كان حتى في الترجمةِ، شاعراً له صوته المطمئن والمميز. وآمل أن يكون اختيار ايفا ساليس مقدمة لأن تساهم تجربة الشاعر في إغناء تجربتنا، بعد أن بدأنا نتعرف عليه ونُقدّرُه.

              

      خالد الحلِّي

ملبورن

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1270 الاثنين 28/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم