صحيفة المثقف

مرت اوربا بحركة عصر الاحياء او عصر النهضة وكانت حركة عقلانية تتجه نحو فكرة الاستقلال للشخصية وتأكيد الاحتجاج على النزعة الزاهدة التي سادت القرون الوسطى .. وبعد هذا العصر تغيرت الامور واستيقضت الشعوب وحيت القلوب بعد ما مرضت او ماتت تحت نير التخلف والجمود العقلي بتأثيرات رجال الدين الكنسي . واليوم شكل بعض رجال الدين في عالمنا الاسلامي طبقة غنية حاكمة استغلت البسطاء والفقراء لتشيع بينهم خرافات واساطير الماضي فجمدت وحجرت العقول والنفوس وحكمتهم بروايات الماضي الكاذبة – قالوا - واغلقت الباب على حرية العقل وان يأخذ دوره الابداعي في الحياة المعاصرة .. نعم اليوم يعود عصر الاحياء من جديد لدى الطبقة الواعية والمثقفة فهناك من اعلن ثورته على بعض التراث الديني المتخلف ووصفه بانه موضوع ومدسوس وليس له علاقة بالاسلام على الاطلاق . ويظهر من جديد جماعة المعتزلة الذين قدموا العقل على النقل (القرن الثامن الميلادي) ثم جاء من بعدهم اخوان الصفا (القرن العاشر) الذين دعوا الى تطهير النفس(صوفيا) وربطها بالسماء عن طريق الفلسفة والعلوم . وقد ظهرتا الجماعتان في مدينة البصرة .. ورغم تحفظ البعض على هذه الجماعتان الا انهما اعطتا اهمية ودورا كبيرا للعقل في الحياة والتعايش الانساني المشترك .

التواصل الحضاري

 اصبح اليوم التواصل بين الماضي والحاضر له صفة حضارية متحركة وخطاب انساني عام (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى ...) . (احيوا القلوب فانها تمل كما تمل الاجساد ...) ولهذا فان من مميزات فن ما بعد الحداثة هو انهم اتخذوا التراث كمصدر من مصادر الالهام والابداع والتأكيد على الهوية والخصوصية . ومنهم من اكد على عالمية الفن وانسانيته .

قبل ايام كنا في زيارة قصيرة الى عاصمة الثقافة والفن والعمارة لندن وكان الهدف منها هو اعمار القلوب بالتواصل والمحبة وتغذية النفوس والعقول من شتى روافد الفن والثقافة خاصة اذا عرفنا ان هناك نخبة جيدة وطيبة من الفنانين العراقيين والعرب الذين يعيشون في هذه البلاد منذ عقود . بالاضافة الى ذلك كثرة المتاحف والكالريات والصحف والمؤسسات الثقافية والفنية و العلمية والدينية . وقد زرنا اصدقائنا الفنانين والمثقفين واستفدنا من تجاربهم القيمة . كما زرنا عدد من المتاحف التي تضم اعمال خيرة فناني عصر النهضة والباروك والركوكو والفنانين الحديثين وتراث الامم السابقة من سومرية وبابلية وآشورية وفرعونية واغريقية ورومانية ... وقد لفت نظري في متحف –نشينال كالري – هناك احدى القاعات تزدحم بالزوار وبحركة اجهزة التصوير , وعندما دخلت وجدتها تضم عددا كبيرا من اعمال الفنانين الانطباعيين امثال فان كوخ وسيزان و ديكا وبيسارو وغيرهم . ومن الاعمال المعروضة هي لوحة – عباد الشمس – لفان كوخ .. وهذا الازدحام يؤشر لنا مدى درجة تذوق الناس الى الفن الانطباعي والى اولئك الطلائع الذين تحدوا التقاليد الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر واحدثوا انقلابا وثورة على ذلك الموروث القديم , كما انهم هم الذين مهدوا الطريق لظهور المدارس الفنية الحديثة ...

في عام 1903 اقيم معرضا لاربعة من الفنانين الذين يعتبرون من طلائع الفن الحديث في مدينة برلين وهم مونخ وسيزان وفان كوخ وكوكان وكان هذا المعرض بمثابة صرخة مدوية هزت الجيل الجديد الذين اخذوا يتجاوبون مع هذه الاعمال الفنية بمفهوم الحداثة .. ومن ذلك الوقت ظهرت انغام وايقاعات جديدة في العمل الفني وحركة الفرشاة والالوان المشرقة وتأثيرات الضوء عليها . وقد توحي اعمالهم للمشاهد بانه يرى الاجزاء رغم انها غير مرسومة مما يزيدها اكثر جمالا وسحرا .

شاهدت اعمال كونستابل1776-1837 وترنير 1775-1851و تمعنت جيدا في طريقة الاداء والتقنية فوجدت انهما بحق الممهدين الاوائل للحركة الانطباعية والتعبيرية التي ظهرت في فرنسا عام 1874. ولهذا ليس غريبا ان تزدحم قاعة اعمال الانطباعيين بعدما تغيرت الاذواق وانفتحت آفاق رحبة للعقول نحو التجديد والتطور ...

د. كاظم شمهود