صحيفة المثقف

العقلانية ومكانتها في التاريخ ... الأتفاق العراقي السعودي مثالاً؟

يُقصد بكلمة العقل: الحِجر والنُهى ضد الحُمق، والعقل يحكم بوجوب العدل وكمال منزلته من دون ان يكون هناك ملةُ او دين، كما يحكم بقبح الأنانية والظلم، وهذا أمرمركوز في جبلة الانسان العاقل الذي فُطر على التمييز بين الخير والشر، النافع والضار، الحق والباطل، فهل ينكر العقل والعقلاء حسن الصدق، وقبح الكذب؟ وهل ينكرون حسن الامانة، وقبح الخيانة؟ وهل هم بحاجة الى من يرشدهم الى هذا أو ذاك؟ (الفلسفة والاعتزال ص83).حتى قيل ان العقلَ مضطر لقبول الحق: (على حد قول الامام الشافعي قولا وصدقاً، (الرسالة).

سيبقى العقل والحق صنوان لا يفترقان، واعمال العقل في القرآن فرض عين مُلزم . وهذا يعني أننا لابد ان نعمل بعقولنا لا بقلوبنا، ولهذا كان هذا الدعاء:"اللهم أجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه".ولم ترد الكلمة في القرآن مفردة وأنما جاءت على هيئة الجمع من الكلمة في (49) مرة، وعلى سبيل المثال، يقول القرآن الكريم:"آتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون، البقرة 44"، ومثلها كثير.

ويقول الامام علي (ع) (العقل هو الحكمة). ولقد ربط الامام بين العقل والعدل في

نظرية المصلحة حين قال: "لم يُخلق الخلق عبثاًعلى وجه يخلوا من الحكمة، ولم يتركه متخبطاً في معمياته، لذا فاللطف بعباده يلزم عليه عقلا، أذ لاسبيل الى الامتثال بأوامره ونواهيه الا بالعقل(نهج البلاغة). وفي نظرية الحسن والقبح تقول الاشاعرة: (ان الحُسن والقُبح تابعان لامر الشرع، فالواجبات كلها سَمعية، والعقل لا يوجب شيئاً ولا يقتضي تحسيناً ولا تقبيحاً، (الملل والنحل ج1ص101) .وهناك نقاشاً يطول شرحه .وحين تحدثَ الامام علي عن الحقيقة، مدح العقل باعتباره القادر على التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبح، والامانة والخيانة. وفي النهاية يقرر الامام : "ان المسئولية الاخلاقية في الدين هي للعقل لا للقلب دون الحواس الاخرى حين يقول: (ليست الرؤية مع الابصار، فقد تُكذب العيون أهلها لكن العقل لا يغشُ من استنصَحَهُ (النهج).

ان علماء الحضارة الانسانية واصحاب النظريات الفلسفية ويقف في مقدمتهم العالم الحضاري (أشبنكلر) ينظرون الى العقل من جانب أخر، هو النشاط الذي يقوم في كيان الانسان عن طريق المخ. لكنهم لم يقولوا لناعن الفرق بين المخ والعقل الا بعد فترات طويلة من التاريخ حين أكتشفوها. والمخ هو عضو يشترك فيه الانسان مع بقية الحيوانات والطيور والاسماك، (ويسميهم القرآن البشر)، لكنه عند الانسان اكبر واكثر تعقيدا وخلاياه اكثر تنوعا، ومع هذا احتاج الانسان الى مئات السنين حتى اصبح يدرك كيفية الربط بين الحوادث وأختزان النتائج والملاحظات . فحين بدأ الانسان يعقل الاشياء اي يربطها، بدأ العقل يدرك اول طريق الحضارة، من هنا اعتبروه اول مخترعات الانسان عندما أنزل الله التجريد على آدم ابو الأنسنة. ولقد ازدادت قدرة الذهن على العقل بمرور الايام وقدرة الاستعمال والمران شأنه في ذلك شأن العضلات الجسمية الاخرى كما يقول : العلامةحسين مؤنس في كتابه الحضارة.

لقد اصبح استخدام الذهن استخداماً منظما، عملية حضارية حين اصبح التفكير عنصرا اساسيا وفعالا في توجيه الانسان وصنع الحضارة، واصبح التفكير هو الهدف الاساسي في حياة الانسان . فالحق ان حياتنا التي نعيشها اليوم تصرفنا عن التفكيربشكل عقلي منظم لظروف قاهرة فرضها الواقع المعاش احياناً، وبعيدة عن ارادتنا أحياناً أخرى، وليس في الدنيا اخطر من العيش بدون تفكير.

التفكير له اصوله وقواعده فمن اصوله ان يقرأ الانسان ونحن – مع الاسف- نكتب دون ان نقرأ الكثير مما نكتب ويكتبون وتلك معضلة نواجهها اليوم في مجتمعاتنا العربية وخاصة جيل الشباب الحالي الذي آلهاه التلفون النقال، وأصبح يعتمد على ما تتناقلهالآلسن وتسمعها الآذان، وتلك محنة يواجهونها اليوم، وناجمة عن المسئوليات الكثيرة التي يتحملها الانسان العربي وسط تعقيدات الحياة الحالية والمسئوليات الشخصية المتفاقمة لفقدان المساواة في الحقوق، التي لم تدع لنا من فرصة للاسترخاء والقراءة، ناهيك عن نقص في توجهاتنا المنهجية في المدرسة والجامعة حين اصبحت القراءة روتينية لا ملزمة. وتلك مشكلة يعاني منها الجميع.

وتقف الغريزة الى جانب العقل عند الانسان. ان اخطرما يواجه الانسان هو الصراع بين الغريزة والعقل، لكن الغريزة دوما هي الاقوى لانها مركبة في الطبع، في حين ان العقل مكتسب، وهنا اذا ما تغلبت الغريزة على العقل تسوق الانسان الى المهالك والانحراف الخطير كالاجرام والعدوان على الناس والاموال والاعراض والتفرقة بين المواطنين في الدولة الواحدة كما هو في بلادنا اليوم.

أما سيطرة الغريزة على الحاكم تسوقه نحو ارتكاب ابشع الجرائم واختراق القانون والهبوط به الى مستوى الاباحية والفوضى الخلقية وخيانة الوطن وهي اكبر الخيانات التي رفضها القرآن الكريم (انظر سورة التوبه آية 43 حين يخاطب القرآن الرسول (ص) بقوله : "عفا الله عنك لمَ آذنت لهم ...، والعفو لا يأتي في معجم الكلمة العربية الا بعد التقصير.، وحاشا رسول الله من التقصير".، وهي اكبر جريمة يرتكبها الحاكم في وطنه كما نلاحظ اليوم في وطننا العراق، وهي مرفوضة رفضا باتا شرعاً وقانوناً، لذا وضعت الشريعة شروطا قاسية لمن يتولى السلطة في الدولة ويقف على رأسها القسم المقدس الملزم (وبعهد الله آوفوا). لذا ترى بعض الحكام الذين تسيطر عليهم غرائزهم ولا يلتزمون بشروط المسئولية الوظيفية تكون نهايتهم وخيمة كما في هتلر وموسليني وكرافدش واخرين من مسببي الحروب وقتلة البشر.

قيادات الشعوب بحاجة الى الوعي الحضاري، والوعي الحضاري، ما هو الا نتيجة للعقل، فهم محتاجون لعقول ناضجة مدربة وكلنا محتاج لتدريب عقلة على المحاسن والتفكير المنظم والا سقط الجميع في وحل الهزيمة والانكساركما نحن فيهما الان.

فليس كل من تعلم يمكن ان يكون حاكماأو مسئولاً، لان الحكم له شروطه ومزاياه التي حددتها الدساتير والقوانين في نظرية الاستقامة الكلية (السراط المستقيم) التي لازالت بعيدة عن التفسير العلمي في مناهجنا الدراسية في المدرسة والجامعة، لذا لم نتعلمها بعد، فمثلاً ليس من حق الحاكم ان يستعين بالمفضول بوجود الافضل في السلطة وأداراتها وتحت اية ظروف ملزمة، كما في وطننا العربي والعراقي اليوم، لان قيادة الوطن مسئولية شرعية وقانونية لا يجوز اختراقها بحجة صلاحيات الحاكم، لذا اغلب مسئولينا اليوم هم بحاجة الى النزعة العقلية في حكم الدولة وليست النزعة الغريزية والطائفية والنرجسية .

هنا فنحن بحاجة ماسة الى النصح والارشاد وألزامية القانون، لان الكل امام القانون سواء، وهذا ما هو متبع الان في الدول العالمية المتقدمة والمتحضرة الراعية لشئون اوطانها وشعوبها والملتزمة بالقانون والدستور.,وهم مطالبون ايضا بأن يكون الجزاء للعاملين بالدولة على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة في العمل وان تكون للانسان حرية التصرف والتنفيذ، على ان يكون آمنا على نفسه وماله وثمرة أتعابه كل ذلك مكفول بنص القانون والعرف الاخلاقي للجماعة وبذلك يكونوا قد كسبوا المعرفة والعلم والالتزام في النهاية.

من هنا على المرجعيات الدينية الكبرى وهي المطاعة في المجتمع والدولة، واجبا دينيا وأنسانياً ملزماً ان توجه الحاكم نحو الصلاح والفلاح وتطبيق مفردات مفاهيم الحق والعدل كما وردت في القرآن والسنُة النبوية الشريفة، (لا ان تصمت صمت القبور)، لا باسداء النصيحة فقط، بل بالزامية التطبيق، وان تبتعد عن كل ميل سياسي يخدم الحاكم حتى لا تقع في انحراف السياسة وخذلان المجتمع وهذا هو الاسلام، الذي ندعوا اليه في مجتمعاتنا العربية الاسلامية ونحن بعيدون .

نحن نريد مرجعيات دينية فاعلة تقف بصف الشعب لتقول للحاكم انت مخطىء وقت الخطأ والانحراف، وانت عادل وقت العدل والصلاح، لا مرجعيات مقدسة على طريقة (قدس الله سره)، وقد أهمل الحاكم واجباته الدينية والسياسية وقد جعلها طائفية وعنصرية ومحاصصة وظيفية دون شرع الجماعة فهل سنبقى من الساكتين.

نحن ندعو دوما الى ادخال الدراسات الفلسفية والتوجهات العقلية في مناهجنا الدراسية المبنية على العلم والتجربة، والابتعاد عن المناهج الغيبية التي تضع عقول الناشئة في الدوائر المغلقة التي تلغي الزمان والمكان وتسقط العقل والتاريخ والمنطق لرغبة سلفية هاربة من مواجهة تحديات العصر الحديث والتي لم تستطع تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتها المعاصرة منذ1400 سنة من عمر الزمن .

نحن ندعو ممن هاجروا وعاشوا في عالم الحرية ان لا يكونوا مثل الذين قتلتهم الطائفية والعنصرية والأنغلاقية الفكرية المتعصبة، فيكونون بابا للأنفتاحية والوحدة لا ابوابا للأنغلاقية والعدائية التي تشبعت فيها ارواح الجهلة واللاانسانية.

خطوة جديدة وجيدة ومقبولة اقدمت عليها السعودية والعراق اليوم، في فتح باب التعاون ونسيان الماضي وتجاوز الأنغلاقية..نبارك لها وندعو ان تستمر لتشمل كل الأخرين ..بعد ان قتلتنا الردة، وفرقنا العدو اللئيم، ولم نكسب منها الا الشر والعدوان.

 

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم