صحيفة المثقف

هل إسقاط الحصانة عن المُقَدَّسِ شرطٌ أساسيٌّ لتحرير العقل الإنساني والعناية بـالفكر التنويري؟

eljya aysh(التنوير بين الدواعي الفكرية ومتطلبات المجتمع)

هل التنوير مشروع فكري نهضوي؟ وهل يرتبط جدليا  بالنتائج البعدية ضمن علاقة الجدلي القائم بين القبل والبعدي، ثم ماذا عن البعد التطبيقي للتنوير؟ ..، يقول باحثون أنه يعني التعامل مع البراديغم التنويري، فالحداثات التطبيقية تسعى إلى النظر في مشاريع التنوير الحقيقية وفي معطلاتها وأسباب نجاحها،  للمسألة رهانات سياسية وإيديولوجية حضارية بالأساس وليست بيداغوجية، وقد زاد الحراك العربي السياسي في تأزم الوضع بين الموالين للفكرة والرافضين لها، فمعزل عن العقائد والإيديولوجيات التي سادت ودالت، فكل ما فرض ويفرض على الناس من سياسات سواء عن طريق القوة والقمع، كان مصيره الفشل

إن إنجازات العلم والتكنولوجية في عصرنا هذا تعلمنا أننا كلما زدنا علما، زدنا إدراكا لما لا نعلمه، وكلما اعتقدنا أننا زدنا سيطرة، تكشفت لنا ثغرات وصور انفلات لم تكن في الحسبان، فالتنوير بين الدواعي الفكرية ومتطلبات المجتمع في زمن الثورات إشكالية  يتجدد طرحها بين المختصين والباحثين لإيجاد صيغة لإخراج الشعوب من ظلمتها وتحريرها من قيود التبعية لنظام مستبد، فمصطلح التنوير من المصطلحات التي تثير اهتمام الباحثين ورجال الدين لما يحمله من ثقل معرفي غربي وشرقي، كما أنه حركة تحرُر وتحرير من عبودية الوصاية، والتغيير يجب أن يكون من داخل مؤسسات الدولة، فلا يكون التنوير مجرد خطابا، بل يجب تحويله إلى ممارسات عملية في الواقع، هناك من رحب بفكرة التنوير حيث دعوا إلى المزاوجة بين رصيد العقل واستعمال المعرفة المتحررة للتغيير، ودعوا إلى ضرورة حماية اللغة العربية من الزوال لأنها جوهر التنوير، واعتبر آخرون أن طرح موضوع التنوير جاء متأخرا ودعوا كذلك إلى إرساء التنوير الإستراتيجي الذي يركز على آليات عقلية تنتج المعرفة أكثر من استهلاكها، في حين  استنكر المخالفون مسألة التنوير واعتبروه مفهوما مسقطا لا يتماشى مع الحضارة الإسلامية والثقافة العربية، حيث أشاروا إلى الخوف من الوقوع في مطب التحريف بموجب التنوير والتخلى عن الأصالة العربية الإسلامية من أجل إرضاء الغرب، فيما ذهب فريق ثالث إلى  أن التنوير والتربية عاهات تتطلب مختصين، ولذلك فالنخبة يجب أن تلعب دورا فعالا وأن لا تنعزل عن الواقع،مراوحة بين التنوير العقلي والروحي ومحافظة على جانب التأصيل، فيما يرى البعض أن مسألة التنوير ليست نخبوية، بل هي مسألة تهم كل مكونات المجتمع، في مرحلة تضخم فيها العمل السياسي على حساب الجانب الثقافي والتنويري،  ينظر البعض الآخر أيضا وهم المشتددون إلى قضية التنوير نظرة  استهجان لاعتباره مرادفا للعلمانية، والحال غير ذلك إذ يقوم التنوير على استعمال العقل ورفض الوصاية والقصور الذهني.

وانطلاقا من مقولة ديكارت: "أنا أفكر أنا موجود" فلا معنى إذن للوجود بدون تفكير ذاتي، فتونس كأنموذج فهي تعد منطلق التنوير ومنشأ التنويريين بدءا من العلامة الطاهر بن عاشور والفاضل بن عاشور، وفي هذا يرى عبد الفتاح مورو (في تقرير أعدّه مركز دراسة الإسلام والديمقراطية بتونس، وصلنا عبر البريد الإلكتروني)  أن التنوير  قضية قديمة منذ قدوم نابليون إلى مصر، حيث التف كل من محمد علي باشا والمشير أحمد باشا حول هذه المسألة لإيقانهم بحتمية هذا التوجه الفكري، وقد تم فتح مدرسة عسكرية درس فيها اللغات والفيزياء والكيمياء، أما بالنسبة إلى تونس، فقد أنشأت مدرسة عسكرية على يد الشيخ بن ملوكة والشيخ قابادو، إلا أنها بقيت تسير بنسق بطيء في هذا التوجه نتيجة اصطدامهم بأعداء الإصلاح، وفي اعتقاد عبد الفتاح مورو، فإنه من الضروري العناية بالفكر التنويري والابتعاد عن الجهلة الذين جمعوا الإسلام بالتقليد والقصور العقلي، لنكون في مقدمة التغيير، وفي ما يتعلق بالقرآن الكريم، أشار إلى أنه كتاب وضع لإثارة العقل وإيجاد الحلول وليس كتاب وصاية، فقد بنى الإسلام الحياة على أن الإنسان مكرم ومستخلف في الأرض وهي منطلق البناء الفكري، وذكر عبد الفتاح مورو أنه من أسباب فشل المجتمعات العربية إما حمل فكر تنويري خارج إطار ثقافة الأمة، أم أنه حمل لفكر تنويري من داخل المنظومة ولكنه غير قادر على تبليغ صوته وبالتالي اختيار الانعزال والبقاء على حافة الطريق.

يقول إنه من الضروري إذن غربلة التراث والتغيير على مستوى التطبيق وصنع عقل ناقد وقادر على الربط عن طريق السببية وواقع الناس، لأن المدرسة الفكرية الإسلامية تعطلت منذ القرن الخامس هجري لأن المسلمين يعتبرون المعرفة تكديس المعلومات في غياب عقل يعيها ويدركها، فعملية التغيير تتطلب إيمانا وعملا من أجل تشر الخطاب التنويري في كل المنابر، والتخلي عن تعطيل العقل والابتعاد عن السذاجة التقليدية، والنظر إلى السياق الدولي الذي تعيشه الدول العربية حيث هيمنة منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهو ما يتطلب تغييرا واقعيا تنويريا في العالم العربي، لكي لا يبقى الشاب المسلم نفسه ضائعا في وسط هذه العولمة، حفاظا منه على ثقافته أو مجبرا على أن يكون إرهابيا في بؤر التوتر، ولطالما أثارت تصريحات الشيخ عبد الفتاح مورو، الوجه الإسلامي المعتدل، الجدل في الساحة السياسية التونسية، وكان محل هجوم من العلمانيين والحداثيين، كما كان محاصرا  من قبل السلطات التونسية التي أجبرته على البقاء في عزلة داخل بلاده بسبب منعه من الحصول على جواز سفره وتعرضه لسنوات طويلة إلى التنكيل والسجن والمحاصرة قبل ثورة 14 يناير 2011، وإلى الإقصاء بعدها، وكانت دعوة الشيخ عبد الفتاح مورو  المهتمين بالفكر التنويري هي غربلة التراث والتغيير على مستوى التطبيق وصنع عقل ناقد وقادر على الربط عن طريق السببية وواقع الناس.

إن شأن عبد الفتاح مورو هو شأن ذلك القاضي الذي حاكم  أونطونيو غرامشي، وقال له : يجب أن يكفّ هذا الدماغ عن التفكير،  فإن القاضي لا يعدم فكرا، إنما يدعو إلى تعايش مستحيل، لأنه يواجه الفكر بالسجن، ويوزع البشر إلى قامع ومقموع، وهي إشارات إلى حقيقة مأساوية أقرب إلى العبث، فالعقول الإنسانية كما يقول التنويريون  لا تنقسم إلى عاقلة ولا عاقلة، إنما يتكون الفرد الإنساني بصيغة المفرد، من عناصر عقلانية وأخرى لا عقلانية، مع فرق وحيد هو أن العقلاني في بعض العقول، أكثر ارتقاءً منه في عقول أخرى، يلازم العقلاني كما اللا عقلاني العقول كلها، تصدر عن هذه الفكرة نتيجتان: الأولى تبشر بالحرب وتعلنها، والثانية ترى الحوار بديلا بل ضرورة لإزالة العماء الفكري، وهذه الأخيرة تحتاج إلى عقل حر طليق بلغة طه حسين، كما أن الفلسفة عند غرامشي ليست مجرد تصور للعالم، بل هي أيضا عمل من أجل تغيير هذا العالم، وعبد الفتاح مورو يشبه إلى حد ما غرامشي  باعتباره مفكرا ومحللا وممارسا للحياة السياسية والثقافية من حيث أن الإثنان عاشا حياة اتسمت بالحصار والاعتقال ومرارة السجن،  وقد أعطتهم هذه الحياة  فرصة لتحليل الواقع ومراجعة المواقف، وكل واحد كرس حياته لقضايا عصره، وهذه الظروف دفعت كل واحد منهما إلى هذا المنهج التاريخي في قراءة الأحداث وبحث مقدماتها، والسؤال الذي يلح على الطرح هو كالتالي: هل التنوير مشروع فكري نهضوي؟ وهل يرتبط جدليا بالنتائج البعدية ضمن علاقة الجدلي القائم بين القبل والبعدي، ثم ماذا عن البعد التطبيقي للتنوير؟ ..، يقول باحثون أنه يعني التعامل مع "البراديغم التنويري"، الذي يعني عند بعض المفكرين "الطريقة التي نرى بها العالم"، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضياع الفكر البشري الذي اتسم بالتحجر، وترجع لفظة براديغم إلى الأصل اليوناني paradeigma أي مثال ونموذج، فيكون البراديغم لغة هو النموذج القياسي أو المثال الكامل الذي ينبغي اتباعه.

هذه المواقف التنويرية لا تتوقف عند مورو في تونس، بل هناك مفكرون تنويريون في كل الأقطار العربية ومنها الجزائر، بدءًا من مالك بن نبي ومحمد أركون،  وصولًا إلى مالك شبل  في الجزائر، ونقرأ لمهدي عامل في لبنان، ولنا في ابن رشد وابن العربي اللذان قادا المدرسة التنويرية،  وكلهم طرحوا إشكاليات تتعلق بالإنسان بين العقل والعاطفة في مجال الفكر الديني، وإعطائه الصبغة العلمية، فظهر اتجاهات كلامية من طبقات المسلمين بين شيعة وسنة ومعتزلة وبعض الفرق الإسلامية، واتجاهات فلسفية وصوفية، ثم اتجاهات التجديد  والإحياء العقلي، لإيجاد الأسس المنهجية والفكرية لنهضة العالم الإسلامي ومقارنتها بحركة الأنوار الغربية، فمسألة العقل شغلت الفكر الإسلامي على وجه الخصوص، ويمكن أن نضرب مثالا بالمفكر والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، حسب الباحثين يعتبر الوحيد في الجزائر الذي كان له مجهود متواصل في بلورة رؤية شاملة للحضارة الإنسانية وللفكر الديني الذي يعتبر موضوعا مقدسا بحكم ما يحدثه في النفوس من مشاعر الإيمان والعبادة ويرفع الإنسان الى مستوى التعالي الديني كما قال في ذلك الدكتور الهادي السعدي في كتابه "الفكر الديني عند مالك بن نبي"  صدرت طبعته الأولى في 2016 عن الدار العثمانية، ثم تجسيد الظاهرة الدينية على أرض الواقع.

والسؤال هو : ألا يحق أن تدرس أفكار هؤلاء في  المؤسسات التعليمية وفي الجامعات، ومراكز الترجمة، وأن تخرج للقارئ العربي مشروعهم التنويري الأصيل، لكن أن تصبح العدمية هي براديغم هذه المرحلة وتساهم في انتشارها بسرعة، حيث يعجز الإنسان الانتقال من الوعي الشقي إلى الوعي بالذات،  فالحداثات التطبيقية تسعى إلى النظر في مشاريع التنوير الحقيقية وفي معطلاتها وأسباب نجاحها،  للمسألة رهانات سياسية وإيديولوجية حضارية بالأساس وليست بيداغوجية، فالكثير من الذين يتمتعون بحسٍّ عقلاني وبخطاب وسطي إنساني، لكن أفكارهم لا تلقى صدى داخل المجتمع، في مقابل ذلك يوجد من  يعبرون عن أفكارهم بغلو وتطرف وهي أفكار تعجز ولا تشجع،  تهدم ولا تبني، تقتل ولا تحيي، ورغم ذلك فهي تلقى  إقبالا عند الجمهور  رغم طابعها المتشدّد، فينتشر خطاب العنف والتشدد، وقد زاد الحراك العربي السياسي في تأزم الوضع بين الموالين للفكرة والرافضين لها،  ويعد جمال الدين الأفغاني من الذين اهتموا بهذه المسائل في مشروعهم الإصلاحي وربطه بالمواطنة، ولذا فقضية التنوير هي قضية أساسية تنتظر ترجمتها إلى الواقع عبر دورات تدريبية، والإمعان  للفهم والتجديد في العالم والتاريخ، واحترام خصوصية وروحانية الأمة العربية الإسلامية مع مواصلة التجديد والإصلاح، وليس مثلما ذهبت إليه السلفية المتشددة التي نادت بفصل الدين عن الثقافة.

 

علجية عيش بتصرف

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم