صحيفة المثقف

منتهى عمران: قصيدة (اشك حتى) للشاعرة وفاء عبد الرزاق

wafaa abdulrazaq3تمهيد: لقد نالت الأساطير القديمة حظوة في استخدام رموزها في الشعر العربي لدلالاتها العميقة وارتباطها بحياة الناس مباشرة وخاصة الالهة منها والتي تتخصص كل منها بجانب محدد من هذه الحياة ويركز الشعراء العراقيون على هذه الرموز أكثر من غيرهم كونهم اصحاب حضارات قديمة امتلأت بالأساطير والرموز ..

ومن الرموز التي شكلت مساحة واسعة في الحضور لدى الشعراء وقصائدهم هو الاله (تموز أو دموزي) والتي شغلت حكايته الكثير من الأدبيات والتي تتلخص كما يلي:

من الأساطير الشرق أوسطية العائدة لمنتصف القرن الثالث قبل الميلاد :

تزوج دوموزي الراعي من الإلهة إنانا ـ عشتار ـ لكن هذا الزواج سيكونُ السبب في هلاكه في الجحيم وذلك عندما نزلت زوجته إلى العالم السفلي لتنتزع سلطانَ أختها أريشكيغال لكنها فشلت وكان ثمن عودتها من عالم الأموات أن تُسَلِّم بديلاً عنها ؛ البديل الذي اختارته كان زوجها المسكين دوموزي ـ تَمُّوز ـ

مات دوموزي، وبموته يدب الاِصفرار في النباتات وتسير الحيوانات نحو الاِنقراض وتعبس الطبيعة وتُرَنَّم أغاني الحزن بعد أن أصبح الجحيم مسكن دوموزي

الندم دبَّ في قلب أنانا فتعاونت مع أُخت دوموزي كيشتين ـ آنا ـ كرمة عنب السماء، لتنشله من براثن الموت

بعودة دوموزي الدورية إلى الأرض تدب الحياة من جديدٍ وتعمُّ المسرة كُلَّ الكون وتتجدد الحيوية في كُلِّ المخلوقات، فتنمو الأعشاب والأزهار لتغطي المروج، تتحرك الأجنة في الأرحام وتكبر عناقيد البلح وترنم الأناشيد الفرح

.إنها دورة الفصول الأربعة

مصدر النص : المثولوجيا السورية ـ أساطير آرام ـ للدكتور وديع بشور. الطبعة الثانية صفحة 235 ـ 245 .

ولكثرة حضور هذا الرمز لدى الشعراء المعاصرين كان هناك مجموعة اطلق عليها

الشعراء التموزيون:

(الشعراء التموزيون مصطلح أطلقه جبرا إبراهيم جبرا علي کلّ من بدرشاکر السياب خليل حاوي، يوسف الخال، وأدونيس وجميعهم کانوا من شعراء مجلة الشعر. )

 

دموزي في قصيدة (أشك حتى)

تنطلق الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق والتي تنتمي لمدينة البصرة منذ افتتاح قصيدتها بالنداء على دموزي اذ تقول:

دموزي.. يا دموزي

أسألُكَ يا سليلَ اللطمِ

كيفَ سيكونُ النواحُ

حين يُصبحُ الوطنُ جنازةً؟

نلاحظ هنا الصفة التي اطلقتها الشاعرة على دموزي (سليل اللطم) حيث أن اللطم والنواح كان من الشعائر التي مارسها العراقيون لاستعادة دموزي وعودة الحياة والخصب بعودته والغريب ان هذه الطقوس استمرت لصيقة بطبيعة الشخصية العراقية على مر العصور حتى وقتنا الحاضر حيث تقام مجالس العزاء للموتى يتخللها النواح واللطم وقراءة الأشعار الملحنة بالحان حزينة. وكذلك طقوس عاشوراء في شهر محرم التي تحاكي واقعة الطف التي قتل فيها الحسين حفيد الرسول محمد (ص) حتى ذهب بعضهم الى أنها امتداد لطقوس تموز ..

لم تمر على العراق فترات من الاستقرار عبر تاريخه الطويل لاسباب كثيرة لامجال لذكرها هنا ومعظمها معروف لدى القاريء. ومما دعا الشاعرة هنا الى نداء دموزي هو الوضع الحالي الذي يعيشه العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 وماحصل من قتل ومفخخات ودخول عصابات داعش الاجرامية واحتل ثلث العراق وانتشار الذبح والتعصب الطائفي .. الخ حتى تصورته الشاعرة بالجنازة.

لقد قسمت الشاعرة قصيدتها الى اربعة اقسام كان الفواصل بينها هي مناداة لدموزي لتؤكد استنطاقها للرمز معبرا عن مايشغل بالها فقد نادته ثلاث مرات لتسأله مرة وتشكل صورا لحال الوطن والماسي التي يعيشها مرة أخرى وتطلق العنان لمشاعرها تجاه مايحدث وشكواها من سوء الحال حتى تصل الى الجزء الأخير من القصيدة لتطلق صرختها المدوية فقد كان التتابع التصاعدي للقصيدة مشدودا مع دموزي :

ساصرخُ بكَ: يااااااااااااااااااااااااااااااااااادموز

لتطلب منه أن يفعل من أجل هذا الوطن ماعجز أن يفعله أبناؤه فتملي عليه قائمة باحتياجاته ليعود كما عاد دموزي من الموت ليبعث الحياة في الأرض والبشر من جديد .. لكن الشاعرة تستدرك لتخرج من اعتقادها فتكتب :

هل تعتقدُ حقاً أنَّكَ القادرُ على الحراكِ؟

لتؤكد حقيقة أنه ليس الا رمز لاييستطيع فعل شيء ..

الشاعرة وفاء كانت امرأة قوية بمناداتها للاله دموزي كعادة النساء لايشعرن بقوتهن الا مع الالهه فيلجأن لها لبث الشكوى فهي ثكلى بوطنها وعاجزة عن فعل شيء له.

 

 

وهنا القصيدة كاملة

أشكُّ حتّى...

دموزي.. يا دموزي

أسألُكَ يا سليلَ اللطمِ

كيفَ سيكونُ النواحُ

حين يُصبحُ الوطنُ جنازةً؟

أولئك الذين ناحوا قبلي

هل كانت معهم أمي ”الفاختُ؟ "1"

هي حلوةٌ كمنجلٍ في حصادٍ

قادمةٌ من عينينِ خالدتينِ.

دموزي.. يا دموزي

شجرةُ السدرِ قصيدةٌ عرجاءُ

كدتُ أتجرَّدُ من حزنٍ عميقٍ

لكن الكلمةَ نسيتْ شكلَهَا

وتحولتْ إلى مقصلةٍ

تبادلتِ التهانيَ تلكَ الوجوهُ

وبحرارةٍ أكثرَ حينَ انحشرتِ الشظايا

بعينِ البتولِ.

دموزي.. يا دموزي

لا تساومِ العاتياتِ بطفلي

كلُ شيءٍ يموتُ إلاَّ وجههُ السرمدي

خالدٌ جرحُه ُ

يضيءُ الكئيبَ والمؤجَّلَ منَ الصّوتِ

خالدٌ جرحُه ُمثلَ سفينةِ نوحٍ

إذْ ترتعشُ الأمواجُ حينَ ترى

وشمَ الوطنِ على ساعديهِ.

سَلْ شفتيكَ يا دموزي

أتهجرُ المدنُ المدنَ؟

أيرتحلُ الوطنُ عنِ الوطنِ؟

حينَ جمَّلَكَ الموتُ

مررتُ بعشرٍ من مراياكَ

فلمْ أجدْ غيرَ كفني

كيفَ سيكونُ النواحُ اليومَ؟

وكيفَ أرحلُ عن نفسيَ

تاركةً لنفسي مرثية ًوجنازةً؟

ساصرخُ بكَ: يااااااااااااااااااااااااااااااااااادموز

تحوَّلْ إلى قطراتِ عطرٍ

واكتنزْ بكَ

سينتحرُ الجمالُ إنْ لمْ تمرْ

خُطَّ على النظراتِ ابتداعَ الصورِ

قدْ أشعَّة السحابِ

امطرْهَا شمساً

عندَ النهرِ تنتظرُ أنثى السِعدةِ "2"

أرجوانَكَ والياقوتَ

حرّكْ قِمَّةَ الجبلِ والسهلِ

وانفخْ صورةَ اللَّمعانِ

جُلَّ ما يُدهشُني صمتُكَ المديدُ

والبقعةُ السوداءُ في ثوبِكَ.

هل تعتقدُ حقاً أنَّكَ القادرُ على الحراكِ؟

صرتُ أشكُّ في الشكِّ العاذلِ المحرِّضِ

صرتُ أشكُّ حتّى في اقتدارِ السماءِ.

 

....................

1. "الفاخت": نوع من أنواع الحمام الذي ينوح بصوت حزين وهو اذا مشى باعد بين جناحيه.

2- "السِعدة" :(بكسر حرف السين) نبات بري له رائحة زكية تشبه رائحة الهيل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم