صحيفة المثقف

عربة القمر

 (في احدى ليالي الصيف البعيدة، كُسف القمر، وفيما كنت اراقب ذلك المشهد رافعاً نظري نحو الظلام الزاحف مع كل لحظة يغورها في اللاشيئ،ممسكاً بقدر نحاس يعود لجدتي وعصا أبي أستعداداً لتلاوة النشيد مع أولاد الجيران، سقطت ورقة من السماء انقل لكم بعض تفاصيلها - بتصرف- فيما ساحتفظ ببعض اسرارها حتى الاقي الله، قريباً على ماأعتقد)

كان الملاك رقم (69451) الأكثر تعباً من بين زملائة السبعين الفاً المكلفين بسحب عربة كبيرة تحمل القمر على سكة تحيط بالارض، ضامنين بعملهم هذا وصول ضوئه الى البشر كل ليلة، يتغنى الشعراء والعشاق بملامحه غير مدركين عناء الملائكة الموكلين بحمايته ليبقى ملهماً لهم مئات من قرون مضت واخرى تغفو في حضن المجهول، تحول التعب الى تململ متخذاً شكلاً من أشكال الحديث غير الودي بينه وبين ذاته المبرمجة على الطاعة :

منذ الاف السنين وانا اسحب تلك العربة بحرص الأم على رضيعها، مساهماً بأبقائها متزنة تحفظ للقمر مكانه الذي قرره له الله، وأن لايقع فريسة لأمواج بحر الضلمات الجاثم على صدر الكون، لكني لم اعد قادراً على الاستمرار واشعر ان اجنحتي السبعين الفاً فقدت مرونتها، بل تيبست بتأثير الرفرفة كل تلك الاعوام التي ماعدت قادراً على احصائها بدقة.

استفزه الشعور بالاهانة وهو يشاهد علامات النشاط والحيوية في وجوه زملائه، فيحث الخطى مغالباً اوجاعه، لكن هذا الاستفزاز لم يكن بالقوة الكافية ليمنع عنه تلك الوساوس التي تشبه فحيح الافاعي:

هل عجزت قدرته على جعل القمر يدور وحده فيغنينا عن هذا الجهد؟ واذا كان ذالك صعباً فلماذا لاتتم ترقيتي لعمل أكثر بساطة؟ فملايين من الملائكة الاعلى رتبة لاعمل لهم سوى التسبيح تحت العرش.

شعر ان مفاصل جسده أو روحه (لم يحدد ماهيتها في الرسالة) تصدر صوتاً يشبه صوت مزلاج باب صدئ أنه أزعاج ممزوج بكثير من الأذى، ترنح قليلاً فاضطرب نظام السحب الدقيق وأهتزت العربة بعنف أدى الى سقوط القمر منها محطماً أسوار الفضة المثبتة على جوانبها في طريقه الى لجة البحر المتلاطم، لكنه مع شدة الريح لم يغرق بل ظل طافياً على احدى الموجات، ابهرت الصورة الملائكة وخطفت ابصارهم لدرجة شغلتهم عن التفكير بسحبه، لكن القمر فقد قدرته على السباحة وبدأ يغطس ببطئ تتلاقفه الامواج بلا شفقة مشكلة لوحة من الجمال والقسوة بريشة فنان محترف يعرف كيف يصدمنا بقوة تدرج الضل والضوء.

مع كل خطوة يبتعد فيها القمر كان سحره يتلاشى ونوره يخفت فاسحاً المكان لندوب مقززة تملأ وجهه، رغم بشاعة منضره فقد اغرى حوت ضخم للأنقضاض عليه قاضماً نصفه لينعم بوجبه من نور العتمة، أنتبه الملائكة أخيراً من سكرتهم مدركين بعد فوات الأوان حجم الخطيئة التي أرتكبوها بتركهم القمر ينحدر الى مصير بائس بين جنون بحر وشراهة حوت، أستسلموا لقدرهم منتظرين عقوبتهم بوجوه متجهمة، لكن صوتاً شجياً طفولي الملامح من الارض أعاد لهم الامل بعودة القمر، لم يكن الصوت مفهوماً بادئ الامرثم مالبث ان اصبح صاخباً (يا حوتة يامنحوتة هدي كمرنة العالي)*، لم يكن الصخب ناتج عن حناجر الاطفال الغضة بل عن القدور والطناجر التي استخدموها كألات ايقاع يفزعوا بها الحوت وحدث لهم ماأرادوا فالرعب دب سريعاُ الى قلب الحوت الضخم الخائف من صوت الطناجر مبادراً الى قذف القمر من بين فكيه بسرعة الى عربته، التقط الملائكة انفاسهم وشرعوا بتثبيت القمر في مكانه بشكل جيد بينما استغل ملاكنا فسحة الوقت ليكتب رسالة ويرميها من فوق السكة.

 

علاء فالح ابو رغيف

...................

أنشودة عراقية مرتبطة بميثلوجيا كسوف القمر والمستندة لأحد المفسرين الذي حاول تفسير هذه الضاهرة من منضور ديني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم