صحيفة المثقف

التّيِه

faraj yaseenسنحتْ لوحةٌ خاطفةٌ وسط تدافع الصور المضطرمة في مخيلتك، فتوقفتَ مع مشهد الراقصين والراقصات في حفلة عرس على عتبة في سفح جبل أزمر، مستغرقاً في عطايا طبق الألوان والألحان والوجوه الناعمة المنفعلة. ولا تدري كيف دارت البوصلة . ها أنتَ الان تمشي مع طابور الزملاء على أرض ملعب الشعب في حفلة التخرج، كتفك إلى كتف عفراء. حافة قبعتها العريضة السوداء تكاد تمس قبعتك حين التفتَّ لترى عينيها، لكن معطف صديقك غالب الرصاصي الطويل الفضفاض، الذي اشتراه من تحت التكية في شارع الرشيد؛ حضر أيضا تلك اللحظة. وحين كانتْ يداك تمعنان في بَري الصابون على رأسك، خطفتْ حادثةُ أول حلاقة في بيتكم القديم مع أبناء الاْعمام وصبيان المحلة . رافع وأرشد وجهاد وبهجت، كلّهم رحلوا . ثم هاهي صورة صبي غريق تلوح وتنحسر سريعا، مثل ظل يستقبل الغروب .

كانت رغوة الصابون قد تسلّلت إلى حاجبيك، وما أن رمشتَ مجفلأ حتى انزلقتْ وأرمضتْ عينيك . حان الان الخروج من تهويمات خلوة الجسد هذه . ولْتُشرع بالبحث عن عتلة خلاط الماء ؛

فمددتَ يدك من مكان وقوفك، وجعلتْ أصابعك تتقرّى جدار السيراميك، وتتعقب الحزوز الرفيعة بين المربعات . درتَ دورةً كاملة باحثاً في جدران الحمام بمستوى الركبتين ثم الصدر من مكان وقوفك، ثم جلستَ مقرْفصاً، ترسم بسبابتك مستقيماً عمودياً صاعداً إلى فوق ؛ حتى أوشكت على لمس السقف . وبعد دورتين أو ثلاث حول الجدران في مساحة لا تزيد على المترين المربعين؛ لم تعثر على شئ. لا عتلة الخلاط ولا رشاش الماء . وضحكتَ من فشلك؛ فانخرمتْ في روعك إنشودة نابعةٌ من صفحات  خزانة تراث مرير (وطني حبيبي وطني الاكبر). لكنك رأيتَ غيوماً سود ثقالاً، راحت تسكب المطر كالشلالات، وصاح اسماعيل سوف نغرق إن لم نخرج مسرعين من هذه المغارة. وسمعت أمك أيضا وهي تحذرك من أشواك طريق مزرعتكم الشاطئية الطويل. وفي خاطرة مجاورة ها أنتَ تقف حائراً بين عدد من الرجال المشدوهين والنساء الدامعات، في المصعد العاطل بين الطوابق العالية في فندق المنصور ميليا .

جسدُك يرتجف وعيناك تحترقان، وضجَّ الصراخ في قلبك من دون أن تنطقَ حرفاً واحداً:  أنا تائه، أنا تائه ياعالم !

 

فرج ياسين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم