صحيفة المثقف

الرؤيا الجمالية في شعر بشرى البستاني (1)

لا شك في أن الرؤيا الجمالية هي الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي ترتقي بالنسق الشعري، وترقى بمستويات مؤشراته الجمالية، ولا ترتقي الرؤيا الجمالية إلا بمنتوج جمالي، وشكل جمالي جذاب؛ وهذا التفاعل والتضافر بين الإحساس الجمالي والشكل الجمالي هو الذي يرقى بالحدث الشعري، ومثيراته الجمالية، ولا نبالغ إذا قلنا:

إن شعرية أي منتج إبداعي تتحدد بالرؤيا الجمالية، والمقامرة الجمالية الناجحة لا تكتسب شعريتها إلا ببكارة هذه الرؤيا، وجدتها، ومدى مراوغتها لذهن القارئ، ومن هنا؛ فإن المقامرة الجمالية المثمرة هي التي تنبني على رؤيا جمالية، وحساً جمالياً مثيراً بالمنتج الفني المثير، يقول (مارتيان) : " إن القيمة الفنية هي وحدها التي تتخذ مكانها، لكن هذا يحدث عن طريق قوة عجيبة تربط بين تلك القيمة بوصفها نابعة عن الصفة الإبداعية الشاعرية، والعمل الشاعري الذي يطالب بالسيطرة على الحياة الإنسانية كلها، ويتخذ لنفسه وظيفة يعمل بها، ليهيمن على مصير الإنسانية كلها، فقد أقام كل من (بايرون) و(جوتة) أنفسهم أبطالاً أعظم من الأبطال التي صوروها في أعمالهم، وادعى (أرنولد) أن الشعر يستطيع إنقاذ العالم عن طريق ممارسة جميع الوظائف الأخرى للعقل، وعلى مستوى التعبير الشاعري" (1) .

وبهذا المعنى، أو التصور، فإن ما يرقى بالمنتج الفني القيمة الجمالية أو الشاعرية التي يكتسبها عبر الرؤيا الشاعرية، أو الرؤيا الجمالية التي ترقى بها الفنون جميعها؛ ولهذا يقال: إن الشيء الشاعري هو الشيء الجمالي الذي نحسه في قرارة أرواحنا، ولا نعيه، ولا نملك له تفسيراً على الغالب، فالجمال لا يقاس إلا بالجمال ذاته، ومحك الجمال هو الرؤيا المبتكرة، والشكل الجمالي المثير. ومن أجل ذلك، فإن المقامرة الجمالية الفاعلة أو الناجحة هي التي ترقى برؤياها، وتنجح بإتقان في توليد الحس الجمالي إزاء تأملها، أو اكتشافها، أو الوصول إليها؛ والمقامر الإبداعي الحق هو الذي يمارس جميع نشاطاته الإبداعية لتخليق منتجه الفني بجمالية غير متوقعة، أو غير مسبوقة، ولهذا قال (دوماس ألابن) : " يجب أن يكون الفنان نبيهاً" (2) . حتى يستطيع أن ينجح في مقامرته الجمالية؛ وينجح في تخليق رؤيته الإبداعية الفذة، يقول (ألبير كامي): "ليس الفن في نظري استمتاعاً هزيلاً بل هو وسيلة لتحريك أكبر عدد من الناس بأن يقدم لهم صوره مميزة للآلام والسعادة العامة" (3) .

وهنا، تنبع أهمية الفن من إثارته، وعنصر تأثيره في المتلقي، بما يثيره من انفعال، وحساسية في تلقيه، وهذا ينبع من جوهر الرؤيا التي تنطوي عليها الفن، يقول الشاعر اللبناني المبدع شوقي بزيع: "أنا أعتقد بأن الشاعر العظيم ممكن أن يكتسب أهميته من طريقة مقاربته للأشياء، سواء أكانت هذه الأشياء قضايا كبرى أم كانت تفاصيل جزئية، ممكن أن يكون الشاعر رؤيوي، ويكون شاعراً كبيراً، كما هو حال المتنبي، أو جلال الدين الرومي، وأدونيس، ويمكن أن يكون رؤيوياً، ويكون شاعراً سيئاً، لأنه لم يستطع أن يتمثل هذه الرؤيا عبر شعر حقيقي أو جميل، ومتميز ومغاير" (4) .

وبهذا التصور، يمكن أن نعدَّ الرؤيا عنصراً جوهرياً في الرقي بالمنتج الفني، والمبدع الذي لا يملك رؤيا عميقة ليس بمقدوره أن ينتج فناً إبداعياً جمالياً راقياً؛ لأن الرؤيا عنصر جوهري، في تحفيز المنتج الجمالي إلى قيمة جمالية مطلقة، أو عظمى. ولذا، فإن أولى مؤشرات الرؤيا الجمالية المقامرة العميقة التي ترقى بالنسق الجمالي أو الشكل الجمالي، لدرجة تسهم في تكثيف الإيحاءات، والرموز، لإخفاء الحقيقة، أو لصنع الحقيقة الجمالية المتخفية في كل فن من الفنون، فعظمة الفن تكمن في بحثه الدائم عن الحقيقة، وفي لذة البحث هذه تكمن لذة الفن، يقول (بيرجسون): " إن الفن سواء أكان تصويراً، أو نحتاً، أن شعراً، أو موسيقى، ولا هدف له إلا إبعاد الرموز المفيدة عملياً والعموميات المقبولة تقليدياً واجتماعياً، وبالاختصار كل ما يخفي الحقيقة يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة نفسها" (5) . ومن هذا المنطلق فإن الفن الإبداعي الحق هو فن التلذذ بالرؤيا، والتلذذ بالشكل الجمالي الذي تتجدد فيه هذه الرؤيا، وتكمن لذة المقامرة الجمالية في التفنن بالشكل الجمالي، بإيحاءات الرؤيا أو الخلفية الجمالية للنسق الفني الذي يتجسد فيه، يقول بيرجسون: "الفن الحق يهدف إلى تصوير فردية النموذج، ولذا، فهو يبحث خلف الخطوط التي نراها عن الحركة التي لا نراها، ويبحث خلف الحركة نفسها عن شيء هو أكثر سرية وغموضاً.. ونقصد النية الأولى، والأماني الرئيسية للشخص" (6) .

أي الرؤيا الشعورية التي تحايث عالم الجوهر، أو الحقيقة، أو المثال، وبقدر ترسيم الرؤيا في أبعاد شعورية عميقة يزداد تناميها داخل المنتج الفني، ويزداد تناسب الشكل جمالياً لهذه الرؤيا، وبذلك تغدو المقامرة الجمالية الناجحة مقامرة خصبة رؤيوياً، وتكشف جمالياتها عبر التلاحم بين الحركة التي تولدها الرؤيا، والشكل الحيوي الجمالي النابض للمنتج الفني المثير، أو المتوالد جمالياً عبرتمثيلها الفني الدقيق لهذه الرؤيا. وعلى هذا الأساس: "يزداد العمل الفني جمالاً كلما أدخلناه في الحياة الخاصة لهذا العمل الخلقي، إذ إن الجمال ينتمي إلى الشكل، ولكل شكل أصله في حركة ترسمه، وما الشكل إلا حركة قيم يتم تسجيلها" (7) .

وهذه الحركة هي التي تمنح الرؤيا توالدها الجمالي؛ وحراكها الدافق وبقدر ما تزداد هذه الحركة تموجاً، وتنوعاً في المنتج الفني، بقدر ما يزداد العمل الفني جمالاً وجاذبية إيحائية. ولهذا، لا غنى عن جمالية الرؤيا، ورشاقتها، وتنوعها في خلق المقامرة الجمالية الفاعلة، في رفع سوية المنتج الفني جاذبية إيحائية، وتفعيلاً جمالياً.

فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني:

لاشك في أن الرؤيا الشعرية الخلاقة المنتجة هي أساس كل فن جمالي منتج إبداعياً، على الإطلاق؛ وهذا المنتج الجمالي لا يستقي جمالياته إلا من الشكل الجمالي الجذاب والرؤيا العميقة؛ ولا نبالغ في قولنا: إن ما يميز شعرية القصيدة عند الشاعرة بشرى البستاني الرؤيا الجمالية المقتنصة من الفكر الجمالي المبدع الذي تملكه الشاعرة في تخلق الرؤيا المؤثرة بفواعلها الرؤيوية وطاقتها اللغوية الخلاقة، فالقصيدة لديها تقتنص جماليتها من شعرية الصورة، وبداعة التشكيلات اللغوية المبتكرة في إصابة منتوج الرؤيا الشعرية في الصميم.

ولهذا، تبدو القصيدة لديها ذات جمالية خالصة في عمقها وتصوفها ومداليلها المستعصية، على شاكلة قولها:

"وأنا أنتظرُ قمراً يليقُ بفصولي

يليقُ بشُرف البيدِ التي تسكنُ دمي

يليقُ بخمر أزمنتي،

ونِداء نَداي

لكن ذراعيكَ ظلَّتا عاجزتين عن مطاولة

عنان السماءْ،

وظلت عنقُ العناقِ معلقةً في البرزخْ ..

والسواعد ُمشدودةً نحو الوصلِ،

والوصلُ مؤجلْ " (8) .

بادئ ذي البدء، نقول: إن شعرية الرؤيا- في قصائد بشرى البستاني- تتأسس على العبارة الحساسة، والدلالة البعيدة، والمعنى العميق الذي ينطوي على دلالات وإيحاءات واسعة ومتعددة في آن معاً؛وهذا يعني أن اللذة الجمالية في قصائده لذة رؤيا وتشكيل، وإثارة معانٍ ودلالات جديدة، لاسيما في السياقات الصوفية التي تتطلب كثافة الرموز الدالة، وإبراز فواعلها النشطة، وهنا، تبدت الرؤية الجمالية في حركة الرموز والصور الصوفية التي تستقي ألقها من التوق والوله الصوفي، وتلمس الوصال، كما في قولها: [والسواعد مشدودة نحو الوصل، والوصل مؤجل]؛ واللافت حراك الرؤيا الشعرية من خلال كثافة الرموز والصور الصوفية كما في قولها: [عنق العناق=خمر أزمنتي=نداء نداي=عنان السماء= الوصل المؤجل]؛وهكذا، تستمر القصيدة على هذا المنوال من البث والوله الصوفي، على شاكلة المقتطف الشعري التالي:

"ففي أي اللحظات ستقوم قيامةُ الأشياءْ

كي يتكشَّفَ لك نغمُ السماءِ في جلال ملكها،

وتغمركَ أنهارُ نارِها،

وخمرِها،

وجمرِها،

وعسلِها وشجاها

ومتى يهدي اللهُ قلوبنا لنورهْ

كي تُفتحَ الأبوابُ المغلقةُ ..

وتُفكَّ الأسوارُ والأغلالْ ..

لنسقطَ في حضرة الشهودِ

ساجدين ؟!" (9) .

لابد من التنويه- بداية- إلى أن الرؤيا الشعرية الخلاقة هي التي تتمركز على الموقف الرؤيوي العميق، لاسيما في السياقات الصوفية التي تتراكم فيها الرموز والدلالات لدرجة يبدو النسق الشعري لديها مشيراُ بذاته عن دلالاته الصوفية، فرموزها تستدعي الحالة الصوفية باحتدامها واصطهاجها واستغراقها ووضوح مقصودها بالمعنى الدقيق للكلمة: [ وتغمركَ أنهارُ نارِها، وخمرِها، وجمرِها، وعسلِها وشجاها]؛ ولعل ما يلفت النظر أن الرؤيا الجمالية تبدو ماثلة في حنكتها في الوقوف على المعنى البعيد، بالمعنى القريب، وهذا الأسلوب دليل وعي بمنعرجات الصوفية، وأساليبهم، فالرموز الصوفية- لديها- في السياقات النصية- رغم اعتمادها الإطار المحسوس، إلا أنها تمعن هنا في التجريد، وهذا التجريد الذي تلجأ إليه الشاعرة مقصود بعناية، وحرص، وانتباه، ووعي جمالي فائق الدقة، والحياكة الجمالية، على شاكلة قوله: [ومتى يهدي اللهُ قلوبنا لنورهْ /كي تُفتحَ الأبوابُ المغلقةُ ..وتُفكَّ الأسوارُ والأغلالْ ..لنسقطَ في حضرة الشهود/ساجدين ؟]؛إن من يطلع على الصور والرموز يلحظ وضوحها التام ومقصودها المباشر؛ وهذه هي الطريقة المثلى في التعبير عن فاعلية الرؤية الشعرية في اقترابها من دلالاتها وابتعادها عنها بين التعبير المباشر الدال بوضوح عن حيزها الرؤيوي، وتعبيرها الغير مباشر من خلال إغراقها في الرمزية التي تعبر عن توق الذات واحتراقها، واصطهاجها الوجودي. وهكذا فإن من فواعل الرؤيا الصوفية ما أكدته الشاعرة بقولها: " اللحظة الصوفية إذ تلتحم بالشعرية تزيدها ألقاً، وإرباكاً، وانفتاحا على المطلق، ولذلك، تتسع للمتناقضات كلها، لا منطق في هذه اللحظة ولا تعاقب بل دوران لاهب في كل اتجاه، ولحظات منفصلة عن بعضها، نافرة من تسلسل الرتابة، وسؤال يفضي إلى سؤال إلى سؤال" (10) …

وهكذا، تحاول الشاعرة بشرى البستاني أن تحرك النسق الجمالي عبر فاعلية الرؤيا ومحفزاتها الصوفية، من رموز وصور، ودلالات مفتوحة، تتضافر فيما بينها في إنتاج الدلالة العميقة، ومخزونها الرؤيوي الخلاق، على شاكلة قولها:

"في صمتيَ الوثنيّ أكتشفُ أنك آتٍ،

فأفتح ُ جِناني،

وأُدخلكَ قاعة َ العرشْ،

فتبكي الغزالاتُ،

وتنسابُ بالنشوةِ الغصونْ.." (11) .

إن قارئ هذا المقتطف لا يخفى عليه التحليق الجمالي الآسر للرؤيا الجمالية التي تصل من خلالها الشاعرة قمة في الإدهاش والإثارة الجمالية، لاسيما في اختيار الصورة اللاهبة بدلالاتها عن الحالة الصوفية، والتعبير بالصورة عن شعرية الإحساس الجمالي المتناهي بها، وكأن الشاعرة تغتسل برحيق الأنوثة، والتجلي الصوفي، لتفيض بجنائن وجدها على المخلوقات، لتنصهر الشاعرة بالحالة، وتتخلق الرؤيا من رحم المعاناة، والإحساس الداخلي بالخراب والدمار، لتنتج النص المضاد، أو الرؤيا المضادة، لهذا الخراب بالرؤية الصاخبة بالحياة ضد سكونية الموت والمصادرة والاستلاب، لتعيش النشوة والنجوى الصوفية معاً، كما في قولها في هذا المقتطف المثير أيضاً:

"في صوتك المربكِ بالحيرة كأصابع الزمنْ

أفتحُ طرقَ الوقار ِ،

وأشُقُّ مسالكَ العتمة ْ،

لتنهمرَ ينابيعي تغسلُ صدأ المعاركِ الخاسرة ِ

في أعمق شِعاب الروحْ " (12) . .

إن بلاغة الرؤيا الصوفية عند الشاعرة تتبدى في بكارة الاستعارات وخصوبة الصور اللاهبة بدلالاتها عن وقع الحالة الصوفية واتقادها بالوله والتوق والوجد الروحي المفعم صبابة وتوقاً لاهباً للحياة ضد عجلات الموت المدمرة ومدنية الفولاذ المهلكة، لهذا، تنتقل دائما في فضاء رؤيتها الصوفية الجمالية إلى المعنى المضاد، أو الرؤيا المضادة، كما في الأنساق التالية: [طرق الوقار=مسالك العتمة=شعاب الروح]؛ وكأن شيئاً ما من صدأ المادة علق بالروح فدنس براءتها وطهرها ولهذا ما عادت شعاب محلقة كما كانت في فضاء الوصال والملكوت.

ولهذا جاءت إشارتها إلى هذه القصائد الصوفية بليغة في تعريف القارئ بمنتوجها الرؤيوي المؤثر، إذ تقول: "ومع توتر الأزمة واشتباكها كانت الشعرية تزداد التحاما بالشطحة الصوفية؛ وهما ينزاحان عما صار في الألفة، إلى دهشة تفاجئ وتتوهج وتغري وتغوي، إنها الشعرية التي تدهمها في النص شطحة التصوف لترقى بها عابرة ً الحدود متجليةً بتوق الروح نحو الانفراج ولا خلاص، فوصول الشاعر/ الصوفي هو اللا وصول دوماً، لان الوصول إنما يحيل على موت السؤال وسكون النار وانطفاء البحث المكابد" (13) .

وهذه الحقيقة حقيقة البحث اللاهبة صوب المجهول هي ما تغلف الرؤيا الصوفية عند المتصوفة، وقد ارتقت الشاعرة حيزاً جمالياً في التعبير عن الحركة المعكوسة في رؤيتها الصوفية المضادة أو المعكوسة، بالانتقال من الذات إلى الذات، ومن الذات إلى الآخر، ومن الآخر إلى الذات، بتفاعل موحي يؤكد شعرية الرؤيا الصوفية، وتنوع مؤثراتها، وموحياتها اللاهبة، كما في قولها:

" وتبقى السماءُ تنشرُ أجنحتها الوردية َ باتجاه خطايْ ..

أنا المذبوحة ُ من خلايا الشعر ِ

حتى أخمص القدمين ِ وأقولُ ..

لا ….

المشنوقة ُ وسط َ غبار ِ الزمنْ

تجدّدُني الحرائقُ كلَّ يوم ْ ..

ووسط َحرائق ِ الفناء تلكْ

أكتبُ على أحداق النخيل ِ: أحبكْ " (14) .

إن شعرية الرؤيا الصوفية تتجسد في هذا الحراك الجمالي الذي تشكله الشاعرة من خلال الصور اللاهبة بدلالاتها الوجدية، لتصل قمة البث الروحي العاطفي المتقد لوعة وتوقاً وصبابة، وكأن حالة من الاحتراق والتوق والاشتعال تطال الروح، لتصل قمة في البث والتعبير عن توق الحالة واصطهاجها وقلقها العميق: [ أنا المذبوحة في خلايا الشعر/أكتب على أحداق النخيل: احبك]؛ وهكذا، تشتغل الشاعرة على شعرية الحالة الصوفية باتقادها وفواعلها ورموزها الوجدية الدالة على قمة الاستغراق بالحالة الصوفية، وهيجانها، واتقادها الجمالي؛وهكذا تتفاعل رؤاها الوجودية من خلال تناغم مواقفها الرؤيوية وأحاسيسها الصوفية بفواعل نشطة إحساساً واتقاداً جمالياً، كما في قولها:

"أما أنا،

فلا أُدخلكَ جنتَهم..

لا أدخلُكَ في الأشباه والنظائرْ،

بل أُدخلك َ في الأضداد ْ

لا أدخلك في الائتلافِ،

بل أدخلك َ في الاختلافْ،

في اختلافي أنا ....

في توحُّدي،

وانصياعي،

وجبروتِ وجدي،

وسطوة ِ الأشياء إذ تصهلُ داخلي" (15) .

لابد من الإشارة إلى أن من فواعل الرؤيا الصوفية عند الشاعرة بشرى البستاني المعنى المضاد، أو المعنى المخالف، وهذا يعني أن الرؤيا الصوفية لديها جدلية، تعتمد الاختلاف لا الائتلاف، والمواربة لا المواءمة، لخلق الدينامية على صعيد الحركة والرؤيا، فمن الانطفاء تبدأ الحياة دورتها، ومن المضاد أو السلب يتحقق الإيجاب، وتخلق الحياة دورتها التكاملية، وتتحقق المعاني والرؤى، وتكتمل الأشياء في حراكها الجدلي الوجودي؛ وها هنا، أدخلتنا الشاعرة باب الرؤيا من الصميم؛ من الاصطراع الداخلي والاحتدام الشعوري الذي تعانيه الذات الشاعرة، في معمعتها الوجودية، وإحساسها المأزوم، إنها الحركة الجمالية التي تتنامى شيئاً فشيئاً على صعيد الرؤيا ـلتخلق متغيرها الجمالي، طابعها الوجودي الاصطراعي الدقيق، وهذا ما نوهت إليه بقولها: " هو حب يحرّض الكون على الاشتعال ويحرض الإنسان على الإقبال ويحرض الأنهار والمحيطات والغابات والصحارى على التمرد مطالبة بالتواشج والانسجام من اجل الإمساك بمفاتيح الحرية وهي تدق ّأبوابَ السجون ودهاليز الجوع والتعذيب وسراديب الوحشة وليالي التغرب وحمى المواجيد، كي تطلق الثوار والعشاق والمنكسرين بالألم، ولكي تكسر يد الطغاة وهي تطلق الصواريخ على حلم الإنسان … كل ذلك بالحب وبالحب وحده، الحب الذي يتعالى على الانفصال ويدحض القطيعة والخطيئة، لذلك امتزجت إشاراته امتزاج توحد: من الأديان والتاريخ والأدب والطبيعة والفلسفة والتصوف، ومن عذاب الإنسان الذي يحلم بتأثيث الفراغ بالجمال" (16) .

وهذا يعني أن الرؤيا الصوفية في قصائد بشرى البستاني مركبة تتضمن السلب لتأسيس الإيجاب، والإيجاب لمحاربة السلب، وهذا لإبراز أوج الديالكتيك الوجودي والاحتدام الشعوري، مما ينمي من شعرية الرؤيا، ويخلق متغيرها الجمالي، كما في قولها:

"وأقولُ ..

أدخلني في نوركَ كي أُمسك َ بجذور الرياحْ

واصنعْ لي لغةً تتَّسع ُ لأمجاد حزني كي أبصرَ براهينكْ ….

وادخلْ زمني ...

كي تظل َّ مُشتعلاً فيهْ " (17) .

هنا، تدخلنا الشاعرة فضاءها الصوفي المفتوح؛ لتعبر عن حالة من التوهج لتحثث نور التجلي، وتدخل في زمن الاستغراق والاشتعال الروحي لتصل إلى برد اليقين، وتدخل زمنها المطلق، كي تبقى مضيئة متقدة وجداً وولهاً وهياماً روحياً مفتوحاً على المطلق.وهكذا تشتغل رؤيتها الصوفية كما قلنا سابقاً على التركيب، (الدلالات المركبة/ والمعاني المضاعفة) ، لهذا تعتمد الجدل/ والديالكتيك، لإبراز الازدواج والتراكب، لاسيما في تكثيف المداليل والرؤى الصوفية المزدوجة بين الثنائيات، على شاكلة قولها:

"أسألكَ ..

لماذا أتّسعُ وتضيقُ مفرداتُكْ

وأتحررُ،

وتنكسرُ غصونُكْ ..

وأشتعلُ،

وينطفئُ البنفسج ْ ...!

وقلبي تفاحةٌ تقطّعُها سكينٌ

على مائدة شُرب ." (18) .

هنا، تنفتح الدلالات، بالاعتماد على الديالكتيك والجدل الاصطراعي بين ضيق عالمها، والمطلق المفتوح، بين السلب والإيجاب، والقيدية والتحرر والانطلاق في فضاء التجلي والملكوت، لهذا جاءت الصور دالة على الاصطراع والاحتدام بين السلب / والإيجاب كحالة من تركيب الرؤيا الصوفية عن الشاعرة، لتأسيس ما أسميناه المعنى المركب والدلالة المزدوجة أو المعنى المضاعف والرؤيا المركبة؛على شاكلة الصور الجدلية التي تحمل المعنى المضاد، أو الدلالة النقيضة: [وأتحررُ، وتنكسرُ غصونُكْ ..وأشتعلُ، وينطفئُ البنفسج]، وقد تبرز الدلالة المركبة عبر الاصطراع والجدل الوجودي ضمن الرؤية ذاتها والنسق التصويري المتضاد، أو الصورة الجدلية المتضادة: [ وقلبي تفاحةٌ تقطّعُها سكينٌ ]؛ وهذا يدلنا على أن التركيب عنصر بارز في تخليق الشعرية الصوفية في قصائدها، كحالة من المزج بين ما هو محسوس، وماهو روحي أو مجرد، في إطار من التراسل بين الأحاسيس أوالحواس، والمزج بين المرئي والمتخيل، والمحسوس والمجرد، لإبراز المزج والتركيب في الرؤى لإنتاج الرؤية المضاعفة والمعنى النقيض، كما في قولها أيضاً:

"وقلبكَ جاهلٌ ورعْ ….

لا يخافُ الموتَ،

بل يخافُ الحقيقة ْ،

لا يخافُ الخسائرَ،

بل يخافُ التجليات ْ،

وقلبكَ مخرِّبٌ أخرسْ ..

يمارسُ المحوَ،

وأمارسُ الكتابة ْ ..

ويمارسُ الهزيمة َ،

وأمارسُ النصرْ،

ويمارسُ الصمت ْ،

وأُمارسُ الصوتْ ..

ويسقط ُ في النهاية مُربَكاً فوق َ صدري" (19) .

هنا، إن الرؤية الجدلية والمعنى المتضاد هو ما يغلف رؤيتها الصوفية، ويزيد من فواعل إثارة الصور المتضادة، وتنوع دلالاتها، وموحياتها ضمن النسق الشعري، وهذا يعني أن ممارسة الكتابة الصوفية هي لإحلال الإيجاب مقابل الدنس والصلادة الوجودية، بين عالم يؤذن بالخراب والدمار، وعالم تبحث عنه ومن خلاله إلى الإعمار والخلود والراحة والاستقرار، بمعنى أن رؤيتها الصوفية تزاوج بين الجوانب المتضادة لإحلال ما أسميناه الإيجاب، أو تخليق الإيجاب لمحاربة السلب بكل وجوهه وأشكاله المدمرة؛ ولهذا فهي تمارس الكتابة، لتمحو السلب، وتمارس الصوت لتعلن الإصرار، والتحدي، والانتصار[ويمارسُ الهزيمة َ، وأمارسُ النصرْ، ويمارسُ الصمت ْ، وأُمارسُ الصوتْ ..]؛وهكذا تؤسس رؤيتها الصوفية على الديالكتيك، والجدل، والمزج، والتركيب، لإبراز منتوج الرؤيا الصوفية بجوانبها المتناقضة، ومعانيها ورؤاها العميقة، مما يدل على أن الشعرية في قصائدها تنبع من كثافة الرؤى، وخصوبة المداليل الشعرية التي تأتي قمة في الاستغراق والتكثيف والإيحاء الفني.

وما ينبغي الإشارة إليه أن أولى فواعل الرؤيا الجمالية في قصائد بشرى البستاني على مستوى الأنساق اللغوية، ودهشة المسندات التشكيلية هي مايلي:

 

.........................

هوامش

(1) برتليمي، جان، 1970-بحث في علم الجمال، ص471.         

 (2) المرجع نفسه، ص473.

 (3) المرجع نفسه، ص473-474.

 (4) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية (حداثة السؤال أم سؤال الحداثة) ؟!، ص 437.

 (5) برتليمي، جان، 1970- بحث في علم الجمال، ص 528.

 (6) المرجع نفسه، ص531.

 (7) المرجع نفسه، ص531.

 (8) البستاني، بشرى، كتاب الوجد، ص15.

 (9) المصدر نفسه، ص33.

 (10) المصدر نفسه، ص73.

 (11) المصدر نفسه، ص26.

 (12) المصدر نفسه، ص17.

 (13) المصدر نفسه، ص23.

 (14) المصدر نفسه، ص12.

 (15) المصدر نفسه، ص34.

 (16) المصدر نفسه، ص36.

 (17) المصدر نفسه، ص44.

 (18) المصدر نفسه، ص47.

 (19) المصدر نفسه، ص57.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم