صحيفة المثقف

مكابدات فعل الأمر في نصوص سلمان داود محمد

 ماهي الأعمال التي تعاد قرائتها؟ يتساءل جورد مونان والجواب حتما ً: هي تلك الأعمال التي تتوفر على "فائض معنى لا ينضب" و"قوة إحتياطية" قادرة على الصمود أمام تقلبات الأذواق والوقائع ...

 الشاعر احمد حاذق العرفي / تونس

 

 ترتقي اللغة الى مستوى عال من الحيوية عندما تغدو أداة التعبير المباشرة أو تتحول الى وسيلة إيحائية مستترة تجسد دخيلة المتكلم وتترجم هواجسه وإنفعالاته، وتضعه في معترك الأحداث والوقائع سواءَ في الحياة أو في الأدب وبالخاصة الشعر، فهي قاعدة الإرتكاز التي تنوء تحت وطأة المشاعر المختلجة في النفس الإنسانية، وهي أيضاً الخيط الرفيع الذي يصل بين ما يرنو إليه الشاعر وبين عقل وإدراك القارئ الذي يتفاعل مع معطياتها البنيوية من ألفاظ وتراكيب مركبة ومفردات تعبيرية، وصور ملونة، ومشاعر متباينة تمارس التأثير وتفتح الأبواب واسعة أمام الإستجابة والتأويل والفهم المتدرج وفق مستويات التلقي .

 ولأنها كذلك فالشاعر يدرك بوعيه المسبق أهمية إستغلال تلك المعطيات اللغوية وفي المقدمة منها الأسماء والأفعال والإيقاع والجرس والتكوينات التي تجسد فكره، وتتوقف على قدراته في تحقيق شبكة كفوءة من العلاقات الظاهرية والداخلية والتي من خلالها تتحقق القيمة البنيوية القادرة على الإثارة وردود الفعل المعبرة عن مقدار الفعل الدرامي الذي مارسته في المتلقي . 

 ويبدو أن الشاعر سلمان داود محمد أدرك ببصيرته خطورة توظيف الأدوات اللغوية في خلق نص يمثل تجربته الشعرية، فجاء نسيجه الشعري مليئا ً بألفاظ وأفعال ٍ مفعمة ٍ بطاقات إيحائية إكتسبت قيمها الدلالية من قدرته الذاتية في تطويع جزيئات اللغة لطرح نص شعري يتسم بالعنفوان والطراوة .

 لقد أعدت قراءة نصوص مجموعة الشاعر الموسومة (إزدهارات المفعول به) التي أتيحت لي الفرصة الإطلاع عليها لأكثر من مرّة، ووجدت إنحيازه الى إضفاء هالة من الغموض والإبهام علي نصوصها في توليفة كأنها متعمدة للتخلص من تبعات مقاصدها، لكن المعضلة لم تكمن في ذلك، بل في كيفية تجنب الإحسـاس المثير بعامل الزمن، وباللهيب المنبعث من الكلمة ومن إنسـيابية المعاني التي حشـدها الشاعر بحيث أحالها الى ألغام موقوتة تتشظى في نواة الوقت وبالأخص في ثنايا أفعال الأمر التي جاءت عصارة إرادة الرفض لمعاناة وجوع الإنسان، ونشـرغسيل هذا العالم المرعب المصاب بفقر الدم، وفضح من يديـر ظهره للنبل عبر توتر العبارة وشحنها بعاطفة باذخة وبالكثير من الإنفعال الذاتي والنفسي ..

  وكمن يقفزفوق أوتاد الموقد الملفعة بوهج الجمرة، متجها ً نحو السطوع الأحمر المنثال علــى مفردات البيت الشعرى، يطّل الشاعر علـى الحياة وهو يرهق الذاكرة الشعرية بدفق من الأفعال في صور تكتض برهاوة في سياق السطور، لتشـحن الضـمير بدفعـة كبيرة من النفاذية، سالكا ً الطريق الشائك الوعر الى ينبوع الخلق، ومستخدما ً الضمير ( أنا) للتعريف بسلمان الإنسان، والباحث عن الذات، والشاعر الذي يحصي أنفاسه بنفسه :

أنا مشبوه كالغيم

كلما ترنو المظلات إلي

أهدد الحقول بالجفاف

مولع ٌ كسواي بإزالة النقاط من الشـذى

وكشراع يحبل بالريح

أتوحم بالجاليات

و

أنا واحد لا يحصى

حارس عورة الممتلكات بأحلام " كثة "

أنا حاصل ضرب ( الشمعة × الهدنات )

و

أنا إبن أصابعي

والحشد يعني الأباطيل على الإنبثاق .

 

 يقول الدكتورعمرو عبدالعزيزمنير في بحثه القيم (تمارين لإصطياد فريسة): (يمتاز الضمير (أنا) من الناحية السيميائية بعلاقة ارتباطية عضوية مع الذات المتكلّمة الفاعلة والمنتجة للفعل، مشكلا بُـنية كبرى تتألّف من محورين أساسيين في العملية التخاطبية / أنا / الذات المتكلّمة، والآخر الذي يأتي في درجة تراتبية أقل من الذات مصدر الخطاب . ولعلّ وظيفة الضمير أنا تتداخل مع الوظيفة الإيحائية التي تشير للمحتوى كقطب يمثّل نواة دلالية رئيسية متعالية بعلو ألف المدّ أنـ(ـا)، فشكل الضمير يحيل إلى صاحبه كذات موازية لهذا الألف الواقف والمعانق للسماء) .

 وبوحي هذه القراءة للدكتور عمرو، فإن سلمان كان في هذه النصوص يحني الصورة الإستعارية لموجبات إغناء تجربته الشعرية، فهو يجابه الموقف المتأزم بشجاعة، إذ يتحول الى غيمة مطيرة تخدع جفاف الحقول العطشى، وهو في قمة أنانيته يزيل جمالية الشذى أو هو جزء صغير من جسده إذ يركن الى إستعارة مذهلة في كونه إبن أصابعه التي تفضل الاباطيل على الإنبثاق الذي هو الضوء أو الفجر الساطع . إنه كان في إستعارة لغوية مبهرة يتقمص الآخر في ذاته تماماً .

 بالمقابل ولكي يعزز سلمان من حضور فعل (الآخر) ودوره الاساس في الحدث، فإنه يستعين بسلسلة من أفعال الأمر ذات الطبيعة الآمرية والإستعلائية (توكل، إستعن، دجج، إهتف) ليحث بها المقابل على منح العقـل فرصة إتخاذ القرارات الحاسمة، يقفز بالذات الى المجابهة، لأنها مكمن القوة والفعل، ولأنها تعويذة الخلاص من اليأس والقنوط والتوكل، طاعناً فـي صحة الفرضيات شـبه المؤكدة والقناعات البالية:

فتوكل عليك إذن

وإستعن بأشباه الجملة على النظريات

فمن أجل الإطاحة بالأرانب

وهي تتلصص من ثغرة في رأسك

دجج رؤاك بباء الثعلب وإهتف بالعفونة آمين .

 هكذا الحال عندما يتفاقم الحدث في صيغة الأمر أيضا ً ليُنهي القصيدة ذاتها بفعل ٍ مضارع

حيث لا مناص من تحقيق الإستمرارية في رؤيا مشـتركة لبيئة الفعـل المبتدأ بفعل الأمر فيقول:

فأصمت لتفز

ولا تنس أن تستحم كثيرا ً

فالإكثار من الجسارة

يجلب الإتساخ .

 

 إنـه يدرك تماما ً أن النقاء يتناسـل من الثبات، وأن الركون الى التسليم بالرضوخ الى الضعف يعني في النهاية خسارة !!

 وبذات الزخم يميل سـلمان داود في نصه (خروف العلة) وليس حروف العلة، إلى إستخدام أفعال الأمر(دع، إحـذر، قـل،إسترسل، دحرج ) في تداع ٍ متدرج ليعطي المتلقي فـن الإسـتلقاء تحت فيء الأماني المزوقــة وحماقة المتطلعين الـى مسـتقبل لا يأتي بالكثيرمن الرخاء دون أن يجشـم الإنسان نفسه عناء الرفض، كما لو أن المعادلات تغيرت في وظيفة الفاعل إذ إستعار سيرة النبي لوط ودمار قريته ليشير الى الوهن الذي كان يأكل من جسده لو كان في عصرنا:

 

 دع أنفاسـك تنفض أختامها وإسترسل : ما حال الأيام لديك؟

 و

دع شؤونك في شأنها ودحرج القنفذ نحو أفاعي النهايات

 و

إحذرأن تغفر للمشمش حماقة المنتظرين

قل لهم أن ينصرفوا

فلا طاقة للسيد " لوط " على الكلام

أو الرجوع الى وظيفته القديمة !! .

 لكن سلمان داود محمد كما أرادنا أن نعرفه، متدفقا ً كتيار الدم، هو الذي يشعل الحرائق

تحت رمادا الكلمات لتتحقق على يديه الصدمة، فهو يدعو بسلسلة جديدة من أفعال الأمر ـ للمزيد من المفارقة الآخاذة ـ إلى إطفاء النيران بنار أشد وأعتى :

تنرجس ْ كيفما تشـاء

دحضْ ما توهج في كربلاء العجين

وإردمْ حفر الأفواه بجثمان الموعود

إشـجب رقصتي فـي مدفن المعجـزة

وبـارك الرفعـة بعراء فضـفاض

إتلف المحبة بإزدراء شـجي

ودع الرضاب لإخماد الحرائق

 إنه التفاعـل الحاد المستمر الذي يلهب الشاعر بين الفترات اللاحقة للزمن، ليكون لفعل الأمر المكابد المحترق الأثرالنفسي كوقع الرمح، وليبقى هناك، ودائما ًما يعود إليه، ويكتشف في ضجيج القصيدة المكتـوم . إنه أسلوب خاص للتغلغل الى الدخيلة، وإنه فن النفاذ الى بقاع الظـلام في النفس لتحركـه من الداخل بإتجاه النضارة :

إلبسي قناع الوقاية أزاء النشيد

فما كان ليعلو كل هذا السخام

لولا صباح يستبدل الشموس بالإرتباك .

 وكما هو بيّن فإن الفعل يطـّل من بين فجوات المشهد الآسروشـقوق الزمن، فلو نهض الصباح بشمسه وعنفوانه، لما كان السواد يخيم على يومنا، لكننا كما يأمرنا سـلمان داود محمد ـ شاعرنا المبدع ـ خيرٌ لنا أن نفسح السبيل أمام الرضاب لإخماد الحرائق، وتلك أمنية ( كما تعلمون ) غير قابلة للتحقق دوما ً !!

 

....................

(*) صدرت له المجاميع الشعرية / غيوم أرضية 1995 و علامتي الفارقة 1996 و إزدهارات المفعول به والتي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم