صحيفة المثقف

يوميات لاجئ (3): رسالة من الشرق

salam alsamawiتخطيت صندوق بريدي ذات يوم غير أبه بما فيه، فلقد اضجرتني تلك الاعلانات التي تتكدس فيه يوميا من مختلف الانحاء .

وكأنني أشعر بان هؤلاء الموزعين لايعرفون شخصا غيري يرسلون اليه هذه الطرود البريدية الهائلة .

ياله من صندوق بائس لاياتيني الا بالمنغصات، فلكم اتحسر عندما انظر الى صور تلك الشقق الفارهة، والسيارات الحديثة واللوازم المنزلية المتطورة المعروضة للبيع .

وقد اشك في بعض الاحيان في وجود من يشتري هذه المعروضات، ولكن شكي سرعان مايزول عندما التفت الى ان هذه الشركات لايمكن ان تهدر هذه الاموال الطائلة من دون مقابل، اذن هناك من يشتري في مقابل من يعرض ويبيع، وقد اقول في نفسي احيانا ماذا لو صرفت هذه الملايين من الدولارات التي تستهلك في الاعلان على تلك الامم المسحوقة وعلى اولئك الملايين من الجياع في مختلف انحاء الدنيا .

وعلى اية حال فاني ابقى احد المستفيدين من اوراق هذه الجرائد والاعلانات مادمت لااملك لحد الان سفرة لتناول الطعام .

وقع بصري على رسالة زرقاء خرجت حاشيتها من صندوق البريد .

فدفعني فضولي لان افتح الصندوق وانظر مافيه، وكانت المفاجئة سارة حقا ..

وما اقل المفاجئات السارة في حياتي .

انها رسالة من صديق عزيز وأخ حميم ارتبطت معه اكثر من اربع سنوات في مكان واحد برباط الاخوة الايمانية المقدس .. وكانت تشد بعضنا الى بعض المودة الصادقة والاخوة المثلى .. الا اننا افترقنا بعدها، فهاجر هو الى احد بلدان الشرق، واتيت انا الى الغرب .

ان اهم ماكان يميز صاحبي هذا انه كان ان قبل الجدال في شيء فهو لايقبل مطلقا ان يجادل في امر الهجرة الى الغرب ..

لقد كان يلعن كل شيء ينتسب الى المظاهر الغربية الصاخبة ..

ولقد كاد ان يلعنني لانني وافقت على الهجرة الى (استراليا) لو لا ذلك الرباط الوثيق الذي كان يربط فيما بيننا .

ولقد سمعته يلعن الكثيرين ويصفهم بانهم تحولوا الى مواقع الاندحار والضعف والخذلان، ولم يكن راضيا عني ابدا، وكان يدور بيننا نقاش حاد حول هذا الموضوع، وكانت نقطة الضعف التي تراودني وانا اخوض في النقاش معه انني اشعر من داخلي بانه اكثر ايمانا واعلى يقينا مني، ولذلك تراني اندحر امامه في كل الجولات .

انه وكما كان ظاهرا على سلوكه مصمم على المثل والقيم ومواجهة المستبدين والظالمين، ولا يرضى بغير المرابطة بديلا .

اذن فلابد انه سينهال علي توبيخا وتقريعا في رسالته هذه، ويلومني كما تعود ذلك سابقا على اتخاذي لقرار الهجرة الى (استراليا) ويدعوني الى الالتحاق بركب الصالحين هناك ..

ما أولهني الى تلك الحياة التي يعيشها صاحبي في صميم الاجواء الايمانية، وفي خضم المظاهر الدينية، ومااشوقني الى تلك الوجوه المشرقة بالايمان والطافحة بالقناعة والصبر والتفاني في سبيل المبدأ الحق .

ارتعشت يدي وانا اتناول رسالة صديقي البعيد، وكأنني اتلقى نتيجة امتحان مصيري أخشى من الفشل الذريع فيه، بل اقطع بالفشل فيه، واخذت اكيل اللوم الى نفسي ...

قد ربح المعادلة وخسرتها انا !!

انا لااشك في انه قد لبى طموحه، وأغنى فكره وعقله، وأراح ضميره من خلال قراره الموفق ذاك .

واما انا فما الذي جنيته؟

وما الذي حصلت عليه؟

وكم خسرت من ايماني؟

وكم فقدت من التزامي؟

يخطىء كثيرا من يتصور ان الحياة تعني المال والثروة والغنى وحسب، بل يخطئ كثيرا من يعتقد بان الكثير من المال يساهم في صنع السعادة للانسان ولو ببعض المساهمة، فهاهم جيراني ومن حولي من القاطنين ممن تحسبهم أناسا واعين ومثقفين متطورين يفقدون أبسط معنى من معاني الحياة ..

فأنت لا ترى اطفالا يمرحون في ازقة الحي، ولاتسمع اصوات صبية يلعبون معا في جو اليف، ولاترى جارا يميل على جاره بزيارة او لقاء .

تمر على البيوت فتحسبها ديارا بالية عفاها اهلها منذ قرون .. ولا يقرع سمعك من الفتية الذين يندفعون من المدرسة خارجين الا اصوات الشتائم والسباب البذيء، ولاتستطيع العبور الى بائع الخضار حتى تلفحك رائحة الخمور المتصاعدة من الحانات الملغومة على الطرقات .

وعندما تصمم على ان تملأ عينيك بشاب تطفح منه مظاهر الحيوية والنشاط والاندفاع يقع بصرك على شاب خاو هزيل، يملأ اذنية حلقا، ويديه ورقبته اساورا، ويترنح كما تترنح الغانيات ..

ولعله يكفيني غما انني اصبح وأمسي كل يوم بوجه جارتي العجوزالشمطاءالجالسة على عتبة باب الدار التي ترمقني بنظرات التكبر والغضب والاستعلاء وهي تمسح على ظهر كلبها العقور ..

يالها من مأساة !!

لقد فاز صاحبي بكل شيء، وخسرت انا كل شيء، فصحيح انا حي، سليم البدن، اتنفس الهواء، ولكن مابداخلي من قيم ومبادئ بدات تموت شيئا فشيئا  انني لااستطيع ان اتذوق طعم الحياة، هذه الحياة الرتيبة، فلا عمل، ولا زوجة، ولا اولاد، ولا استقرار ....

اني لا املك غير بقية الايمان التي جئت احملها معي واحاول ان انميها واقويها بالمواظبة على حضور صلاة الجمعة والجماعة والاستماع الى المواعظ والالتقاء بالمؤمنين، ولكنني اشعر في نفس الوقت ان هذه البقية الباقية من ايماني قد اخذت طريقها الى التنازل مع مرور الايام ببركة النوم عن صلاة الصبح، وتاخير صلاة الظهرين الى ماقبيل الغروب، والنظرات الطائشة في الاسواق والطرقات، ومجالس الغيبة والنميمة التي يعقدها البعض في المساء، وهي اكبر خطرا من كل ماذكرته لانها لاتقرض الا اولياء الله الصالحين ولا تتهجم الا على العاملين المخلصين .

فيالها من فضيحة كبرى .. وياله من موقف مخيف مهول عندما تعرض اعمالي على الواحد القهار .

تحسرت حسرة ألم وانطلقت من شفتي تمتمة بائسة :

هنيئا لك يا صاحبي على اختيارك، وتعسا لي على هذا المصير والاختيار .

لقد راودتني هذه الافكار العاجلة سريعا وانا امسك برسالة صاحبي البعيد .. قررت ان افض الرسالة لكي اجدد من خلالها في نفسي الامل، واستفيد منها الانبعاث نحو المثل والمبادئ والقيم من جديد، واحاول ان استعيد من مضمونها تلك المعنويات التي فقدتها في بلد الاغتراب .

 جاء في الرسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم

صديقي الحميم وصاحبي الوفي المخلص .

السلام عليكم .. وبعد

لا اريد ان اطيل عليكم رسالتي هذه فأأخذ من وقتكم الثمين

اني اغبطكم على حياتكم السعيدة في بلاد الغرب، وياليتني كنت معكم فافوز فوزا عظيما .

يا أخي اني لا أشعر بمعنى الحياة .. فصحيح انا معافى وفي صحة كاملة وسليم البدن ولكنني أموت في كل يوم، ولقد انهارت طموحاتي، وتبددت امالي، فهنيئا لك هجرتك المباركة، وسفرتك الموفقة، ولئن ندمت على شئ في الحياة فاني لم اندم الا على رفضي لقرار السفر معكم، اما انتم فلقد فزتم ونجوتم من العذاب الذي انا فيه !! ..

يا أخي الحميم ..

اني مستعد لان ابيع كل املاكي واغراضي من اجل الحصول على فرصة اللجوء لديكم، علما بان عندي سيارة ذات قيمة جيدة، وبيت متواضع يمكن ان يعودوا بثمن مناسب للسفر .. بل أني مستعد لان اضحي بعائلتي وأجيء فردا حتى لو تطلب الامر مني البقاء سنة او سنتين بعيدا عن العائلة والاطفال !

ان هذا هو قراري الاول والاخير، وسوف ابذل اموالي جميعا من اجل الوصول اليه، فأرجو مساعدتي في هذا الامر، واطلب منك ارسال ثلاثة الاف دولار امريكي اليَ لتسهيل عملية السفر، وأظن ان هذا المبلغ مبلغ بسيط ولن يؤثر عليك !!!!

ارجو المساهمة في تخفيف معاناة اخيك الابدية ودمتم سالمين .

اخوك المعذب .......

لقد صعقت من قراءة هذه الرسالة التافهة، وبدأت أمزقها بحرقة على الفور، والوم القدر الذي صب عليَ كل هذه البلايا والهموم، فأين اهل المبادئ، واين اهل القيم والمثل العليا، ولماذا ضاعت المقاييس، واستفحلت الروح المادية في النفوس، ولماذا هذا التهالك والاندفاع اللامعقول نحو الحياة المادية الخاوية ...

انها معادلة خاسرة حقا ..

انها معادلة لم يخسر فيها طرف ويربح الاخر كما تصورت اول الامر، بل هي معادلة الخاسر فيها طرفان !!!

 

سلام البهية السماوي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم