صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: عن ماهية لتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر

yousri abdulganiفي معنى الفكر الإسلامي: لكي يتضح لنا ما هو المقصود بالتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، نحب أن نشير إلى مدلول مصطلح (الفكر الإسلامي)، فالفكر عموماً هو: إعمال العقل في موضوع من الموضوعات كي نعرف مقوماته وخصائصه، وما يتعلق به، أو هو كما يقول الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات): قوة التوصل إلى المعلومات، والتفكر هو جولان تلك القوة بحسب نظر العقل .

أو هو كما يقول الجرجاني في كتابه (التعريفات): ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى المجهول، أي أن الفكر يتضمن محاولة تحليلية للتوصل إلى المبادئ أو العناصر الأساسية لموضوعه، ومحاولة تركيبه إبداعياً، وبمعنى آخر البحث عن المطالب المجهولة أو حلول المشكلات التي يتصدى لها الفكر ولعل هذا ما يقصده الكفوي أيضاً بقوله في كتابه (الكليات): " الفكر حركة النفس نحو المبادئ، والرجوع عنها إلى المطالب "

ولتأكيد الجانب التحليلي في الفكر يحكي لنا الراغب الأصفهاني عن بعض الأدباء حيث قال: الفكر مقلوب عن الفرك لكي يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها .

وقريب من هذا قول ابن رشد: "من لم يعرف العقد لم يعرف الحل "، وقد قرأنا في بعض الآثار: " حسن السؤال نصف العلم "

وخلاصة ما سبق: أن الفكر هو حركة عقلية تثيرها مشكلة أو مشكلات معينة، تنطلق مستهدية بمبادئ أو حدود مقبولة لدى المفكر، ولدى البيئة التي يتوجه إليها بالخطاب، بغية الوصول إلى حل أو حلول لتلك المشكلات .

إذن فلا بد في الفكر من مشكلة أو سؤال يطرح على العقل، ولا بد فيه من منهج أو طريقة ما للتحليل والتركيب، وهو عادة لا يخلو من مرجعية معينة (إطار مرجعي)، أو معيار ما يتعارف عليه في البيئة العقلية للخطأ والصواب أو المقبول وغير المقبول .

ويكون الفكر إسلامياً إذا كان ثمرة لعمل عقلي يعالج مشكلة من مشاكل المسلمين في أي عصر من العصور، مستهدياً بتقاليد العلماء المسلمين في النظر والاجتهاد العقلي، وملتزماً بالقيم الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله، وربما يوضح ذلك قول أستاذنا الدكتور / أبو ريده (رحمه الله): " الفكر الإسلامي هو اجتهادات مفكري الإسلام في بحث مختلف المسائل بالاستناد إلى أصول الإسلام الكلية بحسب ما فرضه عليهم القرآن الكريم من التفكير والنظر، وطلب الحقيقة في أمور الدين والفكر والحياة .

 

عن معنى التجديد:

أما مسألة التجديد أو معناها فقد يتضح لنا المقصود بها إذا استحضرنا أمرين مهمين: ـ

الأمر الأول: مفهوم الاجتهاد، وهو في اصطلاح الأصوليين: بذل الفقيه جهده العقلي في استنباط حكم شرعي من دليله على وجه يحس فيه العجز عن المزيد

الأمر الثاني: هو حديث المجدد الذي رواه أبو داود وغيره، حيث قال في السنن: " عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها "، وقد صحح الأئمة هذا الحديث حتى نقل بعضهم الإجماع على تصحيحه .

إذن فالتجديد والاجتهاد العقلي في نطاق الشريعة الإسلامية واجب العلماء والمصلحين في كل زمان ومكان .

إن التجديد بهذا المعنى ضرورة دينية شرعية وحقيقة واقعية عملية، وقد وضع علماء أصول الفقه هذه القضية في شبه معادلة رياضية، حيث قالوا: الشريعة صالحة لكل زمان ولكل مكان، ونصوص الكتاب والسنة محدودة، وحوادث الناس ووسائلهم إلى مقاصدهم متجددة وغير محدودة، ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بأحكام الحوادث المتجددة غير المحدودة، إلا بالاجتهاد .

وحديث الصحابي الجليل / معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، من خير الشواهد العملية، حتى في زمن الوحي، لوجود ممارسة الاجتهاد ومحدودية النصوص، وعدم وفائها بحل مشكلات الناس في الأمكنة والأزمنة إلا من خلال الاجتهاد السليم ـ الذي ينطلق من الثوابت الإسلامية ـ الذي بهدف إلى صياغة الحلول الناجعة لمشكلات الناس في ضوء المبادئ العامة التي تتضمنها النصوص .

 

الأدلة الشرعية التي يجب اتباعها (بين الثابت والمتغير):

تجديد الفكر الإسلامي ضرورة دينية وواقعية معاً، ونود أن نوضح الآن إحدى القضايا المهمة التي تشتد الحاجة إلى إيضاحها في إطار الكلام عن التجديد، ألا وهي: التميز بين الجانبين الثابت والمتغير في تراث الإسلام .

فأما الثابت، فهو ما يجب على الجميع الالتزام به واحترامه، وطاعته وإتباعه، وعدم إبطاله أو إهماله، أو تأويله تأويلاً خاطئاً، أو الادعاء بتجديده تجديداً مزعوماً، والثابت هو ثلاث أمور: كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، و ما أجمعت عليه الأمة .

قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيراً وأحسن تأويلا . } [ النساء: 59].

قال العلماء: الرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد موته هو الرد إلى سنته الصحيحة، وليس لقائل أن يقول: إني اتبع كتاب الله وهو يكفيني !! .

وعليه قال سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]

كما صدق الله تعالى إذ يقول: {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} [النساء: 80]

وهل يسع المؤمن الصادق الإيمان أن يخالف أمر الله عز وجل، أو أمر رسوله المرسل هدى ورحمة للعالمين ؟، وماذا بعد الحق إلا الضلال المبين .

يقول تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36] .

هذا، وقد حذر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) ـ وهذا من دلائل نبوته ـ من هؤلاء المتظاهرين بالتمسك بالقرآن الكريم المهملين للسنة النبوية المطهرة، وذلك فيما رواه أبو داود والترمذي والحاكم، عن المقداد بن معد يكرب (رضي الله عنه )، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكة يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، وله أن يعقبهم بمثل قراه " .

ومما استقلت به السنة النبوية الصحيحة في التشريع: توريث الجدة السدس، وقد أجمعت عليه الأمة، وهو ليس في الكتاب، ومنه تحريم الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها، ومنه أيضاً مشروعية الشفعة والمساقاه، وغيرها ..

وأما الإجماع فهو اتفاق جميع أهل الاجتهاد من أمة الإسلام في عصر من العصور أو زمن من الأزمنة على حكم شرعي، إذاً فيجب على الأمة اتباعه وعدم المخالفة عنه، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115]

قال العلماء: من اتبع غير سبيل المؤمنين، وقد خالف الحكم المجمع عليه (والله تعالى أعلم) .

 

د. يسري عبد الغني عبد الله - باحث وخبير في التراث الثقافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم