صحيفة المثقف

العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط!!

هذا عنوان كتاب للأستاذ (محمد حسنين هيكل)، صادر عن الشركة العربية للطباعة والنشر، وتأريخ طبعته الأولى، في نيسان 1958 (ألف وتسعمائة وثمان وخمسون)، وبحجم متوسط، وعدد صفحاته (166).

 وهو لقطات فوتوغرافية صحفية لما أدركه الكاتب بتجربته وخبرته آنذاك، وكان يعرف أن الزمن يتحرك والمياه تجري من تحت كوبري النيل ولا تتوقف أبدا، وأن أحداث الشرق الأوسط تتحرك بسرعة فائقة يقارنها بسرعة الأقمار الصناعية في حينها.

فالشرق الأوسط ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وهو على صفيح ساخن بنيران النفط المتأجج الجمرات والجذّاب للأطماع.

وما ورد في الكتاب من رؤى صاحبها (جورج بروان) وكان في وزارة الظل، والذي صار رئيسا لوزراء بريطانيا فيما بعد، وهي تدور حول " كيف يمكن أن يخف التوتر السائد في الشرق الأوسط"؟!!

وفي حينها كان حلف بغداد ومشروع آيزنهاور وغيرها من المشاريع والمناورات، ويرى الكاتب أن الشرق الأوسط لا تحكمه المشاكل، وإنما تحكمه العقد التي خلفتها المشاكل!!

ورأيت أن أقرأ الكتاب بمنظار نفسي، وأسلط الأضواء على تلك اللقطات الفوتوغرافية الذكية، التي لا تزال فاعلة في صناعة النواكب الشرق أوسطية المتفاقمة، والتي يدير محركاتها النفط، العدو الأكبر للوجود العربي بأسره.

وعلى حد قول الأستاذ هيكل: " قلت لجورج براون، التوتر في الشرق الأوسط ليس في حاجة إلى ساسة يحلون تعقيداته، وإنما هو في حاجة إلى أطباء نفسانيين يحللون عقده"!!

أولا: يدرسون ويتأملون ويستقصون

" كان جورج براون في القاهرة يدرس ويتأمل ويستقصي"

الآخر لا ينطلق برؤاه وتصوراته وقراراته من الفراغ، وإنما يدرس بإمعان ويرى بوضوح بمنظاره وأدواته التوضيحية والإستكشافية والتحليلية لكي يصل إلى نتيجة ذات مغزى ومعنى ، ومبتدءات ترسم معالم مسيرته وخطته القادمة للوصول إلى أهدافه وبرامجه ومشاريعه التي تعزز مصالحه وتؤمّن موارده.

فهو يجرب ويبحث ويستنتج، ويطور ويبني على النتائج ويتقدم في الأبحاث، وهذه الحالة على أشدها منذ أكثر من نصف قرن ولا تزال حامية، وما حصل للعديد من الدول العربية يؤكد ذلك ويشير إليه.

ثانيا: الموقف غريب وغامض

الغرابة والغموض من مميزات الواقع العربي، وهذا الأسلوب تأكيد لسياسات " الصيد في الماء العكر"، ولهذا مضت الأمور على هذه الشاكلة لتحقق صيدا أوفرا، فالواقع أعمى العيون والأبصار ومحكوم بالمجهول والتوجسات والإضطرابات، وما يأتي من الأهوال والخطوب، والأخطار التي تتجاوز قدرات التصور والخيال لعامة الناس.

 فالموقف غريب وغامض منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، ولا يزال يزداد غرابة وغنوضا وتعقيدا وإرتيابا وأكثر.

ثالثا: المشاكل الظاهرة والخفية

المشاكل الظاهرة للتلهية والضحك على الذقون وتمرير اللعب والمخططات، وتشترك جميعها بأسلوب إشغال البشر ببعضهم لأخذ ثرواتهم والتحكم بمصيرهم، وإستعبادهم ورهنهم وأسرهم بالتبعية والخنوع والقبض على مصيرهم، وتحويلهم إلى مطايا وروبوتات، تنفذ أجندات مطلوبة وبرامج محسوبة.

فالمشاكل الخفية تصارع المصالح وتكالبات القوى المتأسدة في الأض، وهي الداينمو الأنشط لتحريك عجلات المشاكل الظاهرة، وتنمية الصراعات والتفاعلات التدميرية ما بين البشر أنفسهم، وهذه الحالة قائمة ومتطورة في أيامنا المزدحمة بالتطورات والإلهاءات الفائقة.

رابعا: أحلاف ومؤامرات

المنطقة ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، محكومة بأحلاف ومؤامرات لا تنتهي، وكل ما حصل ويحصل فيها ينضوي تحت هذين الإتجاهين، فإما نتيجة لحلف أو لمؤامرة، وكل حدث مرهون بزمن وغايات يتم الوصول إليها لكي يتبدل، ويتغير الواقع بما يخدم المنطلق الجديد أو المشروع المتمخض من مفردات وعوامل سبقته وساهمت في إنضاجه.

فما يجري لايزال على ذات المنوال، ولهذا تحقق تغير متعدد للأنظمة والأحزاب في المنطقة، وحصلت حروب ونزاعات داخلية وإقليمية، أسهمت في تحقيق المصالح على أكمل ما يرام.

خامسا: سياسات سدّ الفراغ

المنطقة بدولها المتعددة تتعرض بين آونة وأخرى إلى إحداثا فراغات سياسية شاملة، تؤدي إلى إنجذابات وإحلالات خطيرة، وهذه السياسة مرسومة ومدروسة بعناية، لأنها تعمل على توظيف القوى والأحزاب السلبية والعدوانية المحقونة بالشرور، ومؤازرتها بالإعلام والسلاح لتحقيق أقصى درجات التدمير الذاتي والموضوعي.

وفي بداية القرن الحادي والعشرين تم ممارسها وتطبيقها في عدد من الدول التي تحولت إلى هباء منثور، وفي الوقت الحاضر يتم ممارسة هذه السياسة الفظيعة الفادحة بأساليب عدوانية وإمحاقية غير مسبوقة، بعد أن تكللت بالنجاحات في عقود القرن المنصرم.

سادسا: تغيير الأنظمة بالقوة

أنظمة الحكم بالمنطقة أما إنقلابية دموية عسكرية، أو عائلية صرفة، ولا يوجد غيرها، وإن حصل العكس توجهت قدرات العدوان والتدمير بعنفوانها لإعادته إلى السكة المطلوبة والمسيرة المرغوبة، فلا توجد في المنطلقة أنظمة تحترم قيمة الإنسان، وتعمل وفقا للقوانين وتنضبط بدستور، فهذه الأنظمة من المحرمات، كما أن الديمقراطية من الممنوعات، ولن يُقام نظام ديمقراطي إلا على سياق ما يحصل في العراق وليبيا واليمن وأخطر وأمَر.

فأنظمة الحكم المطلوبة إنقلابية تابعة ومحكومة بأجندات واضحة لا تقبل المناقشة، فالذي يحكم في الدول هم سفراء القوى المتأسدة فقط، وأنظمة الحكم عبارة عن صورة وأدوات لتنفيذ الإرادات، ولهذا يتغيرون بإنقلابات دموية، ويُمحق ما أقاموه ليأتي نظام آخر ويشيّد ما مطلوب ويغيب في تمثيلية إنقلابية دامية حمقاء، تسفك الدماء وتزهق أرواح الأبرياء.

سابعا: صناعة الرواسب والتراكمات المعقدة

التفاعلات تكون محكومة بآليات تمازجها بمعادلات كيميائية سلوكية وتضيف إليها عوامل مساعدة ومعجلة تساهم بتسريع النتائج وزيادتها، ويتم البناء على ما أفرزته وإدخاله في معادلات أخرى وأخرى، حتى تتمخض الحالة عن صيرورات ذات منطلقات تدميرية ونزعات هدّامة تساهم في صياغة واقع يخدم مصالح الآخرين ويناهض مصالح المواطنين.

وأحوال المنطقة بأسرها محكومة بهذه النتائج المتاركمة وما يُبنى عليها بأساليب عدوانية مدمرة، مما تسبب بضياع أصلها وأسبابها والإنغماس بمتوالياتها الهندسية، ودوائرها المفرغة، التي تمنع الخروج منها وتعزز التورط بويلاتها المتفاقمة.

ثامنا: الحكم بالعقد التي خلفتها المشاكل لا بالمشاكل نفسها

المشاكل تتوالد في المنطلقة، ولايمكن لمشكلة أن تصاب بالعقم، أو تجد حلا ومخرجا، ولكل مشكلة مؤثراتها النفسية والعاطفية والسلوكية، والعمل على تراكم هذه المشاعر السلبية يساهم بقوة في تعطيل التفاعلات الإيجابية ما بين أبناء المجتمع، ويؤدي لبناء الحواجز والمصدات الإنفعالية، ويهدم الجسور ويلغي قدرات التواصل والإنتماء الصيروراتي المعاصر.

وما نعيشه في الوقت الحاضر ناجم عن العقد النفسية والدمامل المحتقنة في الأعماق، والتي أدت إليها المشاكل الراسخة القابضة على مصير الناس، والكاتمة لأنفاسهم والمانعة لقدرات التعبير عن طاقاتهم وغاياتهم الإنسانية في الحياة.

تاسعا: المرارات الحاكمة

فالقوى الكبرى لا تذعن للفشل بل تنتقم منه وتدمر الهدف الذي أصابها بالفشل، فالأسود لا تستكين للهزيمة، وإنما تفترسها، وتسعى لمحق آثارها وتوريط أصحابها بنكبات متوالية، تزيدهم ضعفا وإنهيارا وتوسلا بالأسود التي عجزت عن إفتراسهم في أول جولة.

فالمنتصرون بالمنطقة يدفعون ثمن إنتصاراتهم، ويتم دفعهم إلى المهاوي والمنزلقات التي تحولهم إلى رهائن، وتنسي الناس نصرهم، وتجعلهم مجرمين بحق شعوبهم وأوطانهم، وقد حصل ذلك في مصر والعراق.

فأي نظام عربي مهما توهم، لا يمكنه أن يتنعم بنصره وبإنجازاته، لأن الإرادة المضادة ساعية لجعلها وبالا عليه.

فأين إنتصارات مصر وإنجازاتها الصناعية والثقافية؟

وأين إنتصارات العراق وإنجازاته العلمية والصناعية؟

كلها إنقلبت وبالا على البلدين، وتلك حقيقة تترجم منطوقا خلاصته أن المنطقة يجب أن تؤمن بأن الهزائم والإنكسارات قدرها ومصيرها، وبهذا الإتجاه تتحرك ماكنة الإعلام وتنطق العمائم والأقلام.

عاشرا: يصنعون أحداثا للشرق الأوسط:

أحداث الشرق الأوسط من أولها إلى آخرها مُصنّعة ومستوردة، وإن صح التعبير فأنها مصطنعة!!

ولا يوجد حزب أو فئة أو جماعة، أو حركة إلا وقد صُنعت ومولت من قبل الآخرين الذين يريدون تأمين مصالحهم، بل أن جميع الأنظمة التي حكمت وتحكم والإنقلابات، ممولة ومدعومة، ولا يحصل ولن يحصل شيئ في الشرق الأوسط إلا بإرادة أصحاب المصانع والشركات ومباركة المدمنين على النفط ونهب الثروات.

وحتى الحروب والصراعات وإستخدام الدين ورموزه يتحقق وفقا لآليات تصنيعية وتسويقية، تخدم إرادة المتحكمين بمصير الشرق الأوسط وما حوله من الدول، التي تُستخدم لتمرير المصالح وتأمين الوصول إلى الأهداف.

وتلك حقائق سلوكية فاعلة ونشطة في منطقة الشرق الأوسط ومتكررة ومستوطنة فيه، يساهم في إزمانها وتطورها أبناء المنطقة الذين تم تأهيلهم للسقوط في أحابيل القبض على مصيرهم، وإمتلاك وجودهم.

ويبدو أن الواقع في القرن الحادي والعشرين سيكون أسوأ وأمر، لأنه قد بنى برامجه ومشاريعه على ما تمخضت عنه التجارب والأبحاث والأحداث في القرن الذي سبقه.

ولا تزال أفكار ومنطلقات هذا الكتاب ذات قيمة وفعالية في أيام الشرق الذي ما عاد أوسطا!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم