صحيفة المثقف

انكسارات الربيع العربي في مرايا ثورة ماي 68 الثقافية

في الوقت الذي سالت فيه دماء كل ثورات الربيع العربي هدرا، وعندما ضحت شعوب كل من مصر، تونس واليمن بفلذات

أكبادها من اجل الحرية والمشاركة في بناء مستقبل الدولة المدنية الديمقراطية، فإن معطيات الواقع تدل على أكل الثورة لأبنائها. أما السبب فيرد الى التفاف "حراك الإسلام السياسي" على مكتسبات الانتفاضات الشعبية، والثورات الشبابية عن طريق صناديق الديمقراطية الغاشمة، وعليه فإننا نتساءل إذا ما كان فشل الثورات العربية مرتبط بضعف الأحزاب السياسية؟ أم هل هو مشكل الأمية وتراجع نسب التعليم؟ أم أنها مسؤولية النخب المثقفة التي قال بصددها المفكر المصري محمود أمين العالم رحمه الله: (لقد تحول المثقفون الى شعراء بلاط ووعّاظ سلاطين وأدوات تبرير وتمرير لسياسات النظم العربية القائمة)، بدلا من التمسك بمبادئهم الوطنية والقومية والإنسانية، لينخرطوا، بمستويات مختلفة، في النضال بالفكر والإبداع  من أجل تغيير الأوضاع المتردّية في البلدان العربية، لمحاربة التطرّف والأفكار الهدّامة. وأمام هذا الواقع المتردي تاريخيا والمؤلم سياسيا، أبينا إلا أن نقوم بقراءة نقدية للثورات العربية "الربيع العربي" الأخيرة على ضوء السياق الفلسفي والتاريخي  لربيع ثورة ماي68 الثقافية. وذلك من خلال ترجمة مقال للباحث الكندي روبير دانو بعنوان" ملاحظات حول يسارية دانيال كوهن بنديث ". وهو مقال ارتبط بشهر ماي من سنة 1968، الذي لم يكن شهرا عاديا في كل تاريخ القرن العشرين، فقد بدأ ذلك العام بداية هادئة تماما، وحتى في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا آنذاك. لم تكن هناك أدنى بادرة تمرد، وكان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية يبدو راسخا إلى أبعد الحدود، فجأة اشتعل العالم بالحلم وكان الطلاب هم النار والنور، التحموا بالشارع فانطلق صوت جيل جديد يعلن رفضه لكل شيء: الاستبداد، القهر، الاستعباد، توحش رأس المال، النفاق الاجتماعي، والجمود العقائدي. وواقع الحال هو أن رياح الثورة قد انطلقت من مكسيكو سيتي وبيونس أيرس إلى براغ، مرورا بباريس، عندما دفعت فكرة البحث عن الغد الأفضل الأجيال إلى الحلم الثوري. على أساس، أن الحدث الذي قدح شرارة نيران الثورة، قد ارتبط بتقديم الطالب الثوري الفرنسي ذو الأصل الالماني"دانييل كوهن بنديت" لمجلس التأديب، الذي قال بصدد تحديده لطبيعة حركة ماي 68 على أنها ثورة الطلاب، هي ثورة وقد تغدت من حركة عالمية، وبالتالي فإن عملية تحديث المجتمع، سوف يقودها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنه الجيل الذي رأى أن الذين عاشوا الحرب لديهم رؤية منغلقة بالكامل بالنسبة للعالم والمجتمع والأخلاق، منغلقة لدرجة العجز عن طرح سؤال المستقبل، ولهذا السبب الوحيد حدث الانفجار، ثورة أطاحت بكل النفاق الاجتماعي والأخلاقي والسياسي الذي كان سائدا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية،  ففي هذا الزمن تم اغتيال مارتن لوثر كنغ، وروبيرت كندي، وفيه حصل تمرد تشيكوسلوفاكيا على الهيمنة السوفييتية وربيع براغ، وفيه ظهرت حركات تحرر المرأة في الغرب وبداية نهاية الاتحاد السوفييتي، وفيه ظهر ياسر عرفات على مسرح التاريخ بصفته قائدا للحركة الوطنية الفلسطينية وفيه اهتز النظام الديغولي، الذي كاد أن يسقط بعد الثورة العمالية والطلابية الشهيرة.

وفيما يلي سنعمل على عرض الانتقادات التي قدمها روبير دانو حول ملاحظات كوهن بنديث على شيوعية  لينين، لاسيما في جوابه الشهير،(1) الذي يؤكد من خلاله على أن النزعة الشيوعية، ليست إلا مرضا أنتجه النمو الاقتصادي، مدعيا في هذا السياق امكانية اجراء عملية جراحية لتطبيب المجتمع المترهل، بسبب شيخوخة كبار أطباء الماركسية اللينينية. وفي هذا السياق يقلل  روبير نادو من إمكانية نجاح إجراء هاته العملية القيصرية، التي اقترحها علينا الطالب بنديث الثوري. وأما السبب فيرد الى ندرة الأدوات التي يمكن ان تسعفنا في تتبع هاته العملية،  بحيث أن هذا الطبيب الثوري لا يكشف لنا صراحة، على أي فهرس للمراجع المعتمدة، أو أي جدول كرنولوجي، ولا أية طاولة تحليلية، أو شروحات في أسفل الصفحة، وبالتالي يؤاخد  روبير دانو على كوهن مسألة تماديه في كتابة التاريخ، بواسطة أدوات ما قبل تاريخ، الغير المعترف بها في الأوساط الجامعية. وللإشارة فإن المقصود بهذه العملية هو الكتيب الجيد والخطير، الذي يحمل عنوان " اليسارية كدواء لداء شيخوخة الشيوعية"  والذي ألفه كوهن في خمسة أسابيع، يفسر من خلاله  كل شيء ولا يعتذر البثة، عن أي شيء آخر، مستهدفا من ورائه التهييج والتحريض، الذين ينتظمان ضمن مشروع مسلسل ثوري محدد سلفا. وعليه يدعونا روبير نادو إلى معاينة الكتيب عن قرب، للاطلاع على محتوياته الفكرية ومضامينه السياسية، ليقترح علينا مباشرة عملية دراسة تحليلية بالتركيز على ثلاثة محاور متداخلة فيما بينها. وللتذكير فإن الكتيب "المشاغب" ما هو في الحقيقة إلا دراسة يقظة لشروط إمكانية حدوث" الهزة الثورية" الشهيرة، كما أن هذا الأخير يتضمن تحليلا يتراوح ما بين السذاجة والقوة في التناول بالدراسة والتحليل لأهم وأكبر القضايا التي شكلت موضوعا رئيسا للإحتجاج في أوربا الغربية( إضرابات عامة/ مجالس العمال والتسيير الذاتي)، كما يمكن اعتباره كذلك وثيقة، وقد رصدت بشكل دقيق لحظات قدح شرارات الثورة في تاريخ فرنسا القريب، سيما شهري ماي ويونيو إبان "ثورة فرنسا الثقافية لسنة 1968". وفي اطار القراءة الاستطلاعية يقترح علينا روبير نادو  شبكة قراءة دقيقة لهذا " الكتيب المشاغب" يعتمد فيها على ثلاثة نقط رئيسة: 1- الإحتجاج كمصدر لانكشاف الوعي النقدي الجذري،2- الجامعة كفضاء نقدي ومكان للنقد، 3 - المجتمع كمشروع ثوري.

1- الإحتجاج:  يتخذ معنى الاحتجاج، عند  كوهن معنى خاص، يهم المعارضة الطلابية في الوسط الطلابي، إذ يرى أن هذه المعارضة ستهدم، على ابعد الحدود المجتمع العام، لتخلف وراءها انقلابا بنيويا بشكل ارادي، على اساس ان هذا الاخير تتحكم فيه عدة عوامل: أولها ارتباط الاحتجاجات الوثيق بثورة الشباب المعاصرة(ص 44 )، تلك الثورة التي لا يمكن فهمها في إطار صراع  الأجيال، أو على الوضعية التي يوجد فيها كل واحد، وإنما في نقدها الساخط على النسق العام للمجتمع الحالي. أما العامل الثاني الحامل، على فعل الاحتجاج، فيمكن رده الى  طبيعة العمل الثقافي الممكن في المجتمع(ص45)، والذي لا يسمح في الواقع إلا بثلاثة مواقف مختلفة1 - ان تغض الطرف على مفارقات اربعين سنة، مكتفيا بدورالعادي لأستاذ.2- أو الإستسلام بطريقة مثيرة للشفقة عن التدهور العام، الذي لحقنا جراء لهفة الجري وراء الربح، في تنكر تام للقيم والمبادئ. أو بالرغم من كل شيء، الكفاح الثوري، من أجل كشف تناقضات النسق بهدف التسريع بهدمه، وانتاج مجتمع اخر أكثر جذرية. أما العامل الأخير فهو مرتبط  بنوع من الحرية اللاّمسؤولة(ص48)، أي الارتهان العام  لمثال ثوري، تحتد جاذبيته مع وضعية الإمتياز المعرفي الذي يتمتع بها الطلبة، بحيث أن وضعيتها الصعبة اقتصاديا، لا تسمح لها بالاندماج في النسق الحالي، وهو ما يشكل شرط قاعدة ممارسة النقد الجذري. وعليه فإن العوامل الثلاثة، تجعل من المحتج أو الطالب المناضل متطرفا، وبالتالي يكون هدفه دفع الجميع نحو الهاوية، عن طريق شق قناة جديدة لتمرير غضبه، غير مستسلم، حتى يظهر الفارس المنقذ من الظلم السياسي والحيف الإجتماعي. إنه مسلسل بسيط جدا، من جهة أنه يروم التحريض بحكم التواجد في المجتمع "كأقليات متمردة" ثم القمع الذي تتعرض بحكم معاداتها للنظام البورجوازي، مما يقود في النهاية الى التعبئة المتنامية للطلبة والرأي العام. هكذا نلاحظ على أن هذه الجدلية  جد مبسطة، ومع ذلك أتبثت نجاعتها، كما وضعت حدا لمشكل واقع تعبئة الطبقات الثورية، وبهذا الثمن قد أصبح من الممكن الأخذ بالوعي الثوري الجذري، راغبين في أشكال حياة اكثر اختلافا وجذرية عن ما يسمح به النظام العام للأشياء. وفي النهاية يمكن ان نستخلص على أن الإحتجاج أولي بالنسبة لأقلية من الطلبة، التي تعارض ب" لا " عامة لما يريد المجتمع الحالي أن يقبل به، غير أنها لا تحقق أهدافها إلا عندما تعمم طرحها الثوري، والأنكى هو أن رفض هذا الإحتجاج  لا يغذي بطبيعة الحال إلا الوضعية المرتبطة بمشروع الجامعة.

2- الجامعة. إذا كان النقد في الجامعة، لا ينتشر إلا عن طريق مجموعة من الأفعال: توزيع المناشير، الكتابة على الجدران، حلقات النقاش، الإجتماعات، والإضرابات واحتلال الأمكنة العامة. ومن ثمة لا يمكن تصور وعي طلابي الثوري في غياب هذه الأخيرة، لكون الجامعة من مؤسسات مجتمعنا. والواقع هو أن النقد، قد انصب على تناول وظيفة الجامعة في مجتمع تراتبي، يعمل بجد على تكريس التراتبية (ص187)، مدعين على أن الجامعة هي مكان  للإبداع  الثقافي(ص28). وأما رفض المؤسسة فهو ناتج عن التحليل السوسيولوجي والسياسي للكل الإجتماعي. لا يتعلق الأمر إذن برفض مجاني لمؤسسة الجامعة بسبب الرفع من قيمتها من طرف مجتمع غير عادل، وإنما باعتبارها هي المحرك الرئيس لما يسميه بيير بورديو "اعادة الانتاج". غير أننا عندما نعلن قبولنا للجامعة ودورها الحالي، فإن الأمر لا يعني إلا شيئا واحدا هو قبول استمرار هذا الواقع المتردي، واقع  نسق قمعي بمقياس الحاجيات المتذبذبة للطبقة المهيمنة(ص30). والحال هو أن رفضنا  للجامعة، ليس إلا الرفض  لكل إصلاح لا يأخد بعين الاعتبار "القضية الإجتماعية"، بالرغم من  عملها على استمراريته وتعميقه تدريجيا. بيد أن النزعة الإصلاحية لن تزيد إلا من حدة  التناقضات، التي تجعل من الجامعة مسرحا للتناقضات الاجتماعية: بحيث أن الأهداف التي تسعى الجامعة إلى تحقيقها، قد يقصي بعضها بعضا.  واما السبب فيرد من جهة الى كون الجامعة لها دور اقتصادي يهم (صناعة العمال المثقفين والأطر)، ومن جهة أخرى لها دور إخلاقي "قيمي"، يستهدف البحت عن الحقيقة في الموضوعية، التي تتعارض ونقد القيم الاخلاقية. ولهذا السبب الموضوعي، ما على الجامعة إلا أن تنفجر، وبانفجارها ينفجر كل النسق. وهنا تكمن القضية السياسية القصوى، بيد أن هذا الإنفجار لا يكون حاسما إلا إذا ما توفر شرطين رئيسين: 1- يجب القطع مع امتياز وضعية الطالب البورجوازي لفائدة روح الدمقرطة المطلقة وتكافؤ الفرص في التعليم العالي(ص56)، 2-كما أن هاته الوضعية تستدعي تطبيع علاقة الطالب بالأستاذ، التي تتناقض مع علاقة رب العمل بالمأجور،  وفي هذا السياق يمكن أن نتساءل إذا ما كان من الخطأ أن نعتبر أن المجتمعات الصناعية تقبل بدعم ودمقرطة التعليم العالي.

3 -المجتمع: بناء على ما سبق من تأكيد، على أن النقد الجامعي، لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ما اعتبر أن لحظة النقد أصيلة بامتياز، عندما يتوجه الى المجتمع في كليته. وبالتالي فإن كل نقد إذا ما أراد أن يكون عاما ومتوجها إلى الكل، أو إذا لم يرد أن يترك شيئا ينطلق من تلقاء ذاته، فما عليه إلا أن يكون نقدا "ذاتيا" أولا وقبل كل شيء. غير اننا سنعمل على تأجيل هاته القضية، لأنها تأخد بسرعة بالغة طبيعة التناقض، لذا نريد ان نعرف بالضبط ما نقصده" النقد الشمولي" للمجتمع إن كان الامر ممكنا؟ وعليه فإن كتيب بنديث" المشاغب" لا يتوجه بالنقد الا لثلاثة قطاعات من الحياة الإجتماعية:1-البيروقراطية التي تختزل العلاقات الإنسانية في الزوج( المدير والمدار)، التقنوقراطية النقابية، ثم أخيرا التقنوقراطية المناضلة. غير ان معنى النقد حسب معجم "روبير" يقصد به  سلطة المكاتب السباسية، بحيث أن البيروقراطية لا يمكن أن تعطي أشياءا جديدة اللهم مسألة المبدأ، كما أننا ندرك بسرعة أن البيروقراطية في هذا السياق ليست إلا الفقر، خاصة البيروقراطية الفرنسية عينها، وهو الأمر الذي يقتضي منا أن نقوم بشيئين 1- أن نكشف على أن هاته البيروقراطية مجرد عائق، وأن نبرز ماذا تعرقل بالصريح المفيد. سنعتبر ان كل بيروقراطية هي بمثابة اكراه، لانها أساس كل استغلال: إنها عملية وضع الوسطاء، الذي يحولون دون أي تنظيم عفوي للحياة والعلاقات الإجتماعية. غير أنه لا يمكن تصور مجتمع بدون استغلال، عندما يكون تدبير الإنتاج غير متمركز في فئة اجتماعية بعينها، اي عندما يختفي  التقسيم البنيوي للمجتمع من حيث التدبير والتنفيذ على جميع المستويات(ص114). إن انهاء البيروقراطية ليس إلا إقصاء لكل تراتبية اجتماعية، أي كل أنواع علاقات التمايز بين الناس، أي تلك العلاقة التي لا يمكن أن تؤسس إلا حول امتيازات الموقع، الذي يكون على الغالب عشوائيا. بعد ذلك يمكن أن يرفع الحجر والوصاية عن المجتمع الحديث، وعلى العمال، عندما نجبرهم على علاقات العمل  وكأنها سلطة نهائية وضرورة مطلقة. وعليه فإن الإحتجاج ليس له من وظيفة غير إثارة الشك لدي العمال، من أجل أن ينبثق مجتمع جديد قابل للتحقق. ولذلك فإن إمكانية حياة بديلة، تتمتع بوجود أو "عفوية خالصة" تصح كأساس، لا يكتب لها النجاح في  في المجتمع الحالي. بحيث أنه في الوقت الذي يتم فيه شجب البيروقراطية في مبدئها، فلا يمكن أن يتبقى أي شيء للنضال النقابي كحركة منظمة: لان النقابي لا يمكن ان يحسن وضعيته، مادام يحمل على كاهله مطالب العمال بهدف تحقيق الاستجابة اليها. والواقع هو أن العامل إذا ما اراد أن يصل الى تنظيم المجتمع، فإنه لا يقدر على ذلك إلا عندما يتحكم في ترتيب معاركه ونضالاته الخاصة(ص201)، يقتضي الأمر إذن هدم ما يسمى بأسطورة "الوسيط". فعندما يتعلق الشأن بالحزب الاشتراكي أو الشيوعي، فإن هاته الاخيرة لا يمكن إلا أن تكون من أشكال البيروقراطية، وبالتالي تصير تقنوقراطية أكثر من مناضلة. بيد ان العفوية هي التي يجب ان  تنتظم حولها العلاقات الاجتماعية، واما الحزب البغيض فلا يستحق إلا الانقراض.

4-نقد الربيع العربي. يتضح من خلال مفاصل المقال أن ثورة ماي الثقافية الفرنسية، تلك التي قادها الطلبة والمثقفون اليساريون، لتعبر عن سياق تاريخي أوربي خاص، تميز بالرفض والنقد الجذريين للأوضاع العامة، لاسيما بعد المخلفات الفكرية والسياسية، التي تلت حربين عالميتين، مشكلتين وصمة عار على جبين العقل الأوربي الحديث. أما نحن- عرب المعلقات السبع-، فنقصد بالربيع العربي ذلك الشتاء الفكري والسياسي، الذي ابتلت به المنطقة العربية في مرحلة إنتقالية، سمتها الرئيسية صعود الإسلام السياسي إلى الحكم في دول كل من: تونس، مصر، ليبيا والى الحكومة في المغرب. إذ بالرغم من اللحظات العسيرة التي يمر بها الإنسان العربي، إلا أن اللحظة الحرجة  حسب المثقف هاشم صالح لم تحدث بعد، لحظة السؤال الأكبر، السؤال الذي يتوجه للأعماق والجذور، السؤال الخطير، بل الخطير جدا الذي يقف في وجه الأسئلة الحقيقية وعملية المراجعة الجذرية. ما يعاب على هذا التحول التاريخي الجانح، هو هيمنة الفكر الرجعي الارتدادي المناهض للديمقراطية الحقة، والمعرقل لأي تطور فعلي لحركة التقدم الإجتماعي، هدفه في آخر المطاف إشاعة ثقافة الفكر الواحد، الرأي الواحد، والتخلي عن المثقف في مقابل الدعاة، كما أنها تستوحي أفكارها المتطرفة من العصور المظلمة بصكوك غفرانها ومحاكم تفتيشها القروسطية، السابقة على النهضة، التنوير والحداثة في الغرب، محاولة من خلال ترسانتها الدعوية تكفير الجميع والمجتمع وتحويل الدين إلى وقود للسياسة خدمة لقوى الظلام، التي لن تقدم أو تؤخر "عودة محاكم التفتيش". فما العيب اذا ما عادت الجامعات العربية ومعاهد البحت العلمي في دول الخليج العربي إلى  الانفتاح بشكل كبير على منهجية العالم الحديث، بهدف تلمس الأسس الفلسفية والسياسية للدولة الحديثة؟ الا يمكن للفكر الفلسفي لعصر الأنوار، أن يسعفنا في إعادة الاعتبار للعقل والحواس وتجاوز الأحكام الجاهزة والجمود على ما تبقى من سلطة الماضي ؟  لقد اعتبر فلاسفة الأنوار أن الحرية هي الحق المدني أو ما تسمح به القوانين حتى لا تضيع حرية الآخر، كما انه فكر يسعى رواده إلى إحداث قطيعة مع العالم القديم ومعالمه الفيودالية بهدف تجاوز الوضعية المتردية للمجتمع الأوربي، الناتجة عن هيمنة الفكر الخرافي، ونفوذ الكنيسة والاستبداد السياسي إلى وضعية جديدة يحتل فيه العقل البشري مكانته الحقيقية بدراسة الظواهر الطبيعية والوقائع الاجتماعية دراسة موضوعية ونفعية مادية. كما يمكن ان نضيف على ان البحت  شمل البحث عن الاستقلالية  في كل مجالات الوجود، بدء من المعرفة في معناها الشامل. كما ساهم الفكر الانواري في  تحرير المعرفة من كل أشكال الرقابة الإيديولوجية، محققة بذلك نجاحات منقطعة النظير. نفس الأمر عرفه مجال الحق والتربية والفنون. وفي هذا السياق الحداثي فقد اكد الفيلسوف الالماني فريدريك هيغل على ضرورة إيجاد خط فاصل بين اللاهوت والسياسة، من جهة أن  مهندسي  العقد الإجتماعي، اعتبروا ان السلطة امرا بشريا، وان  الفكر السياسي يجب ان يؤسس على العقل والتعاقد  بين البشر، بعيدا عن كل التصورات الدينية الاستبداية، التي كانت سائدة عند رجال الدين الذين كانوا يستغلون الدين لخدمة مصالحهم، ويعتبرون العبادة رهينة بطاعتهم هم، وأنهم يشكلون حلقة وصل بين الله والإنسان.

 

الاستاذ سعيد توبير - المملكة المغربية

..........................

1- Courte reflexion sur le livre de Gabriel et Daniel Cohn-Bendit, Le Gauchisme remede & la maladie senile du communisme. Editions du Seuil, Paris, 1968.

 

 

 

تعليقات فيسبوك

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم