صحيفة المثقف

سمير خلف الله: النشاط البحري للجزائر في العهد العثماني.. حروب بحرية مشروعة أم قرصنة ولصوصية؟ (2)

الحقيقة المغيبة مجاهدو بحر لا قراصنة: بعد كل ما سبق نقول : بأنه ليس من الموضوعية في شيء أن نعتبر أعمال بحارة خير الدين بربروسا في المتوسط وفي المحيط الأطلسي عمل لصوص، في حين أن أعمال القراصنة المسيحيين واستلائهم على السفن الإسلامية عملا بطوليا حضاريا . وليس من الصواب اعتبار أعمال خير الدين أعمالا همجية . ذلك أن كل القوى المتعادية تصبح لها كل المواقع العسكرية والمدنية أهدافا عسكرية مشروعة زمن الحرب وعلى حد سواء، وقنبلة الو م أ لليابان بالقنبلتين الذريتين خير شاهد على هذا . فلماذا أعمالهم هم دوما أخلاقية وحضارية وأعمال غيرهم دوما بربرية وهمجية؟ إنهم هنا ينطلقون من الأحكام النمطية المسبقة عن الآخر الوثني والقذر من وجهة النظر المسيحية والهمجي والذي لن يأتي منه إلا ما هو قبيح وشرير وهذا انطلاقا من الموروث اليوناني الروماني . وهذا ما يتحكم في صياغة آرائهم حول البحارة الجزائريين خلال العهد العثماني .

كما أنه يجب علينا أن نبتعد عن نعت الحروب البحرية أو الجهاد البحري للجزائر خلال العهد العثماني بالقرصنة أو ب course وهذا للاختلاف الجوهري بين الظاهرتين وإنما الأولى تسمية كل ظاهرة وباسمها الحقيقي فكما ترجم الغرب الخوارزميات إلى algorithm بحيث كتب اللفظ العربي بأحرف لاتينية فقط، وغير هذا من آلاف الكلمات التي اقتبسها من اللغة العربية ومن لغات العالم الأخرى فنفس المنطق يجب أن يتعامل به مع ظاهرة الجهاد البحري الجزائري خلال الحقبة العثمانية . وهذا المنطق معمول به في كل لغات العالم فكم من مصطلح دخل العربية بحيث عربت طريقة كتابته مع احتفاظه بأصله، كما هو الحال مع مصطلح فلسفة وجغرافيا مثلا . وهذا لكي نتجنب اللبس الذي يمكن أن يحدث في المفاهيم، مما يمكن أن تنجر عنه نتائج وخيمة . وهذا ما شهدناه بأم أعيننا فنتيجة اعتبار الجهاد البحري الجزائري قرصنة فهو قد اكتسب مدلولا سلبيا في نظر الأوروبيين مما نتج عنه احتلال بغيض طال الجزائر لأكثر من قرن من الزمن . 

كما يجب علينا أن ندرك بأن هناك فرق كبير بين الجهاد البحري وبين القرصنة، ذلك أن المجندين ضمن فرق course والمعروفين ب " Les corsaires " هم رجال مدنيون يصرح لهم وقت الحرب بخوض غمارها وهذا بتصريح خاص من حكوماتهم والتي تمنحهم« lettre de commission »  أو  « lettre de course » أو ما يرادفها في الإنجليزية  Letters of Marque ولكن من دون أن يكونوا جزء من جيوش تلك الدول . أما القراصنة فهم لصوص البحر وكلنا نعرف أسلوب عملهم وما الفوائد التي يرجونها من وراء لصوصيتهم تلك . وهذه المفاهيم لا تنطبق مطلقا على الحروب البحرية أو الجهاد البحري الجزائري خلال العهد العثماني . بحيث أن الذي يجند ضمن الأسطول الجزائري ليس من المدنيين بل هو جزء من الأوجاق، أي من البحرية الجزائرية في العهد العثماني . والأوجاق يقابلون الإنكشارية جيش البر، ولئن كانت هذه الأخيرة في البر فإن الأوجاق هم جنود البحر وهم جيش منظم تحت إمرة قيادة وكيل الخرج وتحت السلطة المباشرة للداي . ولهذا فإننا نرى بأنه لا رابط بين course أو القرصنة وبين الجهاد البحري الذي مارسته البحرية الجزائرية طوال الحكم العثماني في الجزائر .

كما أن هناك فرق آخر بين الجهاد البحري الجزائري وبين ظاهرة course حيث أن Les corsaires مهامهم محددة، وتتمثل في مهاجمة سفن العدو والسيطرة عليها ولا شيء غير هذا . في حين أن البحرية الجزائرية مهامها متعددة، فهي حامية للدولة الجزائرية ولسواحلها، وهي عامل تحرير للدول المجاورة للجزائر كتونس وليبيا، والضامنة لاستقلالها والدفاع عنها . كما أنها حليف رسمي وقوي للدولة العثمانية في حروبها ضد أعدائها . وهي في نفس الوقت حليفة لبعض الدول الأوبية وهذا حسب المزاج الدولي، كما هو الحال مع فرنسا في عهد كل من خير الدين باشا وفرانسو الأول . وأيضا مدت يد العون للموريسكيين المضطهدين وحاولت إنقاذهم وتحريرهم من النير الإسباني وبكل الوسائل وفي مختلف المناسبات ومن بين أعضائها كان ينتخب حاكم الجزائر وخاصة في عهد البيلربايات كحسن باشا بن خير الدين  . كما لا ننسي بأن الهدف من وراء الانخراط في الجهاد البحري للجزائر العثمانية هو للحصول على شرعية يتمكن صاحبها من الوصول إلى مركز القرار في دار السلطان بالجزائر العاصمة، ذلك أنه كلما حقق المجاهد البحري انتصارات أكبر كلما زاد وزنه شعبيا وثروته المادية ووجاهته الاجتماعية . وهذه الأمور هي من تكفل له الوصول إلى المناصب العليا في الدولة كمنصب الداي أو الباي . وما كان هذا الأمر ضمن أهداف من ينخرطون في حروب course الأوروبية . وكل هذا يجعل من المحال أن يكون الجهاد البحري هو نفسه حركة Les corsaires والتي عرفتها أوروبا خلال نفس الفترة المدروسة في مقالنا هذا .

وصدقت العرب قديما وهذا حينما قالت رمتني بذنبها وانسلت، وإلا كيف يصفون الجزائريين بكل تلك الشرور ويتناسون عمدا شرور قراصنتهم، سواء كان هذا في العهد القديم أو في العهد الحديث، وهل غزوات الوندال البحرية يمكن للتاريخ أن ينساها؟ ومن بعدهم القراصنة البنادقة، أو يمكن أن يتجاوز التاريخ قرصنة إسبانيا المسيحية ما بعد الملكين الكاثولكيين ثم إن : " كل الجنويين الذين أفلسوا قد أصبحوا قراصنة " 25 وهذا المسلك منهم طبعا بهدف استعادة الثروة المفقودة ومعها السلطة السياسية والوجاهة الاجتماعية . ولهذا فقد صدق مولاي بلحميسي وهذا عندما أخبرنا بأن المسيحيين لم يكونوا ضحايا فقط 26 وإنما كانوا جناة أيضا .

إن النظرة النمطية السيئة للبحارة الجزائريين وكما رسمتها الكتابات الرسمية الغربية، وأثرها في المخيال الجمعي الأوروبي عامة . فما هم وكما جاء في كتاب تاريخ البحرية الجزائرية إلا مجموعة من اللصوص والسراق وفرق من القراصنة الناهبين والذين لا يعرفون الرحمة، وما هم إلا فزاعة الأطفال الصغار والعجائز، وما هم إلا مجموعة من القراصنة الذين يثيرون الرعب في نفوس أعتى البحارة الأوروبيين وما هم إلا حثالة الإمبراطورية العثمانية، وما هم إلا مجموعة من الوحوش البحرية الطليقة، وما هم إلا مجموعة من النسور المنطلقة من أعشاشها القذرة 27 . وفي هذا النص تعريض وشتم مباشر لأتراك الجزائر، وهذا من خلال التعرض لأصولهم المتواضعة والتي ينحدرون منها، وهذا عندما يعتبرونهم حثالة الإمبراطورية العثمانية، وكأن فرنسا فيما بعد قد جلبت لنا معمرين من نوعية خاصة وكلنا نعلم بأنهم لم يكونوا سوى من حثالة المجتمع وفضالته، وكيف نسي هؤلاء طبيعة المعمرين الذين عمروا أستراليا في بدايات احتلال بريطانيا لها، ألم يكونوا مجرد مجموعات من المجرمين المحكوم عليهم بمحكوميات مختلفة، لما اقترفوه من جرائم في حق أوطانهم ومواطنيهم؟ . على الأقل أتراك الجزائر لم يكونوا من هذه الأصناف المقيتة .

إن هذه النظرة الدونية لنا ما هي إلا استمرار للنظرة العنصرية التي يرمق بها الأوروبي في تلك الفترات من التاريخ غيره من شعوب الأرض الأخرى، وهذا تحت تأثير الأفكار والنظريات الخاطئة والتي يعتنقها والتي هي من تبلور وجهة نظرته تجاه الآخر . وهذا ليس بالأمر الجديد عنهم فقد ورثوها من اليونان وروما القديمة ثم زادت المسيحية الغربية تأصيلا لها على اعتبار ثنائية البربري الهمجي واليوناني أو الروماني المتحضر ثم المسيحي الورع المسالم والوثني القذر والهمجي . فما نحن إلا أتباع محمد ص المجدف حسبهم والذي انشق عن الكنيسة وأنشأ هرطقة جديدة تسمى الإسلام، والذي نشرها بإغواء غيره من الرجال وكان هذا بالنساء وبحد السيف . وكل هذه الشرور وغيرها كثير وبصورة آلية قد تم اسقاطها على البحارة الجزائريين في العهد العثماني . ولئن كان البحارة الجزائريين حقا بتلك الأوصاف فهل يخلو المجتمع الأوروبي منها؟ . وماذا عن محاكم التفتيش المرعبة وجرائمها؟ وماذا عن رجل السمن الذي كانت تخوف به الأمهات الأندلسيات أبنائهن الصغار . وماذا عن جرائمهم المنظمة وهي جرائم دول وشعوب وحضارة تشوه وجه الاستعمار المشوه أصلا . وكيف نسى الأوروبيون ما فعلوه في الكونغو من جرائم لا يمكن تعدادها في حق الأطفال والنساء والعجزة، مما لا يمكن أن تأتيه الضباع في البرية فما بالك بالأسود .

والسيد مولاي بلحميسي يرد في كتابه السالف الذكر على هذه المقالات والتي تقطر حقدا وبغضا وتعصبا وعنصرية ضد البحرية الجزائرية في العهد العثماني . ورده هذا نجده في الصفحة 17 من كتابه المذكور آنفا والذي نقتبس منه دوما . فنجده في نفس الصفحة من هذا الكتاب يعدد لنا وبالأسماء القراصنة الأوروبيين والذين عاثوا فسادا في السواحل الإفريقية بداية من البحر المتوسط والرأس الأخضر وإلى السواحل الأمريكية ِمن أمثال القرصان يوحنا بارت والسير فرانسيس دراك مثلا 28 . كما أنه وفي نفس الصفحة يعدد لنا الفظائع التي ارتكبها القرصان الثاني في القرن السادس عشر ضد السفن التجارية والمصير المؤلم لطاقمها . كما يذكر لنا ما ألمَّ بالبحارة الهولنديين على يد القراصنة الإسبان، حيث لم يكتفوا بقتلهم فقط بل إنهم قد ملحوا رؤوسهم ووضعوهم في سلال بهدف عرضهم 29 .

وفي نفس هذا المجال نسوق هنا شهادة الدكتور جمال قنان والذي يخبرنا بأن مسألة القرصنة قد أغرقت في بحر من الزيف والتضليل والتحامل، إلى درجة أن كلمة القرصنة أصبحت مرادفة في المفهوم الشائع لكلمة اللصوصية . وهذا التسميم هو في الواقع عبارة عن استمرار للحملة الصليبية السياسية على المسلمين وتطوير الأسلوب من أساليب شحذ الأذهان الذي مارسته الكنيسة في هذا العصر فبعد كلمة الكفار ونجسة بيت المقدس ... تطور أسلوب المجابهة الدعائية ضد المسلمين في هذا العصر لتحتل صفة القرصنة واللصوصية البحرية مكانة الصدارة في هذه المواجهة ... لقد حظيت الجزائر بحصة الأسد في هذا التنديد والتشنيع إلى أن أصبحت توصف بكونها وكر اللصوصية البحرية والقراصنة 30 .

نعم إن البحارة الجزائريين في العهد العثماني لم يكونوا أبدا لصوص بحر، وإنما هم كانوا يشكلون مركز قوة موازي تماما للإنكشارية، وبعيدة عنها ولا تخضع لها ولا تأتمر بأوامرها . وإنما هم يتلقون الأوامر من السلطان رأسا بإسطنبول في المرحلة الأولى من عمر الجزائر العثمانية، والإنكشارية في الجزائر لم تحاول القضاء مطلقا على مجاهدي البحر الجزائريين، وذلك نظرا لكونها كانت تحتاجهم كدرع يقيها من الغارات الأوروبية . وكذلك هم مصدر ثروة لها بما يجلبونه من غنائم البحر، ثم إن سكان الجزائر كانوا إلى جانبهم، إذا ما وضعنا في الاعتبار العلاقة التي تتوتر بين الحين والأخر مع الانكشارية نتيجة تجاوزاتهم . ونحن هنا نتحدث عن الفترة التي سبقت استيلائهم على مقاليد الحكم في الجزائر وإدارته .

ونحن هنا لا نلوم البحاثة الغربيين على استخدامهم لمصطلح القرصنة والقراصنة، فهم ينطلقون مما هو متعارف عليه بينهم ولا يوجد له بديل عندهم . أي أنهم ينطلقون من منظومة القيم الأغريقو رومانية والتي استقر تراثها على مصطلح القرصنة البحرية ولم يكن يعرف شيئا اسمه الجهاد البحري . ولذلك فكل عمل بحري من طرف معادي لهم، لهو قرصنة بحرية ولا شيء غير هذا سواء مع الرومان والقراصنة الإيليريين أو بين  مختلف الشعوب الأوروبية والقراصنة الفايكننغ Vikings . في حين أن الجزائريين خلال العهد العثماني كانوا ينطلقون من تراثهم الخاص بهم، والذي يضع أعمالهم الحربية في البحر المتوسط ضمن خانة الجهاد المقدس لدفع الأعداء وحماية بيضة الإسلام . والذي بدأ مع معركة ذات الصواري 35 هـ / 655 م وهي أول معركة بحرية للمسلمين ثم استمر مع موسى بن نصير مرورا بالفاطميين وبالمماليك البحريين وبالمرابطين والموحدين وهذا لأجل السيطرة على المتوسط . وصولا إلى الأتراك العثمانيين في حوض البحر المتوسط بجزئيه الشرقي والغربي . والمسؤولية هنا نتحملها جميعا لأننا سلمنا بأحكام غيرنا في ما يخص هذه المسألة ولم نقوم بالحفر فيها، وهذا لكي نستجلي الحقيقة بعيدا عن الزيوف والادعاءات الكاذبة . فمثلا عند الحديث عن خزينة الداي أو الجزائر فإنهم يقولون بأن عائداتها جاءت من القرصنة البحرية التي يقوم بها المور المغاربة، ولا يفرقون هنا مطلقا بينها وبين لصوصية البحر بحيث أنهم يستخدمون نفس المصطلحين لنعت الظاهرتين وكان الأولى بهم أن يفرقوا بين القرصنة وبين اللصوصية البحرية وبين الجهاد البحري، فنحن أمام ثلاث ظواهر تختلف كل واحدة عن الأخرى اختلافا جذريا .

إن ما كان يقوم به الجزائريون في عرض المتوسط لهو حرب بحرية، كانت تجرى وفق القوانين الدولية ولعله قد التبس على الدارسين الأوروبيين وهذا حينما رءوا بأن هناك أعمالا عسكرية فردية تنطلق من سواحل شمال إفريقيا، نحو الدول المعادية والغازية والمعتدية على المنطقة، فصنفوها على أنها قرصنة، وذلك لتشابهها مع أعمال القراصنة من بني جلدتهم . ولكن الذي دفع بالجزائريين إلى هذا النوع من الحروب البحرية هو عدم انتظامهم تحت لواء دولة مركزية قادرة على تزويدهم بالعدة والعتاد والرجال . وهذا ما سوف يحصل عندما تصبح الجزائر جزء من الدولة العثمانية . فينتقلون بذلك من مرحلة الجهاد الفردي إلى مرحلة الجهاد الجماعي مستندين على الباب العالي . كما هو حال محاربي أوروبا المسيحية والذين يعتمدون هم الآخرون على ملوكهم .

 

نعم لقد كانت حربا بين الجزائر والضفة الشمالية للمتوسط، لا قرصنة كما يروج لها البعض . والدليل هو تلك العمليات الحربية الطاحنة وبآلاف الجنود عند أبواب وهران، وكان مبرمج أن تنتقل قوات جزائرية إلى الساحل الإسباني لمؤازرة الثورة الأندلسية الكبرى وهذا على عهد قلج على والذي كان تحت امرته جيش قوامه 80 ألف، فهل بهذا الجيش تكون عمليات قرصنة أية سخافة هذه . هذا إضافة إلى ترسانة المدافع والبنادق، هذا عمل جيوش منظمة لا عمل عصابات من القراصنة . إضافة على كل هذا فالقراصنة لهم أوكارهم التي يتخفون فيها، ولكن مجاهدي الجزائري أو محاربي البحر لهم ثكناتهم وقواعدهم العسكرية والتي يرجعون إليها، وهذا عمل جيش دولة لا عصابة من لصوص البحر . وفعلا فقد أنزل علج على معداته على ساحل ألمرية ولولا سوء التدبير لكان للثورة الأندلسية شأنا مغايرا، أين منطق القراصنة في كل هذا . هذه دولة مقابل دولة ولكن الحقد والتعالي والحسد سيوف ذبحت الحقيقة لأجل اشباع الغرور والنرجسية . ثم كيف يقال عن الأسطول الذي نزل السواحل الاسبانية في العام 1569 م ثم في العام 1570 على أنه عمل قراصنة .؟؟؟

هذا ليس رأينا فقط وإنما هو عين ما نجده أيضا عند الدكتور جمال قنان والذي يرى بأن الجزائر قد مارست كأية دولة بحرية في الشرق أو في الغرب القرصنة بمفهومها الشرعي والقانوني الذي حددته قوانين البحار التي كانت جارية في هذا العهد، فإنه لم يحدث منذ قيام الدولة الجزائرية الحديثة أن مارست هذه البلاد لصوصية بحرية أو أقرتها في أي نقطة أو مكان من أراضيها 31 . إن الجهاد البحري الجزائري والذي : " يطلق عليه الأوروبيون اسم القرصنة والذي كان في الأول ضد إسبانيا لموقفها العدائي من مسلمي الأندلس ... هو الباعث على وجودهم على شواطئ شمال إفريقيا ... " 32 . ثم استمر على شكل حرب طاحنة في المتوسط لأسباب مختلفة .

والجهاد البحري كان ضروريا لحكام الجزائر العثمانية ذلك أن : " قوة الحكام المحليين تقوى أو تضعف في نظر السكان بقدر ما يحققونه من انتصارات في البحر الأبيض ضد دار الحرب أو أوروبا المسيحية لذلك كان الباشوات والرياس الذين حققوا مثل هذه الانتصارات يلقبون بالمجاهدين " 33  . ولقد كان الأهالي في الجزائر يمجدون الانتصارات التي يحققها العثمانيون ضد الاسبان باعتبارها جهاد ويسجلون ذلك في ملاحمهم الشعرية أنظر 34 . وهذا يذكرنا بالجو العام الذي كان يحتفى بالمنصور بن أبي عامر عقب كل انتصار له على المسيحيين، أو بذلك الجو الذي عقب فتح عمورية من قبل المعتصم العباسي . وهذه اللحمة التي تكونت بين الجزائريين وبين العثمانيين على اعتبار أن : " الجهاد كان مشتركا وأنه كان يمثل الرابطة القوية بين العثمانيين والسكان " 35 . ولهذا فقد تشكل حلف بين العثمانيين والجزائريين ضد العدو المشترك ومارس الطرفان نوعان من الجهاد جهاد بري عام وجهاد بري خاص، فالجهاد الأول كان في البحر لا يعرف حدودا سوى حدود الغلبة والهزيمة فهو حرب بكل معنى الكلمة ... أما الثاني فهو الجهاد البري الخاص والموجه ضد إسبانيا بالذات والتي أجبرت على الخروج من جميع النقط الساحلية التي احتلتها في الجزائر ما عدا وهران ومرساها الكبير 36 .

ويرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين الى سنة 1514 م وكان هذا في أعقاب فتح عروج وخير لميناء " جيجل " حيث أرسل الأخوان الى السلطان سليم الأول مجموعة من النفائس التي استوليا عليها بعد فتح المدينة، فقبلها السلطان ورد لهما الهدية بإرسال أربع عشر سفينة حربية مجهزة بالعتاد والجنود 37 . ولم يكن من الممكن للأخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لولا تشجيع السلطان العثماني ودعمه الى جانب دعم شعوب المنطقة وقد سبق أن فشلا من دخول بجاية أمام نفس القوات المعادية 38 . ولقد استجاب السلطان العثماني سليم لنداء الجهاد من أخوة الدين وشرعت الدولة العثمانية في انشاء أسطول ثابت لهم في شواطئ شمال أفريقيا والذي ارتبط منذ البداية باسم الأخوين عروج وخير الدين بربروسة 39 .

 

وهكذا وكما يعلم الجميع قد تكون تحالف قوي شمل الأتراك العثمانيين والجزائريين والأندلسيين المنفيين من وطنهم وتظافرت جهود هؤلاء جميعا لمواجهة إسبانيا الكاثوليكية . ولهذا فقد شنوا عليها حربا لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالقرصنة وبأعمال السلب والنهب . وعملهم هذا ما هو إلا جهاد بحري للدفاع عن دار الإسلام ولنجدة الإخوان في الدين . واستطاع خير الدين أن يوجه ضرباته القوية للسواحل الاسبانية وكانت جهوده مثمرة في انقاذ آلاف المسلمين من إسبانيا فقد قام عام 936هـ/1529م بتوجيه ست وثلاثون سفينة خلال سبع رحلات الى السواحل الاسبانية للدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط 40 . وهل هنا يوجد فرق بين الحملات الجزائرية على أراضي الإسبانية وبين الحملات التي يشنها الإسبان وعلى رأسهم شارلكان على الجزائر؟ . لا يوجد أي فرق فهذه حملة عسكرية وتلك أيضا، فلماذا ما يقومون به هم هو عمل حربي مشروع، وما تقوم به البحرية الجزائرية لهو قرصنة ولصوصية؟؟ . إنها هنا إرادة القوة وفقط وهي من تجعل الحق باطلا والباطل حقا . 

وما من مشكل عندهم فحتى الجرائم التي ارتكبوها طوال الحقب الاستعمارية البغيضة كانت مصدر فخر . وكانت تعتبر أعمالا بطولية وأمجادا قومية وفتوحات إنسانية ومهمات حضارية، وها هي اليوم توأم الإجرام ولذلك فقد أصبح الاستعمار يعتبر جريمة  في حق الإنسانية . وهذا هو الطريق الواجب على الجزائريين اليوم وغدا السير فيه وهذا بغية تنقية تاريخ الجزائر من كل الأكاذيب التي ألصقت به . وكانت نتيجتها ليل استعماري طويل ولأجل إظهار الحقيقة بعيدا عن كل الزيوف، والتي لم يعد لها اليوم من مكان في ظل عالم منفتح على الحقيقة وينشدها.  وهذا من بعد أن زالت أسباب التعصب الواقفة وراء المزايدات وترويج الأكاذيب وجعلها جزء من عقيدة الدولة، فتلك الأكاذيب باتت تخنق الحقيقة، ولهذا فإنه يتوجب علينا كلنا فك قيود الحقيقة المجنى عليها والمختطفة . وكما توضحت الحقيقة في ما يخص محاكم التفتيش البائدة . فكذلك يجب إنصاف البحرية الجزائرية وفك أسرها من الضلالات التي كبلوها بها خدمة لمشروعهم الاستعماري البغيض .  

إن الحد الفاصل هنا ليست العاطفة ولا الكتابات الدعائية المغرضة، وإنما هناك قواعد وضعها المؤرخون وهذا للتمييز بين القرصنة piraterie وبين الحروب البحرية corsaire أو الجهاد البحري بتعبير الجزائر العثمانية . ونحن هنا نعتمد مثلا على رأى المؤرخ دانيال بن إسحاق . والذي يمير صراحة بين النشاطين، فهو يخبرنا بأن القراصنة تكون أعمالهم بمبادرات فردية منهم ولحسابهم الخاص والهدف الوحيد هو الثراء الشخصي ولا شيء غير هذا . في حين أن محاربي البحر، فالأمر مختلف معهم فأعمالهم تكون استجابة لطلب حاكم ضد سفن الأعداء والهدف هنا هو أضعاف قوى الخصم البحرية وقطع طرق الإمدادات عليه ونحن ولئن أسقطنا هذا التعريف على ما كانت تقوم به البحرية الجزائرية فإننا نجده من هذا النوع الثاني ولا علاقة له بالنوع الأول .

ولهذا فلا يجب أن نقفز أبدا على الحقائق، فالذي جرى في البحر المتوسط كان جهادا بحريا تماما كما هو الحال في الجهاد البري . فالإخوة بربروسا مارسوا الجهاد البري حتى أن عروج قد استشهد أثناء قتاله للقوات الإسبانية ومن تحالف معها من الزيانين، واستشهاده ومن معه كان في العام 1518 بعد معركة غير متكافئة . وكلنا نعرف كيف أن رأسه قطعت وفصلت عن جسده ونقلت إلى إسبانيا حيث طيف بها هناك في مدنها . 

ورغم هذه الكارثة التي حلت بالجيوش الجزائرية إلا أنها واصلت السير قدما في تنفيذ برنامجها والذي هو برنامج دولة لا برنامج عصابة وقطاع طرق أو مشروع قراصنة بحريين . ومما يدل على كلامنا هذا ما نقتطفه هنا من كتاب علي محمد الصلابي صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي والذي يستعرض لنا فيه صاحبه مشروع الجزائر العثمانية ومن ورائها بحريتها في النقاط التالية :

-1 تحقيق الوحدة بصفة تامة مطلقة بي كل اجزاء الجزائر .

-2  إدخال بقية أجزاء الصحراء الجزائرية ضمن هذه الوحدة حتي يتفرغ للأندلس، أما سياسته الحربية الخارجية فقد كانت ترمي إلي ثلاثة أهداف:

أولا:  إبعاد الإسبان نهائيا عن اراضي الجزائر.

ثانيهما : وضع حد فاصل للمشاغبات والمفاجآت التي تقوم بها الدولة الغربية السعدية .

وثالثها  :إعلان  نفير الجهاد العام والسير برا وبرا على رأس الجيوش الإسلامية الي بلد الأندلس 41 .

 

كما لا يجب أن ننسي بأن الجهاد البري قد انتقل إلى أراضي المغرب الأقصى ضد كل من إسبانيا والبرتغال . حيث قامت الدولة العثمانية وانطلاقا من الجزائر بدعم الدولة السعدية الناشئة ب 20 ألف مجاهد، وكان من المقرر أن تنقل الحرب إلى إسبانيا ذاتها . ولمن لا يعرف إسبانيا في تلك الفترة فهي أمريكا الحرب الباردة إن صح التعبير، حيث كانت هي تكون قطبا والدولة العثمانية تشكل القطب الموازي لها، ومحال أن يكون مشروع طردها من شمال إفريقيا وغزو أراضيها ونجدة الموريسكيين، وكل ما ذكر هنا وهي مشاريع ضخمة . لا يمكن أن تفكر فيها شرذمة أو مجموعة صغيرة من القراصنة أو من لصوص البحر . فهي تتجاوز إمكاناتها ومجال عملها وتخصصها أيضا ولا تنسجم مع مشاريعها المحدودة في الزمان وفي المكان مطلقا . 

خاصة إذا ما انتقلت الحرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية وجابهت فيها جيوش إسبانية وبرتغالية ومسيحية مناصرة لها وعلى رأسها البابا، وكل هذا سيجعلها تتحول إلى حرب طاحنة أو جهاد بري طاحن لا قبل للقراصنة أو للصوص البحر به، وكل هذا الكلام يخرج أعمال البحرية الجزائرية مما اعتاد البعض تصيفها ضمنه، هذا التصنيف المرتبط بالحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر والذي جاء ليبررها وهو قد زال اليوم بزوال تلك الحقبة، وأصبحنا ننظر إلى ما حدث خلال الحكم العثماني للجزائر من خلال زاوية النظر الخاصة بنا لا من خلال النافذة الاستعمارية الفرنسية . وإنها هنا لمعركة صعبة وطويلة الأمد ولكن نتائجها محسومة لصالح البحرية الجزائرية خلال العهد العثماني، ذلك أنه من الصعب أن نمحو هكذا وبصورة مفاجئة ما تجذر في المخيال على أنه الحقيقة، ولمدة طويلة من الزمن حتى بدا وكأنه جزء من الواقع . نعم كما تبددت خرافة الجزائر الفرنسية فإن كل ما يتبعها من أكاذيب وزيوف طالت تاريخ الجزائر فسوف هي الآخرى تتنحى جانبا وتترك مكانها للحقيقة ولا مكان لغيرها على أرض الواقع . وعطفا على ما سبق نقول بأنه لا فرق هنا فرجال البحرية الجزائرية قادوا الجهاد البري والبحري معا ولا علاقة لهم بما يسمي القرصنة بمفهومها الأوروبي أو بلصوصية البحر . كما لا يمكن لنا أبدا أن نتغاضى عن جهادهم البري في دولة المغرب الأقصى .

ثم كيف يكونوا لصوصا وظلمة وهم يحتكمون إلى كتابهم المقدس أي إلى القرآن الكريم . وهذا الأخير  ينهاهم عن الظلم والعدوان حيث أن العثمانيين : " قد التزموا التزاما صارما بكل ما أوجبه القرآن وأن الدولة كانت تسترشد برأي علماء الإسلام، لأن الواجب كان يقضي بالرجوع  إلى رأي الشريعة الإسلامية في أي شأن من شؤون الدولة العسكرية، أو السياسية أو الاقتصادية، أو القضائية " 42 . ولهذا فهم لا يرون في عمل الأتراك إلا شرا بدافع التعصب الديني الذي اشتهر به الأتراك 43 .

 وإننا هنا لا تهمنا تلك الصفات السلبية والتي ألصقها أعداء البحارة الجزائريين بهم فما هي إلا جزء من الحرب الدعائية ضدهم . فهم قد كانوا ينطلقون في جهادهم البحري من شريعتهم أولا ثم من القوانين الدولية المتعارف عليها في تلك الأيام . كما لا ننسى هنا بأن رجال البحرية الجزائرية في العهد العثماني قد كانوا مسلمين ويحتكمون إلى مقررات الشريعة الإسلامية فيما يخص الحياة الدينية أو الدنيوية وفيما يخص علاقاتهم فيما بينهم أو فيما يخص علاقاتهم بالآخر المعادي لهم . والذي تبقى له حقوق يكفلها له الشرع . وهذا ما ينطق على شخصية خير الدين باشا وكما تصفه كل الكتب التي أرخت لسيرته أنظر كتاب علي محمد الصلابي صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الإفريقي الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط وهذا للتوسع أكثر .

ونفس الأمر ينطبق على القرصان جاك سباور والذي تحول اسمه، وهذا من بعد اسلامه إلى يوسف عصفور والذي التزم هو الآخر بحدود الشرع وبصورة نموذجية وخاصة فيما يخص إقلاعه عن شرب الخمر والذي كان مولعا به . ولهذا فلا نتصور أن هؤلاء الرجال قد يعتدون على الآخرين، وهم بهذا يعتدون على الدين ذاته وهذا عن طريق شن حرب عدوانية ظالمة تصنف في خانة الإفساد في الأرض . وكلنا يعرف مآل المفسد في الأرض في الدنيا وفي الاخرة وهذا حسب الأدبيات الإسلامية . ولذلك فهم لن يشنوا حربا عدوانية ظالمة أبدا وهذا لكونهم يتحركون في إطار الشرعة الإسلامية والتي تحكمهم وهذا الأمر نجده يتماهى مع روح العصر والتي كانت دينية بامتياز ولذك فقد كانت أعمالهم الحربية البحرية ردا قانونيا وحقا مشروعا على الاعتداءات البرتغالية والإسبانية المتعددة والمستمرة في الزمان وفي المكان . ونحن قد كنا ضحايا للمشروع الإسباني الرامي إلى إقامة إمبراطورية عالمية تكون الجزائر جزء منها بهدف نشر المسيحية وبالقوة، وعليه فالجزائر قد كانت في حالة دفاع مشروع ولم تكن في حالة هجوم عدواني مطلقا .

ولئن جدلا قبلنا رأيهم بأن الغارات البحرية الجزائرية هي قرصنة، فماذا تسمي غاراتهم هم على شواطئ الجزائر؟ وفي أية خانة نصنف ما قام به الجنويون وهذا عندما احتلوا جيجل 1513 ثم إغارة أندريه دوريا على شرشال 1531 وتخريبها . وأين نصنف غارات القديس يوحنا ومالطا على شمال إفريقيا، وأين نصنف غارات القديس ستيفان على منطقة عنابة 1607 . أم أنهم جاؤوا للتنزه وللسباحة في وادي سيبوس ولالتقاط حبات العناب منها؟ .

 لا يجب أن ينكر أي أحد ومهما كان بأن هناك تجاوزات قامت بها البحرية الجزائرية في العهد العثماني، يمكن أن ترقي إلى أعمال السرقة والسطو والنهب، ولكن هنا علينا أن نعرف بأن مقترفيها لم يكونوا من مجاهدي البحر الأصليين، وإنما كانوا من الانتهازيين والمتطفلين والدخلاء والذين لا هم لهم سوى الربح المادي وفقط، أو من فئة المهتدين النصارى خاصة، والذين كان الكثير منهم أصحاب سوابق في بلدانهم الأصلية وهربوا إلى الجزائر لتجنب العقوبة ورغبة في الثراء السريع . وهم جاهلون بقواعد الدين وأبجدياته رغم إسلامهم فقد اقترفوا تلك الأعمال . ولهذا فلا يجب أن نحمل مجاهدي البحر الجزائريين أخطاء هذه الفئة أو تلك ونتهم الجميع باللصوصية .

ثم إن البحرية الجزائرية والتي يطلق عليها تسمية قرصنة، كانت مؤسسة ذات أخلاق عالية ففي الوقت الذي كان يقيد الأسير المسلم للتجديف مدى الحياة في سفن القراصنة الأوروبيين ويمنعون حتى من تأدية شعائرهم الدينية . فإن البحرية الجزائرية لم تكن تمارس هذا الأمر، وبعد هذا يزايدون على الجهاد البحري الجزائري ويردون إعطائه مواعظ أخلاقية .

وهنا نقول لقد صدق ذلك الحكم والذي جاء في كتاب بسام العسلي حول خير الدين، وهل كان خير الدين أكثر قسوة من قسوة الإسبانيين وهم يجتاحون وهران أم هل كانت قسوة شارلكان في تونس أقل قسوة ووحشية؟ وهل كان بالمستطاع مجابهة تلك الوحشية بإنسانية؟ المهم أن أقنعة الإنسانية هي أقنعة غريبة الألوان، غريبة الأشكال وفقا للوجوه التي تضعها 44 . وهذا هو السياق المغرض الذي جاءت فيه تلك الحملة ضد الإخوة بربروسا، فالمتغلب هو من يقرر من هو البطل ومن هو المجرم وهو من يقرر الحق من الباطل . ولنترك الحكم للتاريخ فهو من يقرر من هو البطل الحقيقي من المزيف، ولا يعنينا أن  : " الكثير من المؤرخين لا يرون في عروج إلا زعيم عصابة ليس إلا، وإنني لا أعرف حكماً جائراً مخالفا للحقيقة كمثل هذا الحكم، فإن البربروس الأول (عروج) ما كان إلا جنديا من جنود الإسلام المغاوير، جاهد فوق متن البحار جهاداً لا هوادة فيه، ضد أعداء ملكه، وضد أعداء دينه، على أنه كان ملتزماً خلال جهاده هذا بكل القواعد والأسس التي كان العمل جاريا بها خلال تلك الحقبة من التاريخ، فلم يكن أبداً أكثر قسوة ولا أقل قسوة من الأعداء الذين كان يمعن في محاربتهم " 45 .

وما يؤكد أن ما قامت به البحرية الجزائرية قد كان حربا بحرية لا قرصنة ولصوصية هو كلام كورين شوفالييه والذي جاء فيه : " إن القرصنة هي حرب مشروعة تتم بواسطة بيان صريح للحرب ... إذن بالنسبة للمسلمين فإن القرصنة قبل كل شيء هي شكل من أشكال الجهاد في البحر " 46 . ولهذا فإنه لمن العجب أن يشنعوا على الجهاد البحري الجزائري ويتناسوا قرصنتهم هم، والتي يبدأ تاريخها منذ العام 1260، وهذا عندما أغاروا على مدينة سلا المغربية، وما تبع هذا من احتلال للسواحل المغاربية ولمّا كان رد فعلنا الطبيعي هاجوا واعتبروا دفاعنا المشروع قرصنة ولصوصية .

 إن البحارة الجزائريين لم يكونوا مطلقا بالمعتدين بل هم كانوا في حالة دفاع عن النفس، دفاعا مشروعا وخصوصا ضد فرسان القديس يوحنا وكل الدول الأوروبية متفرقة أو مجتمعة . ومداخيل الجهاد البحري كانت تصب في خزينة الدولة فأين هم القراصنة هنا وأين هم لصوص البحر . وكلنا يعرف بأن القراصنة ليست لديهم دولة ولا مؤسسات مالية تشرف على مداخيل الحروب البحرية . وإنما كانوا فقط يخبؤون مداخيلهم في مخابئهم بالجزر النائية ويصرفونها على حاجياتهم الشخصية المبتذلة . في حين نجد أن مداخيل البحرية الجزائرية كانت تصرف على تحصين الثغور وإعداد الحملات العسكرية لنجدة أهل الأندلس وعلى الأعمال الخيرية وعلى رأسها الأوقاف . وهذه كلها فروق لا تدع مجال للشك من أنه لا علاقة لأعمال الجزائر البحرية بما يسمي بالقرصنة وهذا نظرا للفروق الجوهرية بينهما وللتطابق الكلي لهذه الأعمال مع الحروب البحرية حسب قوانين تلك الحقبة من الزمن . 

ولقد حاول المؤرخون الأوروبيون التشكيك في طبيعة الحركة الجهادية في البحر المتوسط ووصفوا، دورها بالقرصنة 47 . وفي مقابل هذا نجد بأن المصادر الإسلامية المعاصرة لتلك الفترة تستخدم مصطلحات المجاهد والجهاد للدلالة على أعمال عروج وأخيه خير الدين في البر وفي البحر وعليه فهناك جهاد بري وجهاد بحري، وهذا ما تخبرنا به تلك الرسالة والتي بعث بها أشراف مدينة الجزائر الى سليمان القانوني والتي تعود للعام 1519، والتي أشاد فيها الجزائريون بجهاد عروج هذا الأخير والذي ما هو في نظرهم إلا ناصر للدين وحامي للمسمين والذي خلفة أخوه المجاهد في سبيل الله التقي خير الدين 48 .  والنتيجة أن العامة في أوروبا هي الأخرى قد اصطنعت نعت القرصان للدلالة على مجاهدي البحر الجزائريين وعلى رأسهم خير الدين وهذا ما يظهر في قولهم :

بربروشة                 بربروشة

أنت صاحب             كل شر

ما كان من                ألم أو عمل

مؤذ وجهنمي   مدمر

إلا والسبب               فيه

هذا القرصان            الذي

لا نظير له في العالم 49 .

وهذا التخويف يذكرنا برجل السمن الذي تخيف به المرأة الموريسكية ولدها الصغير وهذا عند مشاكسته لها وعصيانه لأوامرها . 

ولئن كان الفرنسيون يفرقون بين القراصنة وبين لصوص البحر ومعهم طبعا كل الشعوب الأوروبية الأخرى . فإن هذا التفريق غائب عندنا نحن في اللغة العربية ونحن نستخدم لفظة قرصنة بمعنى لصوصية البحر . ويختفي من أذهاننا مفهوم الحروب البحرية نتيجة للضغط الكبير الذي مارسته علينا المفاهيم الأوروبية وما تحمله من حمولات مفاهمية تصل في أحيان كثير إلى حد المغالطات المتعمدة، كما هو الحال في موضوعنا هذا . وما تعمد نعت حروب الجزائر في العهد العثماني بالقرصنة إلا بغية تحقيق هدف مغرض يتمثل في القدح في شرف الجزائر العسكري في العهد العثماني . وأنها كيان لمجموعة من اللصوص وهذا لتبرير ما هو قادم من مشاريع استعمارية عدوانية . أو ربما يكون البعض منا لا يفرق حقا بين القرصنة وبين الحرب البحرية الموجود في اللغة الفرنسية فيستخدم المصطلحين بمعنى واحد فكانت النتيجة تحميل مجاهدي البحر الجزائريين كل المعايب والسيئات التي يعرف بها القراصنة .

 

سمير خلف الله بن امهيدي / الطارف الجزائر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم