صحيفة المثقف

الصندوق (6-8 /8)

qusay askarالفصل السادس: نجاسة

توقعت أن تسير الأمور على خير ما يرام بخاصة خالتي أم ناصر التي احترق قلبها أكثر من أي شخص آخر من قبل قالت إن الجميع يمكن أن يرحلوا ماعدا الغالي الأكبر.. سيتزوج هشام ويرحل .. أما ناصر فيظل معها..كفاها عذابا أنه فارقها كل تلك السنوات..بعد هشام عنها لايقارن بغربة ناصر.. هذه هي بغداد .. خطوتان بالقطار.. لكن أين منا بريطانيا...

غير أن الأمور انقلبت رأسا على عقب..

 حلمها الواسع انتهى يوم قدمت الشقراء..

فما إن شارك أخي الأكبر أهله في البيت الكبير حتى بدأت المشاكسات كانت النرويجية تثير السخرية والغثيان.." روث" يعني براز البقر بالعربي الفصيح سرجين،أعود اصحح لأختي الكبرى " رووث" آر دبل أو تي أج أمط شفتيّ واقول جادا "Rooth " "فترد علي لا تتفلسف إنه شيء واحد رووث أو روث كل ذلك نجاسة كله خراء البقر ، هشام في آخر زيارة له من بغداد داعب أمه قائلا: يقال الروث ليس نجسا لكنه مع ذلك خراء..فيضحك الجميع بصوت عال كي تصل إلى مسامع زوجة أخي التي باتت في غرفتها كالسجينة.. لاتخرج إلا مع زوجها..

 ولعل " إنعام " الصغرى مدللة أمها كانت اشد النسوة الثلاث قسوة على رووث..سألتني ذات يوم ماذا تعني بالإنكليزية كلمات قذر ونجس ووسخ.. ومن أين لطالب في السنة الثانوية الثانية أن يعرف غير كلمة " DIRTY " تروح تردد هذه الكلمة أكثر من مرة إذ تحس أن رووث خرجت إلى دورة المياه وتضيف ما استعادته من مفردات إنكليزية مني أو لقنها هشام WATER NOT ONLY PAPER كن يعتقدن أن الأوروبيين لا يغسلون مقاعدهم بعد اللتواليت ولا يستحمون كثيرا مثلنا فادعت النسوة الثلاث أن هناك رائحة نتنة تنبعث منها أينما مشت إلى حد أن اختيّ اقتحمتا دورة المياه قبلها وملأن الإبريق بالماء وصرخن بوجهها الماء الماء..

Water water

قالت إنعام: مابقي علينا إلا أن نشطفها مثل الطفل!

وردت إقبال متذمرة: إن شاء الله غدا تطلب منا أن نبني لها تواليت غربي!

 أماالمطبخ فقدحرمت منه رحن يضعن لها الطعام في صحن عند الباب حتى إذا فرغت رفضن أن تغسله.. تزعق إحداهن " DIRTY " وتتعمد أيّ منهنّ أن تبسمل وتصلي على النبي وهي تعلق الصحن بطرفي إصبعيها تحت الحنفية وقتا قد يطول دقائق وتقول "إنعام" ساخرة وعيناها تنطان من محجريهما:

يقولون الأوروبيون يأكلون أقل منّا والله ملأت لها صحن رز وفاصولياء باللحمة شفطته مسحته...

تكور "إقبال" راحة يديها وتهتف:

يعني خريتها بهذا الحجم...

أماهشام الذي كان يتابع من غرفته الحوار فقد اندفع إلى المطبخ ليضيف وهو غارق في الضحك:

فاصولياء اليوم.. نبيل ارتاح أكيد اليوم أمك عاملة كبسة .. أنا غدا أقترح أيضا.. اليوم فاصولياء وغدا إطبخن قيمة حمص.. وبعد غد لوبياء مضرطات اطبخوا لها جميع صنوف المضرطات...

 ولا يخرج الحوار بانضمام هشام عن الطعام والنجاسة وورق التواليت تلك الظاهرة الجديدة التي لم يعرفها البيت الكبير من قبل.

7

صندوق بارد

في إحدى السنوات الجامعية غادر طلاب كليّة الهندسة برحلة ترفيهية. اختاروا بستانا عامرا بشجر النخيل والعنب على شط العرب ..كانوا جميعهم طلابا وطالبات مزهوين بمستقبلهم.. يدخنون من دون تحفظ يصفقون ويغنون. الطالبات خرجن عن خجلهن. العشاق منهم والعاشقات توزعوا بين النخيل.. اتفق من يشربون الخمر منهم على ان يجلبوا قناني عرق مسيح من محل طلية.وابتكر آخرون طريقة طريفة...سكبوا قناني العرق في صندوق مغلف بالفلين ووضعوا ربع قالب ثلج حتى إذا عادوا من ممارسة عشقهم ولهوهم وجدوه باردا زلالا يطفيء ظمأهم ويزيدهم رغبة في تناول الشواء.

 يقول صاحب البستان الذي أجّره لهم:

 في ذات اليوم المشؤوم كان الحمار يرعى شأنه كل يوم بين السواقي والنخيل حتى إذا وقف عند الصندوق تحسسه مثل الكلب بأنفه.. صفن قليلا وحرك لسانه الخشن . مده تحت الغطاء حتى أزاحه.. كان الجميع في لهوهم وغنائهم وعشقهم غافلين والحمار يمد مشفرية في السائل البارد فيكرعه حتّى آخر قطرة..

عشرة قنان من الكحول تبخرت في لحظات...

صندوق فارغ جنبه حمار ينام نومته الأبدية...

الفصل السابع: منكر

ستة أشهر مرت على وجود ناصر في البيت الكبير.. كنت أشاهد وأسمع مايجري، الحديث عن النجاسة لم تخفت حدته..والتهكم على ورق التواليت..أو النكات التي تسمعها روث ولا تفهمها حين تضطر للخروج إما لقضاء حاجتها أو لغسل ملابسهما وإذا بها حالما تنتهي ترى الماء يندلق على مكانها النجس الذي يصبح طاهرا بعد التكبير والبسملة وتكرار كلمة " clean " .

كان ناصر يأتي متعبا فلا يستقر دقائق حتى ينطلقان إلى خارج البيت كأنهما يهربان ثم يعودان في ساعة متاخرة. بعض الأيام زوجته تبقي صحن الطعام ولا تلمسه فتظن النسوة الثلاث أنها أكلت ما تبقى من عشاء جلبته معها الليلة البارحة.

كان عليه أن ينهض في الساعة الخامسة.. يستقل سيارة الشركة الخاصة ويعود في الثالثة عصرا.. بدا التعب على وجهه وعينيه.. اختفت الابتسامة من على شفتيه حتى ظننت أن اخي شاخ وكبر خلال وجوده معنا. لا أدري أين ذهبت وسامته وتأنقه .. غفل عن وقوفه أمام المرآة دقائق وأهمل تسريحة شعره..وظهرت حجة اخرى بيد زوجة ابي وأختي كأنهن نسين يوم دخلت رووث البيت ولم يتذكرنها إلا الآن.في شارعنا بل في الحارة كلها ليست هناك من امراة سافرة.. كل نساء الحارة يرتدين عباءات يا للعار النرويجية تخرج وتدخل البيت بقامتها الفارعة..وقوامها الرشيق. فستانها وإن كان طويلا إلا أنه يشف عن تقاطيع جسدها .. مهما يكن .. المرأة عورة والعياذ بالله..هذه كنة الحاج..الرجل المستور أعطى كلاما لكبير آل الصالحي أن يقبل ناصر في البيت لا أن يعفو عنه..الذنب ليس ذنب النرويجية الكافرة.. إنه ذنب ابننا لِمَ يبدو هكذا ذليلا أمامها ينفذ كل طلباتها.الرجال يأكلونها بأعينهم وما ذنب اخواتنا أنا وهشام.. اخواتنا يرين مشاهد السفور والتبرج أمامهن..يدخل ويخرج كل يوم تحت أبصار الرجال وعيون الشرهين!ولربما نسيت خالتي أن زواج ناصر من سافرة قد يكون تحصيل حاصل كانت تقول حالما يأتي ناصر سأخطب له.. إن لم يرغب بواحدة من آل الصالحي فلتكن من هؤلاء الطالبات..تعيد ذلك على مسامعنا إذ ترى طالبات الجامعة وهن يخطرن من العشار إلى التنومة ولا تفكر فيمن تلبس العباءة أم لا..البركة الآن تهرب من البيت وكل شيء مقبول إلا المنكر الذي ينبيء بدخول الشؤم للبيت. لا أظن أن سلوك أم ناصر وأختي كان يعني طرده من البيت.ناصر هو العزيز الغالي وأول ولد رزقت به عائلة أبي فلا هشام ولا أي منا يسد مكانه، لم يكن يتصرفن بحقد أو ضغينة أقصى ما ذهب إليه ذهني أنها مجرد مشاكسات لحض روث على أن تنطق الشهادة فيذهب عن البيت الدنس ثم ترتدي العباءة فينتهي كل شيء ليخدمها الجميع من صغير وكبير وتفخر خالتي أن ناصر ابنها هدى نصرانية كافرة الى الإسلام فضمن الجنة وهاهي زوجته تلبس العباءة وتزور مراقد الأئمة وقبورالأولياء..

 اغتنمت زوجة أبي زيارة هشام للبيت الكبير خلال العطلة الربيعية فوجهت الكلام إلينا نحن الإثنين وربما خصت هشاما الأكبر سنا مني أكثر مما راحت تعنيني:

- نحن لا أحد يتحدّث عنا أي سوء نحن والشرف سواء والمثل يقول النار ولا العار " ووجهت الكلام إليّ" أمك ايضا بنت حلال وبنت عشائر وإلا لما اقترن بها أبوك ما تقولان ألا تخشيان ..البيت تخرج منه وتدخل إليه امرأة عارية ولديكم اخوات مصونات مثل الذهب..

اندفعت أختي " إنعام " مستنكرة:

- لا أحد يذكرنا بسوء ليست هي فقط بل كل بلدها تحت حذائي!

قلت أقاطع أختي:

- خالتي أنا مادمت الاصغر فهشام الاولى أن يفاتح أبي!

قالت الأم بعد أن زجرت أختي ملتفتة إلينا:

- الآن دعوا الحاج بعيدا الله يحفظه من مرض الضغط. لا نريد أن نتعب اعصابه الأولى أن تتحدثا مع الصنم هذا الصنم أنت هشام تحدث معه!

وقالت " إقبال " والله انا لولا الخوف على أبي وأن يصاب بنوبة شلل لما سمحت لها بالخروج من دون عباءة ماذا يقول الناس عنا بنات الحاج الصالحي يعشن مع سافرة غير محتشمة!

 عندما خرجت من البيت الكبير قلت لامي بعفوية:

- مادامت هناك مشاكل بين خالتي واخواتي حول"رووث" لم لا يأتي ناصر ليعيش معنا؟

امتعضت لسؤال لا اعي أساسا سذاجته، وقالت:

- هل جننت حاذر أن تسأل أباك ذلك كيف يترك شاب بيت أبيه وأمه ليعيش هو وزوجته مع زوجة أبيه هل فكرت بسؤالك.. لا تكن ثرثارا واحمد الله على أنه جعل لنا عقولا نفكر بها.

 لا أعرف بعد هذا اللقاء الذي ينذر بوقوع شيء ما اخطر إن كان هشام كلم ناصر عن العباءة وإن كنت أشك في ذلك،فسكنة البيت الكبير كشفوا عن أمر آخر أثار حنقهم..حلّ دور "إقبال" فوجدت منقصة جديدة تخصّ رووث " انتبهت إلى شيء غريب هو المنكر يدخل البيت والعياذ بالله..

زوجة ناصر تتعاطى الكحول في نادي شركة النفط ولا يستبعد أحد أنها تجلب بعض الخمر إلى البيت وتتخلص من الزجاجة الفارغة اليوم التالي عندما تخرج مع زوجها..!

 دفعني الفضول أن أسأل شقيقي ذات يوم:

- هل حقا تتناول زوجتك الكحول..

لو لم يراودني إحساس أني أقرب أخوته إليه لما سألته إلى درجة أني فكرت أن ناصر لن يتردد وهو المهندس ذو الراتب العالي في شركة نفط العراق أن يبعثني في بعثة خارج البلد حين أنهي مرحلة الثانوية..عبر عن ضيق بان على وجهه بابتسامة مقتضبة وقال:

- لكن لِمَ هذا السؤال الغريب؟

- إنعام تدعي أنها تشم رائحة غريبة!

فضحك ضحكة لا تنم عن شعور بالسخرية:

- البيرة في البلاد الإسكندنافية رمز وطني صناعي ذو معنى مثل التمر عندنا بغض النظر عن كل شيء اقنعت "رووث" ألا تقربها مادمنا نسكن بيت أبي.

- لعلّ حواس آل الصالحي تغيرت فظنوا رائحة العطور والمنظفات رائحة خمور! وقلت بعد ضحكة قصيرة: هل كلمك هشام عن السفور والعباءة قبل أن يسافر.

- لا ابدا " وتوقف ثم عاد إلى قضية الخمر"حتى ولو لم تراع " رووث" ظروف العائلة فإنها لاتشرب الخمر لأنها حامل !

- ماذا؟

- قبل أسبوع علمت منها...

- مبروك... لكن.. لم لا تخبر الجميع لعل الخبر يغير ظروف البيت؟

رد يائسا:

- لا أرى ذلك.. الوضع أصبح لا يطاق وأظن أن أي إزعاج لها سيكون له أثر سيء عليها وعلى الجنين!

كأني أداري على سؤالي عن الخمرة قلت ببعض الخجل:

هل تحدثها بصراحة عما يجري في البيت ولم تتصرف أختانا وخالتي الحاجة معها بصورة مقرفة؟

أنا لا أخفي عنها اي شيء حدثتها عن النجاسة والتواليت والورق ومجتمعنا المحافظ وكانت تسخر أو تبتسم لكني كنت اشعر أن هناك معنى أقرب للخوف في عينيها منه إلى السخرية المريرة والخيبة.

 لا أشك في ناصر ولا أكذبه ولا أهمية لرأيي أو أي إنسان فالخبر الجديد وصل إلى سمع الحاج .. اعتدن أن يخفين عنه مشاكسات النجاسة والعباءة .. هذه المرة تشممن مثل القطط أية راحة سواء كانت عطرا أم رائحة معقم فيظننها خمرا وفي الظن أن روث تغادر البيت مع زوجها فتسكر ولا تكتفي هناك فتعود ومعها قنينة منكر تتناولها في هذا البيت الطاهر فتتخلص منها حين يخرجان حتى إذا وصل الوضع إلى حد لا يطاق وجدنا ناصر وزوجته يخرجان من الغرفة السجن وهما يحملان حقيبتيهما ويغادران البيت الكبير في السيمر إلى بغداد.

8

عودة إلى الصندوق

لكلّ شيء نهاية...

راودته الفكرة منذ غادر العراق..وود لو يرى كيف يكون عليه الحال لو لم يدخل الصندوق ذات يوم قريب، وهو يلتقط أخبار البلد عبر أكثر من لسان: تلفاز، مذياع، ستلايت، كومبيوتر، نت، من خلال ذلك ابصر جيوشا تنتصر وتنتحر، وفوضى، مفخخات، عصابات،ومن بين تلك الأحداث أبصر نهايته هو،ايام معدودة بقيت أمامه،.. هبط من المصعد متجاهلا السيارة في موقفها..خطا نحو الشارع العام،وانحرف في نهاية التقاطع نحو درب فرعي ينتهي إلى منتزه واسع تضفي علىفضائه هيبةً أشجار الكستناء البرية، وأغصان اللبلاب التي ساح بعضها في الأرض وغطى سيقان زاحفة منها جذوع الكستناء الضخمة.عَبَر المتنزه نحو المقبرة الكبيرة..تطلع في القبور وأمعن في فراغات تنتشر بينها غير عابيء بالاسماء والشواهد..كادت المقبرة في مثل هذا الوقت تخلو من العابرين..سأل نفسه أي مكان يرقد فيه بعد بضعة أيام من جهة الشرق تلوح طاحونة هواء، وعن الجنوب أجمة توت بري،والشارع العام يحاذي جهة الغرب حيث يمتد البصر إلى عمارة عالية يسكن أحدى شققها..الأماكن كثيرة والفراغات بين القبور تجعل المقبرة أشبه بفكٍّ فقد بعض أسنانه..لا يعلم أي يوم يموت غير أن تقديرات الطبيب لا تزيد عن بضعة أيام...

عشرون يوما..

شهر..

الطبيب ينتبأ بموته القريب. والآلام التي يعانيها تؤكد..ليكن متفائلا: شهر يكفي..وقف يتأمل لحظات ..عند حافة الممر جلس على مسطبة خشبية .خشي أن تستهلكه دقائق الصمت فالتمس الهاتف النقال..ورفعه إلى أذنه كأنه يعلن نهاية العالم:

ألو نبيل: سآتي لأدفن عندكم

الفصل الثامن: لمّا أزل أنتظر

 غادرت البيت بسيارتي متجها إلى العشار حين رن جرس الهاتف فجاءني صوت آخر.. ليس صوت أخي ..كانت "رووث " التي تهدج صوتها وهي تخبرني بوفاة أخي... ثم حدثني ابن أخي " شاكر " بلغة غربية ذات لكنة كما عهدتها منه:

- عمي بابا مات وفي وصيته أنه يرغب أن يدفن في مقبرة النجف..

مفاجأة وليست بالمفاجأة لي..أعرف أن ناصر مريض بالسرطان..فقط حسبت أن زمنا طويلا طارد أخي بقسوة سوف تخفت حدته حتى أخبره أن كلّ شيء عاد هادئا ..يا ناصر والدي توفي... والدتك إلى رحمة الله هشام كما أخبرتك في العشار.. أخواتك بعيدات عن البيت الكبير.. أنت تعرف كلّ الذين رفضوك تشتتوا والزمن نفسه تغير .. حدثت حروب وجوع وحصار وتفجيرات .. كلها تعرفها قرات عنها.. ورأيتها... فلم لا تزورنا الآن ..تعال اسكن معي في البيت.. ...

- ماذا تقول؟

- ابي أوصى أن تستقبل جثمانه في مطار النجف!

- هل تريد أن أبعث لك التكاليف!

- كلا كلا..لديه مبلغ يكفيه!

كنت أوقف السيارة لحظات عند الرصيف وأروح أنشج..من حقي أن أبكي فقد كان ناصر رقيقا معي.. بدا قاسيا حين تجاهل الجميع..ينفر من الأقربين إليه.. أمه وأختيه.. وهشام.. أبيه.. يظنهم قتلوا زوجته وأولاده.. لم يكلف نفسه فيأتي إلى البصرة يودع البيت الكبير .. سافر سفرته الأخيرة من دون أن يتحدث بالهاتف مع أي منهم أما أنا فقد حشرني في الوقت الضيق كانت الطائرة تقلع من مطار البصرة الرابعة بعد الظهر وطائرة بغداد في الثانية عشرة..كان يريد أن يهرب ممن يحبهم ويكرههم على حدّ سواء..

 غيّرت وجهتي،واتجهت إلى مكتب أخي هشام في شارع " الكويت " خشيت أن يكون الوقت مبكرا فلا أجده وخمنت أنّه في مرافعة بمحكمة البصرة..ومن حسن حظي أنأدركته وهو يدس أوراقه في حقيبة، فاقتحمت غرفته غير آبه بوجود الآذن وابتسامته:

- هشام ناصر مات!

 تراجع أمام الخبر وتهالك على الكرسي ثم احاط جبهته بكفه اليسرى:

- رحمه الله

أدركه الصمت ولم يبكِ غير ما رايت على ملامحه من شرود:

- متى علمت؟

- الآن في الطريق إليك اخبرني ابنه وزوجته!

توقفت عن الحديث حيث سحرني مثله الصمت لحظات وقلت:

- سينقل جثمانه إلى مطار النجف بعد أيام وساعلم من السويد اي يوم لاذهب أستقبله هناك!

 قلت عبارتي وخرجت وقبل أن أخطو خارج باب المكتب استوقني صوته بنغمة فيها بقية من أسى:

- أخبرني اي يوم لأؤجل كل القضايا إلى يوم آخر وآتي معك!

9

صندوق الاستنساخ

أضجرته أشكال الموت تنقلها فضائيات تحتشد على بعد خطوات منه.. اغتيال.. حواجز طيارة.. قنص.. مفخخات على الطرق، أشكال لاحصر لها..بحث عن قناة تبعده عن شبح القتل والجماجم فهرب لمحطة هادئة وتابع الشريط بكل جوارحه..

شاب ذو ملامح آسيوية يقف أمام صندوق .. آلة نسخ مستطلية ذات فتحة من الجانب .. رفع الشاب الغطاء فخرجت الصورة بصيغة عملة نقدية.. دولارات ..جنيهات .. ين ياياني جنيه إسترليني لا يهم..ضع الورقة في شق الآلة تخرج إلي كعملة نقدية..وقف الشاب يتأمل اختراعه..انبهر بالنقود ولمعت عيناه ..

نسي أنه تعجل ذات يوم فكسر غطاء صندوق التوفير بمطرقة فتناثرت على أرض المطبخ وجاءت أمه توبخه على تعجله!

بدأ الشاب الآسيويّ يفكر بطريقة أخرى مدّ يده في الشقّ فأخذت كفه تلتهم الأوراق النقدية..ثروة هائلة لو ظل يجمع النقود.. وضع إصبعه على صدغه..أخذ يفكر بطريقة أخرى.. ماذا لو دخل هو كله من الفتحة ذاتها يمكن أن يجلب الكنز كلّه.. حشر الشاب الآسيوي نفسه في الفتحة وتوارى وقبل أن يختفي كامل جسده اصطدم حذاؤه بالغطاء المائل أعلى الصندوق فتدحرج إلى الجانب منطبقا على الفتحة..

ولم يعد هناك اثر للشاب!

10

يغيّر مكانه الصندوق

 عاد ثانية إلى الزقاق...عيناه تجثمان على السيارة المحترقة .. الحمد لله أن الشارع كان فارغا من المارة .. قتيل وجريحان..حدث نفسه: أصبحنا نحمد الله لا على السلامة بل قلّة القتلى ..حلقات الناس ممن حملتهم الغيرة ومن الطفيليين مازالت تقطر على الزقاق.. أعداد هائلة ترفع هواتف نقالة إلى آذانها وتتحدث.. من يصف المشهد ومن يطلب نجدة.. زعق صوت: يا ناس ياعالم افسحوا الطريق لسيارة جاء بها أهل الخير تنقل المصابين.لا تعتمدواعلى الحكومة .الحكومة ماتت والله العظيم ماتت،فلا إسعاف ولا نجدة.. عيناي جالت بين المنادين والمصابين.. الصخب يزداد أكثر ..بالمصادفة انتقل بصري كمن يقرؤ الطالع نحوالبرميل أسفل الزقاق عند الفتحة التي عبرت قبل قليل من خلالها طائرة الهليكوبتر.

فجأة نطق البرميل...

نطق وقد غير مكانه..

رشاش محشو بالماء من كريم كيكوز ينهال على مجموعة الصبيان الضالة بحثا عن رفيقهم المتواري داخل القمامة..الصندوق البرميل يدلع لسانه هذه المرة ولا يقذف إلا نارا كثيفة هائلة.. انفجار.. دويّ هائل يهزّ الزقاق..تتطاير اجساد وتنتشر أعضاء.. يصيب هلع رهيب الحشد المتجمهر .. لا يكاد يحس بنفسه..على وشك أن يطير مع السيقان والرؤوس والأيدي.. وحده أم فارقته أعضاؤه لاشيء سوى أنه يشعر بخدر يشدّه إلى إلى الأرض حيث يقف .. خدر ما في مكان ما من جسده..يغفل عن الناس المضطربين المتناثرين بنفسه ويعيده خدر إلى جسده..يده.. ألتفتَ إلى جسده فيجد أن هناك دما ينزف من ساعده يعرف أنّه أُصِيبْت بانفجار عبوة كانت تختبيء في صندوق الأزبال!

شظيةأصابت ساعده..

ولو لم يغير الصندوق مكانه لتناثر الآن في الهواء!

الألم في يده ومازال يتذكر كريم كيكوز!

الفصل العاشر

الصندوق أخيرا

شغلنا عن الانفجارات طول النهار بالصندوق في مقبرة النجف. ماذا غير أن تكون عبوة ناسفة التهمت شارعا في الحلة وسيارة تشظت في بغداد أو انتحاري فجر نفسه وسط سوق في ديالى.. لم نر بعد ملامح أخي.. وجهه مازال غائبا عنا..كنت أقف جنب هشام على حافة إحدى الحفر حاملا يدي على صدري برباط يتدلى من عنقي..كنت اتصلت بالحفار فوعدني أن يتم حفر القبر عند عودتنا من المطار..خيّل إليّ أن الحفرة لمّا تكتمل بعد..في هذه الساعة الشاحبة رأيت هشاما ممتقع الوجه يتطلع في الصندوق. ولا يجرؤ على الكلام.. كأنه طفل يهم بالنطق ولا يقدر..اصابه خرس مفاجيء..ثم نقلت عينيّ بين القبور التي تنتشر في بعد لا نهاية له كما لو همت أن تبتلع العالم كله:

- أستاذ الحفار سيعود ليعمق الحفرة لأن فتح الصندوق يتطلب على الأقل ساعتين!

قال ذلك شخص من رعاة المقبرة يوجه الكلام إلى نبيل الذي ظلّ صامتا، فقلت:

- أنا تحدثت معه منذ كن افي المطار قبل ساعات من استلامنا الصندوق!

- لا يهم أستاذ هو الآن يحفر في مكان آخر المهم أن نكسر الصندوق.

 وقف يثرثر أمامنا.. أستاذ تعرف شغل أوروبا مضبوط هذا الصندوق محكم بشكل مبالغ فيه..راح يتحدث وهشام مازال يلوذ بصمته .. الخوف أم الندم أم هيبة المقبرة ... اللحام.. صلب بشكل غير طبيعي..صمت المقبرة والفضاء المحيط بنا اشبه بهذا الحديد الضخم لولا كلمات المراقب الذي توقف عن الكلام حين حضر عاملان أرسلهما قبل ساعة يشتريان مطارق ومناشير ومفكات .راحا ينكبان على الصندوق فيعملان فيه نشرا وطرقا والعرق يتصبب منها..

 - شغل أوروبا .. محكم.

- شغل مضبوط..

يقطعان كأن الصندوق يعاند أن يكشف عن نفسه.. يتحدثان عن الحديد واللحام وشغل أوروبا المتقن... يتوقفان.. العرق يتصبب منهما.. أحدهما يدخن.. هشام خرج عن صمته مرة أومرتين وسألني إن كنت تعبت..لا أشعر بالتعب حقا..نسيته.. وغفلت عن لفحة الشمس لولا أن رأيت العرق يتصبب من ..الحدادين استرقت نظرة إلى الحداد الذي جلس يدخن فخيّل إليّ انه يبتسم.. يفكر بشيء ما .. هؤلاء يمكن أن يفتحوا صندوقا وأن يحفرو قبرا وهم يضحكون ويحكون نكات..صوت الطرقات ينتناثر في الهواء ويضيع في مدى القبور اللامتناه .. أسنان القواطع توغل في الحديد .. حشرجة تنطبق على اللحام..

- أنا تعبت من الطرق تعال خذ انشر..

 ترى أنك واقف والقبور تسير..تحس أنها تسير إلى مالا نهاية ..تجتاح العالم، مقبرة مثل الساعة لا حد لها، هناك من يجثون فيبكون بصمت أو يرفعون أيديهم متضرعين.. الكلام والبكاء يتساوى والصمت كل شيء يتحول إلى سكون موتى يأتون من صناديق خشبية لينغرزوا في باطن الأرض والصندوق الذي معنا كان وحده من حديد..

هو الطرق

وهو القطع والنشر

 مع ذلك فهذه المقبرة تكاد تأكل العالم كله بامتدادها وصمتها والخشوع فلا تحس بأي ضخب يجري داخلها فتظنّ أنها من يتحركون فيها عقارب ساعة تهمهم بنغم خافت.. بعد ساعتين من الضوضاء التي ذابت في الصمت ..القطع والنشر والطرق كشف الصندوق عن نفسه.. وبانت من أعماقه جثة ناصر.. وجهه.. عظما فكيه الناتئان..عيناه المغمضتان..صفرة الموت ورائحته على تجاعيد ارتسمت فوق جبينه .. نحافة جسد أنهكه المرض..جلد وعظم ..

 مومياء..ناصر مومياء..

ذلك الشاب الوسيم الذي كان يهتم بأناقته وملابسه ..قبل أن يخرج من البيت يتأمّل امام المرآة ربع ساعة ثم يكوي قميصه وبنطاله بنصف ساعة.. سينتظر ساعة أخرى في الشمس حالما ينتهي الحفار من توسيع الحفرة لكن الضجة لم تتوقف عندما انتهى الحدادان من الصندوق ولا ابتدأت لحظة باشر الحفار بضرب معوله من جديد في القبر لا أقول فوجئت هذا اليوم بصندوق تطلب كسره ساعتين...ولابقبر تركه الحفار ناقصا وذهب ليحفر آخر الذي فاجأني حقا أني وجدت هشاما تطلع بوجه ناصر احالما رفع الحدادن الغطاء فجثا على ركبتيه منحنيا براحتيه على حافة الصندوق ..راح ينشج نشيجا متواصلا لانهاية له بكاء يكاء يتلاشى في أفق القبور السرمدي كأنه الآن تذكر أن له أخا ينتظر تحت الشمس لكي يوارى في القبر.. دقائق اختصرت سنين كاملة من برود هشام كافية لتجعله يتجرد عن حبه لنفسه وهو يقابل جسد أخيه الشقيق الذي انكمش في صندوقٍ حديدٍ فجاء من مكان بعيدٍ ليكون معنا في هذه اللحظات.. لم يكن الموت غريبا عنا فقد ألفناه يوم رحل أبي ثم من بعده الخالة أم ناصر... وقتها وجدناه عابرا يمر بنا كما يمر بالآخرين.. غير أننا في هذه الدقائق كنا نواجهه وجها لوجه..رحت أكفكف دموعا تزاحمت بعيني والتفت إلى الحفار الذي راح يحفر ويحفر ثم يلقي بمعوله على كدس التراب ويقول:

 أستاذ ها هي الحفرة اكتملت!

 

قصة طويلة

قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم