صحيفة المثقف

بلقيس حميد حسن تعزف الوجع العراقي على أوتار سومر.. قراءة لنشيج روائي: هروب الموناليزا .. بوح قيثارة

مهاد: بعد مرحلة سقوط الديكتاتورية العراقية 9-4- 2003، ظهرت موجة جديدة من الأدب شعراً ورواية لتواكب الحدث الأكثر دراماتيكية في الحياة العراقية منذ تأسيس الدولة عام 1921، وما تلاها من تغييرات دموية متلاحقة، ولعل الرواية كان لها الحظ الأوفر في التعبيرعن الأحداث وتفاصيلها بدقة وشمولية، فظهرت اعداد كبيرة من الروايات  تباينت في مستواها الفني ونضجها الفكري كماً ونوعاً، ولكنها أشّرت بقوة الى عودة الروح للرواية العراقية بعد انفكاكها من أسر الشروط والأسوارالتي وضعتها الثقافة السابقة بإداراتها المختلفة، ولعل شرط الحرية هذا قد أطلق العنان للكتابة الروائية بولوج آفاق وحفر أنفاق لم تكن متاحة للروائي بوصفها محرمات قاتلة . ومن الجدير ذكره دخول العديد من الشعراء الى حقل الرواية مستثمرين ثقافتهم ورؤيتهم وتجربتهم وعدتهم الشعرية وبصيرتهم وكمال رشدهم الإبداعي، فجاءت رواياتهم الأولى إضافة الى منجزهم الشعري الخاص والى الإبداع الروائي العراقي والعربي أيضا، ولعل رواية " هروب الموناليزا .. بوح قيثارة " للشاعرة الكاتبة بلقيس حسن نموذج ناجح للرواية العراقية الجديدة .

.................

 الرواية بوح شخصي و سيرة جمعية أيضا

عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر، بغداد، صدرت رواية الشاعرة والأديبة بلقيس حميد حسن،وهي تحمل عنوان " هروب الموناليزا.. بوح القيثارة .. فصل من سيرة ذاتية للكاتبة ولنساء عرفتهن في طريق الحياة ".

 الرواية تتحدث عن تراجيديا الحياة العراقية في ظلم النظام الديكتاتوري السابق، وحصريا على لسان حواء وأخواتها،إذ حفلت الرواية بالبوح الشجي الفردي والجمعي  الذي لمسنا فيه تجنب الروائية للوظيفة السردية التقليدية المُعرّفة  لتكون صوتا جمعيا صارخا في برّية الوجع متوافقا مع قسوة المصائر التي شهدتها بطلات الرواية على يد الأجهزة القمعية العراقية آنذاك، لقد تمتعت الروائية بلقيس بحس إنساني عالٍ، وقدرة موفقة للحفاظ على التوازن السردي ومسك مصائر الشخوص والأحداث والزمان والمكان بطريقة ناجحة،ومن رسائل الرواية انها عرّت سيطرة المجتمع الذكوري إجتماعيا و سياسيا ودينيا في عراق الوجع، وادانة ظواهر القهر بكل اشكاله، حتى وإن كان للمرأة حصة الأسد في البوح، ولكنها أيضا غاصت في عمق القهر المجتمعي العام .

لقد تحلت الكاتبة برؤية عميقة وثقافة قادتها الى النظر الى الأحداث وتحليلها بشكل شمولي منذ العهد الملكي حتى العهد البعثي الثاني،رغم انغماس رؤية الشاعرة في ثقافة المد اليساري الشيوعي العراقي تحديدا، فنرى المصائر المتقاطعة على رقعة الرواية، التي نجحت بلقيس في كتابة رواية "وثيقة " لتاريخ حقبة عراقية دامية، وهذا ما يجعل العمل الأدبي مدونة خالدة لتحنيط لحظات الزمن السائل ومحاكمتها كي لا تذهب دماء الابرياء بلا ثمن !، كانت الروائية على درجة عالية من اليقظة وهي تكتب شهادتها بصوت عالٍ " قد تختلط عليكم شخصياتنا، كما اختلطت عليكم معرفة مشاعرنا وتحيرتم . هل نحن بشر أم أقل من بشر ؟ وقد يرى بعضكم نفسه في بوحنا هذا؟ "

الرواية تسجل خيبة العراق مختصرة ببطلتها  " سومر"  وهو استعارة ذكية الى رمز أول حقبة حضارية عراقية- السومرية - وهي تتمرغ في وحل الدكتاتوريات، خيبة إثر خيبة " خيبة الوطن، خيبة الغربة، خيبة الحب الكاذب، خيبة الزوجة السرية، خيبة الفنانة المقطوعة من جذورها والملقاة قسرا في عالم غير عالمها،خيبة الانوثة، خيبة الجمال، خيبة الأمومة،خيبة الكائن، خيبة الجسد والروح، خيبة الحلم، خيبة اللغة، خيبة العادات والتقاليد،خيبة المبادىء، خيبة المناضلين، خيبة الوفاء، خيبة القلق، خيبة الحضارات والمدنيات، .. "

 ..................

 السرد .. معالجة جمالية أسلوبية

 بنباهة شعرية موفقة اختارت بلقيس لبوحها السردي أن يكون عزفا على أوتار قيثارة سومرية عراقية، وتختار لبطلتها وحاملة شعلة روايتها اسماً دالاً وهو – سومر – ليحمل في داخله دلالة ذكورية وانثوية مزدوجة،وهذا ما تفعله بلقيس في روايتها عندما تربط العام بالخاص والانوثة بالذكورة، وثنائيات متتابعة، ثم تتابع اللعب السردي بتناوب الحواربين الراوي العليم وسومر واحيانا تشرك أخرين للروي مما يساهم في كسر الملل ومتابعة السرد بطراوة، سيما وأن بلقيس اختصرت الرواية بفصول أطلقت عيها" أوتار، جمعتها في سبعة وعشرين وترا منذ – الوتر الهارب .. وحتى الوتر الطليق" وهذا يسجل للروائية الشاعرة سرديا وجمالياً، واللعبة السردية الأخيرة التي ختمتها بلقيس في أنها جعلت الخاتمة بداية الرواية مؤرخة مغادرتها العراق الى سوريا في عام محنة اليسار العراقي تماما 1979، لتفتح أفق القارىء الى بوح آخر يستوعب الأحداث القادمة منوهة بشكل خفي على تسلسل الرواية ربما بأجزاء قادمة " الآن استطيع أن أبتسم .... وهل سأنجب طفلي بظرف طبيعي ؟ كل هذا سيكون في بوح ٍ آخر "

ولأن بلقيس مخلصة لرساتها جعلها تهمل نوعا ما تقنيات كتابة الرواية الحديثة ومتاهاتها السردية منتصرة للحكاية كرسالة إنسانية أولا وجمالية ثانيا، متحصنة بالحس المعرفي العميق من خلال رواية تشد القاريء وتجعله يلهث ويتابع القراءة حتى الوتر الأخير، لتنتظم سمفونية الوجع العراقي ماثلة للتاريخ الإنساني، ولتصطف مع روايات الموجة الجديدة في المشهد الإبداعي العراقي .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم