صحيفة المثقف

السيد محمد باقر الصدر ما بين المعرفة والتفلسف وبين الأدلجة والتقديس (2)

الملحق الأول (مهجورية الأسس المنطقية للاستقراء)

فيما يأتي نص ما كتبته، بهذا الصدد، في مقدمة الجزء الأول من كتابي " في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر " (26):

ولكن وعلى الرغم من أهمية الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر – مع ما يشتمل عليه من  إبداعات في غاية الأهمية – بقي خارج إطار التداول في النوادي العلمية العالمية، لابل حتى خارج إطار التداول في النوادي العلمية الإسلامية.

إنه لمن الغريب حقا أن نشهد عدم الاهتمام الواضح بالفكر الاستقرائي للشهيد الصدر من قبل النوادي العلمية الاسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، في الوقت الذي نشهد فيه – عند مطالعتنا لتاريخ العلم – أن الغرب يهتم ويفتخر بنتاج مفكريه حتى ولو كان – عند المقايسة –  أبعد زمنا وأقل بكثير مما قدمه الشهيد الصدر.

نعم إنه لمن الغريب – كما يشخص بعض الباحثين –  أن يشتمل البحث الاستقرائي على أبدع أفكار وابتكارات الشهيد آية الله محمد باقر الصدر، وهو من أحلى ثمار ذهن الشهيد الصدر، الذهن الوقاد الباحث والمبدع. ومع ذلك فإن هـذا البحث مــن أكثر بحوث هذا الراحل العظيم خفاء وغربة.

ويعبر باحث آخر عن هذا الاستغراب فيقول: (رغم أن كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، من أبرز آثار الشهيد محمد باقر الصدر، وهو مساهمة معرفية متميزة لهذا الفقيه المفكر، غير أنه من أقل مؤلفاته تداولا بين القراء، فإنه يغيب في حلقات دراسة المنطق والفلسفة في الحوزات العلمية، ولا تتنبه إليه الكثير من الأبحاث في نظرية المعرفة، وفلسفة العلم، وفلسفة الدين، وعلم الكلام الجديد). (27)

قد نجد تبريرا – كما يرى السيد عمار أبو رغيف - لفرسان ميدان مناهج البحث في الغرب لعدم اطلاعهم على محاولة الصدر، حينما نتوسل بأمرين:

الأول – لا يزال كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء " غير مترجم بشكل فني ولائق إلى إحدى اللغات الأساسية في غرب القارة كالإنجليزية أو الفرنسية.

الثاني: إن الغربيين يعانون من تضخم هذا البحث، فقد قالوا وكتبوا – عبر أربعة قرون – كثيرا جدا حول هذا الموضوع، وتناوب مئات العباقرة وأولي النبوغ على معالجة مشكلاته، حتى كاد الغرب لا يصدق بولادة جديدة – بمعنى الكلمة – على أرضه، فضلا عن جدة معالجة على أرض الشرق وبلغة العرب !

ولكن كلا هذين الأمرين لا يبرران لرجال مناهج البحث في الشرق – والمسلمين منهم على وجه الخصوص – عدم الاهتمام الأكيد بأطروحة " الأسس المنطقية للاستقراء  "، لأن هذه الأطروحة – دون مبالغة في القول – نقلتنا مع بعض وجوه مشكلات الاستقراء ونظرية الاحتمال ما يقرب من ثلاثة قرون، واختزلت المسافات الزمنية، التي تفصلنا عما عليه الوضع في غرب القارة في وجوه أخرى أكثر من قرن .

ومن ثم طرحت معالجة هي أقرب لروحنا في الشرق، وعساها أن تكون علاجا أو على الأقل بداية العلاج لسد الهوة الثقافية العميقة، التي تفصل بين العالمين. (28)

وبالفعل، ليس هناك ما يبرر عدم التفاعل الأكيد مع البحث الاستقرائي للشهيد الصدر من قبل رجال مناهج البحث في الشرق، والمسلمون منهم على وجه الخصوص.

ومع ذلك فقد يهون الأمر لو كان  يقتصر فقط على عدم الاهتمام بفكر الشهيد الصدر، ولكنه يصبح مؤلما – بالفعل – حينما نجد أن هناك بعض الدراسات لم تقيم هذا الفكر بالشكل المناسب:

كما هو الحال في دراسة الدكتور (عبد الكريم سروش) المعنونة بـ        (الأسس المنطقية للاستقراء من وجهة نظر الشهيد آية الله محمد باقر الصدر)، والتي كانت متعجلة في قراءتها للفكر الاستقرائي للشهيد الصدركما سيتضح.

وكما هو الحال في دراسة الدكتورة يمنى طريف التي جاءت تحت عنوان " فلسفة كارل بوبر "، ففي الفصل السادس من الباب الأول من هذه الدراسة وبعد أن أثنت الدكتورة على النتيجة التي توصلت إليها فلسفة بوبر، تلك النتيجة التي ترى أن الاستقراء محض خرافة كتبت ما يلي:

(والحق أن هذه النتيجة – رغم بداهتها – إنجاز ضخم وعظيم، تكمن عظمته في الشجاعة الأدبية والأصالة الفكرية اللتين انطوت عليهما . كيف يفكر بوبر أصلا في حسم القول في رفض فكرة شائعة شيوع الإيمان (الاستقراء معيار العلم)، تكاد تكون الفكرة الوحيدة في فلسفة العلم التي تدخل في معتقدات رجل الشارع، فهو يجزم بأن العلم التجريبي عظيم، فقط لأن العالم يقتصر على تسجيل ما تبوح به التجربة – استقرائيا – من أسرار الطبيعة.

بل وأكثر من هذا، فالإيمان بالاستقراء – كمعيار للعلم – قد تطاول إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، بحيث يمكن اعتبار الثانية نتيجة لللأولى، وليس هذا تعبيرا مجازيا، بل تقريرا لواقعة، هي أن الإمام محمد باقر الصدر، وهو زعيم شيعي من علماء النجف الأشرف، يتمتع بمنزلة دينية وعلمية وقومية فائقة، وقد أخرج دراسة وافية شاملة محيطة بالاستقراء كمنهج للعلم الطبيعي، محددا أسسه المنطقية وجوانبه الميثودولوجية، كي يتبع هذه الأسس بدقة في استدلال استقرائي ينتهي إلى وجود الله . وكأن الاستدلال الاستقرائي هو الاستدلال الذي ما بعده استدلال – تماما كما أن العلم الطبيعي هو العلم الذي ما بعده علم – فيوطد هذه النتيجة العظمى الجليلة.

ترى ما موقف الإمام الصدر، لو أنه اطلع على أبحاث بوبر وتبين أن الاستقراء محض خرافة ) .(29)

وها هنا بودي أن أشير إلى أنني لا أفهم حقا لماذا تعتقد الدكتورة بأنه من الضروري أن نسلم لمقولة (بوبر) التي يرى فيها أن الاستقراء خرافة؟ !

نعم قد تكون الدكتورة يمنى طريف على قناعة بأدلة (بوبر) بهذا الخصوص، ولكن وبالتأكيد أن هذه الأدلة – وبمنطق بوبر نفسه – قابلة للنقاش والنقد، وبالفعل فإن هناك العديد من فلاسفة العلم من لم يكن مقتنعا بالمطلق بموقف بوبر من الاستقراء، ومنهم من اقتنع ببعض أفكاره حول الاستقراء ورفض غيرها، فها هو دونالد جيليز    – الذي لا يخفي إعجابه بفلسفة بوبر – يقول في بعض أفكار بوبر حول الاستقراء فيما كتبه تحت عنوان (بعض الملاحظات العامة على نظرية (بوبر) في المنهج العلمي):

(وفي حين تبدو فكرة (بوبر) الأولى والثانية سائغتين تماما، إلا أن هذا الأمر لاينطبق بالقدر نفسه على فكرته الثالثة، والتي تقول أن الحدوس الافتراضية لا يمكن تبريرها مطلقا بطريقة إيجابية) .(30)

إذن موقف " بوبر " من الاستقراء –  وعلى الرغم مما فيه من أفكار تستحق التقدير والإعجاب –  لا يمثل الموقف النهائي من الاستقراء – كما سنبين ذلك بالتفصيل في هذا الكتاب – ليأتي الدور بعد ذلك للتساؤل عن موقف الشهيد الصدر من مقولة (بوبر) التي ترى أن الاستقراء خرافة.

إن إحدى  الصور التي يتجلى بها عدم التفاعل بالشكل المناسب مع البحث الاستقرائي للشهيد الصدر، هي تلك الصورة التي يتبين لنا من خلالها عدم التفاعل مع التطورات التي طرأت عليه في مرحلته  الأخيرة، أعني مرحلة " ما بعد الأسس المنطقية " . فقد أثبتنا في المقالة الرابعة من هذا الكتاب والتي جاءت تحت عنوان  " ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء " أنّ هناك العديد من التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر فـي " ما بعد الأسس المنطقية "، وأنّ الكلمة الأخيــرة للشهيد الصدر بخصوص الاستدلال الاستقرائي لم تكن في " الأسس "، وإنما كانت في " ما بعد الأسس " .(31)

نعم، قد يكون يحيى محمد  حاول في بحوثه على كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء " التفاعل مع تلك  التطــورات، ولكن المؤسف في الأمر أن تلك البحوث لم تقدم ما يكفي للوقوف على حقيقة هذه التطورات وعلى حجم التعديلات التي أدخلها الشهيد الصدر فــي " ما بعد الأسس " على بحثه الاستقرائي في  " الأسس " .(32)

والصورة الأخرى التي يتجلى بها – أيضا – عدم التفاعل بالشكل المناسب مع البحث الاستقرائي للشهيد الصدر، هي تلك الصورة التي يتبين لنا من خلالها – في حدود اطلاعنا – قلة الدراسات حول هذا البحث. فمنذ أن صدر كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء " في عام: 1972م ولأعوام عديدة، لم يحظ الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر إلا بدراسات معدودة هي كالتالي :

أ – شرح تعليمي، لم يكتمل بعد، مضبوط على أشرطة التسجيل، قام به أحد الأعلام .(33)

ب – دراسة نقدية قدمها الدكتور (عبد الكريم سروش) باللغة الفارسية، وترجمها إلى العربية السيد: عمار أبو رغيف . وقد جاءت تحت عنوان " الأسس المنطقية للاستقراء من وجهة نظر الشهيد آية الله محمد باقر الصدر  ".

ج – عدد من البحوث والمقالات ليحيى محمد، نشرت  متفرقة في بعض المجلات والدوريات العربية، وتوجت أخيرا ببحث شــــامل أطلـــــق عليه مؤلفه " الاستقراء والمنطق الذاتي "، يقول مؤلف هذا الكتاب:

(يمكن اعتبار هذه الدراسة حصيلة اهتمام قديم بالكتــــاب الشامخ " الأسس المنطقية للاستقراء " للمفكر والمجدد الكبير محمد باقر الصدر. فقد بدأ هذا الاهتمام منذ ربع قرن تقريبا، وأول عمل أنجزته هو تلخيصه " سنة 1980 "، وبعدها نشرت العديد من الدراسات المتعلقة به، كان أولها عبارة عن بحث فيه مقارنة أجريتها بينه وبين المصنف السابق " فلسفتنا "، ضمن عنوان " نظرات فلسفية في فكر السيد الصدر " والــــــــذي نشر فــــي مجلة " دراسات وبحوث " سنة 1983 . ثم تلا ذلك نشر كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء \ بحث وتعليق " سنة 1985، وكان يعبر عن حلقة نقدية أولى تخص بعض مباني ذلك الكتاب القيم، وبعدها عدلت عن فكرة الحلقات فعملت علــــى دراسة الكتاب ضمن بحث شامل أطلقت عليه " الاستقراء والمنطق الذاتي " سنة 1987، وهو الكتاب الذي أصدر له هذه المقدمة، حيث بقي مخطوطا لم تساعد الظروف على نشره طيلة السنين السابقة. والكتاب يتضمن الحلقة المنشورة المشار إليها بعد تنقيحها وتغيير بعض الآراء التي وردت فيها، بل وحذف ما صدّرته لها من مقدمة وتمهيد. وقد طرأ عليه العديد من الإضافات المستجدة طوال تلك المدة، كمــــا نشر منه عدد مـــــن البحــــوث لدى بعض الدوريات العربية). (34)

د – كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش " لمؤلفه  السيد: عمار أبو رغيف، الذي حاول من خلاله إيضاح موقفه من ملاحظات الدكتور (سروش) النقدية على كتاب الأسس المنطقية.

هـ - كتاب "منطق الاستقراء"  لمؤلفه السيد: عمار أبو رغيف، والذي حاول من خلاله – بحسب ما جاء في مقدمة هذا الكتاب –: إعادة تظهير كتاب "الأسس"، وكسر الطوق، الذي يحلو للبعض أن يقيدوا به هذا الكتاب، ذلك إن تعميم الثقافة التي يبشر بها هذا الكتاب أصبح واجبا فكريا أكيدا.

و – كتاب " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة "، لمؤلفه السيد: كمال الحيدري، والذي حاول من خلاله – بحسب ما جاء في مقدمة هذا الكتاب –:  إعادة صياغة هذا الكتاب بإسلوب واضح.

ز – تعليقات علمية قيمة على بعض مباحث هذا الكتاب – وبالذات مباحث نظرية الاحتمــال – أتحف بها السيد: كاظم الحسيني الحائري  هوامش الطبعة المعدة والمحققة مـــن قبل لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر " قدس سره ".

ولكي نتعرف على واقع التفاعل مع البحث الاستقرائــــي للشهيد الصدر للفترة ما بين: " 1972م " و إلى يومنا هذا، علينا أن نسلط الضوء على  تلك الدراسات التي تناولت هذا البحث في هذه الفترة:

أما بالنسبة للدراسة المضبوطة على أشرطة التسجيل، فيبدو – على ما يقول السيد عمار أبو رغيف – أنها لم تسلم من العثرات الناتجة من قصور في فهم البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر .(35)

وأما بالنسبة لدراسة " الدكتور عبد الكريم سروش " فهي تستحق – بالفعل – أن نقف عندها؛ باعتبارها انعكاسا معبرا بصدق عن واقع الفهم غير الدقيق للبحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر، كنتيجة لعدم التفاعل بالشكل المناسب مع ذلك البحث؛ وفيما يلي من النقاط إيضاح لما تقدم :

النقطة الأولى: لقد كان " الدكتور عبد الكريم سروش " بجاجة إلى الإطلاع الكافي على المباني الأساسية التي تشكل الحجر الأساس للبناء الفكري للشهيد الصدر، والتي في ضوء الاطلاع عليها يمكن فهم مقاصد البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر بشكل أفضل . ويبدو أن هذا الإطلاع  لم يتهيأ للدكتور " سروش "، الأمر الذي أدى بدراسته إلى أن تقع في العديد من الفهومات غير الدقيقة لمقاصد البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر، وإلى أن تنتهي بالنتيجة المؤسفة التي تقرر: أن السلوك الفكري للشهيد الصدر في " الأسس المنطقية للاستقراء " كان سلوكا نفسيا، ولم يكن سلوكا منطقيا .

النقطة الثانية: لم تكــن دراسة الدكتور " سروش " دراسة منصفة للبحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر؛ بل كانت مبنية – وبالتأكيد – علــــــى موقف مسبق، ولعل هذا الموقف قد تولد لدى الدكتور " سروش " نتيجة لوقوعه تحت تأثير ما يعتقد به بعض المطلعين على المنهج العلمي الحديث، حيث: (يعتقد المطلعون على المنهج العلمي الحديث أن الاستقراء عقدة لا تحل ومشكلة لا تعالج، وحلها يشبه عندهم صناعة المكائن الدينامحرارية من النوع الأول أو الثاني، حيث اكتشف بعد حين امتناع ذلك، وخاب أرباب الصناعات التجارية في محاولاتهم الطموح العابثة ) .(36)

النقطة الثالثة: في هذا الأمر لا أريد أن أسجل نقدا على الدكتور " سروش " لعدم تتبعه للتطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في " ما بعد الأسس المنطقية "،  ولكني كنت أتمنى أن يعنون كتابه بما يوحي من خلاله أنه يدرس الأسس المنطقية للاستقراء عند الشهيد الصدر في ضوء كتابه " الأسس المنطقية للاستقراء "، وأن لا يعنون كتابه بما يوحي أنه يدرس الأسس المنطقية للاستقراء عند الشهيد الصدر بشكل عـام. ولعل هذا النقد يتأكد بشكل أكبر، حينما نعلم أن " سروش " قد أدرك روح التجديد والتجدد عند الشهيد الصدر.(37) فمن أين ضمن سروش أن لا يتجدد الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في " ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء ".

أما بالنسبة لكتـــاب " الاستقراء والمنطق الذاتي "، لمؤلفه " يحيى محمد "، فهو – وبلا شك – كتاب مهم تناول البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر بالنقد والتحليل، وكان أول من وقف على التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر، على الرغم من عدم متابعته لها بالشكل الذي يتناسب مع أهميتها، كما أجملنا فيما تقدم، وكما سيجده القارئ المحترم متفرقا في ثنايا هذا الكتاب.

أما بالنسبة لكتـــاب " الأسس المنطقية للاستقـــــراء فـــــي ضوء دراسة الدكتور سروش "، فهو  دراسة تولدت نتيجة ضرورة ملحة أوجبها واقع الفهم غير الدقيق لبعض مقاصد البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر، وقد استفدنا منها كثيرا في هذا الكتاب.

وهكذا فإن هذه الدراسة تستحق التقدير، ولكنها اقتصرت على تناول بعض جوانب البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر ؛ باعتبار أن هذه الدراسة إنما جاءت لمعالجة ملاحظات " سروش " النقدية على كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء  ".

أما بالنسبة لكتاب " منطق الاستقراء "، فهو – وبلا شك – دراسة جادة ومعمقة ومنتجة، وتشكل خطوة كبيرة باتجاه إعادة تظهير البحث الاستقرائي للشهيد الصدر، ولكنها لم تكن شاملة، ولعل هذا الأمر قد أشار إليه السيد عمار أبو رغيف نفسه حيث قال في مقدمة الكتاب:

(إن الفيلسوف الفقيد طرح في " الأسس " نظريتين أساسيتين، تناولت الأولى تفسير الاحتمال وصياغة نظرية جديدة للاحتمال ...، وقد انصبت جهودنا في هذه الدراسة على بيان هذه النظرية وتبسيط عرضها . أما النظرية الثانية فهي اتجاه جديد في تفسير اليقين الاستقرائي، والمعرفة البشرية بعامة. حيث يمنح الدليل الاستقرائي في مراحل متقدمة يقينا،  لكنه غير ضروري، ومن ثم فهو غير منطقي، وفي الوقت ذاته ليس يقينا فوضويا قائما على أساس النزعة السيكولوجية المحضة، بل هو يقين يرتكز على مبررات موضوعية، وله شروطه المنطقية . آمل بإذنه تعــــالى أن أتوفر على فرصة لعرض هذا الاتجاه وتحليله – في دراسة قادمة – .

ولا بد أن أؤكد هنا على أن دراستنا لنظرية الاحتمال وتفسير الدليل الاستقرائي على أساس هذه النظرية انصبت على عرض العمود الفقري والأسس النظرية التي طرحها الأستاذ. أي أن هناك تفصيلات أخرى آثرنا عدم ذكرها في هذه الدراسة، لأن إغفالها لا يؤثر على البناء الأساسي للنظرية، مضافا إلى تيسير البحث أمام القارئ المتعلم، إذ أن الدخول في التفريعات والتفاصيل يراكم مادة البحث، فيعسر هضمها واستيعابها، ويشوش على المتابع الصورة، التي نريد عرضها واضحة جلية). (38)

والخلاصة: فإن هذه الدراسة تستحق التقدير والاهتمام حقا، ولكنها غير شاملة، فعسى أن يتوفر السيد عمار أبو رغيف على الفرصة، لعرض مباحث " الأسس المنطقية للاستقراء " بشكل أشمل.

أما بالنسبة لكتاب " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة "، لمؤلفه  السيد: كمال الحيدري، فهو خطوة مهمة باتجاه التعريف بجهود الشهيد الصدر في البحث الاستقرائي من خلال إعادة صياغة أفكار هذا البحث بإسلوب واضح. يقول السيد كمال الحيدري في مقدمة هذا الكتاب:

(وإدراكا مني لأهمية المنجز المعرفي في كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء  " ووفاء لأستاذنا الشهيد الصدر، حاولت أن أعيد صياغة أفكار هذا الكتاب بإسلوب واضح، يدمج بين البيان والشرح والتوضيح في بعض الموارد، والاختزال والتكثيف والتلخيص في موارد أخرى، ويستقي مادته من نصوص أستاذنا مباشرة في كتابه هذا ومؤلفاته المتنوعة، وفي كل موضع أفصح عن أفكاره وأوضحها بجلا . فحرصت على عرض مذهبه الجديد في المعرفة، الذي أسماه " المذهب الذاتي "، في القسم الأول من هذا الكتاب، إذ جعلته بمثابة المدخل، كما أشرت فيه لما يختص به هذا المذهب ويتميز عند مقارنته بالمذهبين العقلي والتجريبي.

وأما القسم الثاني من الكتاب الذي استوعب ما يزيد على ثلثي الكتاب، فقد اشتمل على تطبيقات المذهب الذاتي في المعرفة ومعطياته، --- ولما كانت هذه المحاولة تنشد للتعريف بجهود أستاذنا الصدر، وتسعى لتعميم الإفادة منها لدى قطاع واسع من الباحثين والدارسين، لم أقتصر على نصوصه خاصة، وإنما اقتبست نصوصا لفلاسفة وعلماء وباحثين آخرين، وعززتها بهوامش وتوضيحات وشروح مسهبة بغية إضاءة ما قد يلتبس أو يبدو غامضا أو مبهما على القراء). (39)

والخلاصة: فإن هذا الكتاب يشكل خطوة مهمة للتعريف بالبحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر، وهو يحفزنا بالتأكيد نحو خطوات أخرى باتجاه هذا البحث.

أما بالنسبة للتعليقات العلمية القيمة من قبل السيد كاظم الحسيني الحائري  على كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء"، فقد استهدفت – في الغالب – تلبية الحاجات الضرورية لتوضيح ما جاء ذكره في متن الكتاب، أو لتحصيل مفاد علمــي جديد، وبعضها يحمل طابع النقد والنقاش أيضا.(40)

هذا هو واقع التفاعل مع البحث الاستقرائي للشهيد الصدر – على أهميته –: هجران لعقود إلا من دراستين: إحداهما: مضبوطة على أشرطة تسجيل، وأخرى: دراسة كانت بعيدة عن الفهم الدقيق للبحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر. بعد ذلك خطوة مثيرة للاهتمام من قبل يحيى محمد باتجاه التفاعل مع البحث الاستقرائي للشهيد الصدر. وأخيرا وبعد طول انتظار خطوات جادة باتجاه التفاعل مع البحث الاستقرائي عند الشهيد الصدر. ولكننا ما زلنا بحاجة إلى خطوات أخرى.

على أن نشير إلى أن هناك دراستين تلت الدراسات المذكور أعلاه:

الأولى: كتاب " تطورات في الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء "،  لمؤلفه: رضا حسن الغرابي، الذي حاول من خلاله أن يقف على حقيقة وحجم التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء.

الثانية: كتاب " الاستقراء في ضوء الشهيدين الصدر ومطهري "، لمؤلفه: رضا حسن الغرابي، الذي حاول من خلاله إبراز دور الشهيدين في البحث الاستقرائي، وإجراء مقارنة بين " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة " متمثلا بمؤسسه الشهيد الصدر وبين " المذهب العقلي " متمثلا بالشهيد مرتضى مطهري.

على أن نشير إلى  أن  هذين الكتابين لم يخلوا من بعض الملاحظات التي تجاوزها المؤلف في هذا الكتاب، علما أننا قد أودعناهما فيه على شكل مقالتين: الأولى بعنوان " ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء " والثانية بعنوان " الاستقراء في ضوء الشهيدين الصدر ومطهري ".

الملحق 2: جهود طيبة

1 – لقد سعت إحدى الأخوات الفاضلات  في أن أعرض الكتاب على وزارة الثقافة، وحظيت بالموافقة على طبعه من قبل وكيل وزير الثقافة في حينه والذي أوصى بطبعه لقيمته العلمية، ولكني فوجئت بعد ذلك باعتذار الدار المسؤولة عن النشر بطبعه كاملا لأنه مكلف طالبين مني اختصاره إن أمكن من          (2550 صفحة) إلى (300 أو 400 صفحة)

2 – إنّ بعض الفضلاء تحمس للكتاب ووعد بالسعي لطبعة، محسنا الظن ببعضهم، ولكنه للأسف وجد انّ الأمر ليس كما كان يتصور.

3 - الشخص الذي كان أكثر اهتماما بكتابنا هو الشيخ حيدر حب الله، فقد تفضل بالتقديم للكتاب، إلا أنّ الكتاب ومع ذلك التقديم من قبل شخصية معروفة  في الوسط الفكري ما زال يواجه معاناة عدم الطبع.

وفيما يلي نص تقديم الشيخ حيدر حب الله لكتابنا " في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر "

التقديم

ويبقى الإنسان غير قادر على أن ينتج حياةً علميّة سليمة بعيداً عن دراسة ذاته؛ لأنّ العلم ليس سوى ظهور من ظهورات ذواتنا، وفعل من فعاليّاتها، فما لم ندرس ذواتنا وهويّة علومنا وبنيتنا المعرفيّة.. لن نتمكّن من فهم العالم المحيط بنا فهماً سليماً مضموناً.

ليست المنطقيّات في جانبٍ رئيس منها سوى محاولة لإعادة فهم البُنية الأصلية لجهاز إدراكنا وتفكيرنا، والذي انحرفنا عنه في لحظة الاندماج بالمحيط، فلا تولد معرفة متعالية عن التجربة الإنسانية في التفاعل مع الذات والمحيط، فالعقلانية الفعلية وليدة التجربة وليس العكس فقط، وكلّ جهودنا المنطقية ليست سوى محاولة للعودة بنظام جهازنا الإدراكي إلى نقطة الصفر، حيث التجرّد التام عن عوامل الخطأ، وعندما نتجرّد عن عوامل الخطأ الكامنة في ذواتنا وفي المحيط المؤثر فيها، فهذا معناه أنّنا عدنا إلى ذواتنا عودةً محضة، ومعناه تماماً أنّنا نكتشف بنيتها الأنطولوجية والمعرفيّة معاً، وهذا معناه أنّ العقلانية الفعلية الناتجة عن التجربة الإنسانيّة، تسعى دوماً للتماهي مع مقومات بنيتنا الذاتية التي تعبّر عن العقلانية الأنموذجيّة.

من هذا المنطلق، لا يوجد شيء اسمه الايبستمولوجيا ولا المنطقيات بمعزل عن دراسة نظام التفكير في ذاته وفي بُنيته، فنقطة البداية هي الذات وليس الموضوع الخارجي، والمفصل الحاكم هو الأنا وليس العين، هذا بالضبط ما ترجّح عند كثير من الفلاسفة المتأخّرين، وحتى عند أنصار النزعات العرفانية في بعض تياراتهم على الأقلّ، حين اكتشفوا أنّ فهم المعرفة ليس سوى فهم للذات العارفة وآليات عملها، وأنّ الفهم الآخر هو نتيج ولاحق على فهم الذات، بصرف النظر عن تقويم رؤيتهم هذه.

من هنا، جاءت محاولة العلامة الكبير السيد محمد باقر الصدر، الفيلسوف المعرفي الذي أراد إنتاج نظرية المعرفة من الذات (المذهب الذاتي للمعرفة)، ومن وعي نظامها المتقن والدقيق، ليرشدنا إلى كيفية عمل الذهن، وكيف تتوالد عنده المعرفة وما هي البدايات وما هي المآلات في الظاهرة المعرفيّة، وليعيد بهذا الإنتاج (الأسس المنطقية للاستقراء) نظرية الوحدة المعرفيّة التي يرتشف من معينها العلم والدين معاً.

ليست الأهميّة في تجربة السيد الشهيد الصدر لتقف عند حدود التفكير في المنطقيات والمعرفيات، بل الأهمية أيضاً للجرأة المعرفيّة التي دفعت به إلى إنتاج فهم مختلف تماماً عن السياق السائد في الوسط المحيط به، إنّها إرادة المعرفة الثائرة، وليس خنوع التقليد الساكن، ففي ظلّ المذهب الذاتي للمعرفة يفترض إعادة إنتاج الفكر الديني والإنساني، وإذا كان السيد الصدر لم يتسنّ له القيام بكلّ تجليات وتطبيقات مشروعه المعرفي في العلوم المختلفة، فإنّ التحدّي الأكبر لهذه النظرية (المشروع) هو في قدرتها على إحياء العلوم الدينية وغيرها، فالتجربة والاستقراء يعدّان معياراً إضافيّاً لدراسة مديات صواب نظرية السيد الصدر نفسها، وأهمية دراسة هذه النظرية في بعدها النظري لا تزيد عن أهمية دراساتها في بعدها التطبيقي؛ لأنّ كثيراً من النظريّات والمشاريع المعرفية قد تبدو متوازنةً في صورتها النظرية فيما يتمّ اكتشاف مراكز الخلل أو عناصر القوّة في مرحلة التجربة، هذه هي العقلانية النقدية التي نريد أن نمارسها على كلّ تجارب العلماء والمفكّرين من أصحاب المشاريع الكبرى، وهو ما نأمل أن تقوم به المؤسّسات العلميّة والبحثية في العالم العربي والإسلامي.

أقول قولي هذا، ولا يفارقني شيءٌ من الحزن على مآلات هذا المشروع المعرفي الذي تركه لنا العلامة الصدر، فلا الحوزات العلمية ولا الفعاليات الفلسفية فيها، ولا المراكز الجامعيّة والبحثية، بالتي أولت هذا المشروع المعرفي أهميّةً حقيقيّة، بل حتى مدرسة السيد الصدر نفسه هي الأخرى قلّ فيها من ساهم في رفد هذا المشروع بالشرح والتحليل والنقد والتقويم والإضافة والتفصيل، ليكون هذا المشروع في موقعه الصحّي الطبيعي في مسيرة المعرفة الدينية والفكرية عموماً، حيث يتمّ البناء عليه، ثم تجاوزه نحو صياغة أو مشروع أكثر تقدّماً تستدعيه حالة تطوّر المعرفة التي نرجوها دوماً في أوساطنا، وبدل أن يدرس هذا المشروع من قبل المعنيين بالدرس الفلسفي خلال العقود الأربعة الأخيرة دراسة جادّة، تجعلنا نتقدّم خطوة إضافية نحو الإمام، لم يحظ هذا المشروع سوى بالهجران والتغاضي والنسيان، وأحياناً بالريبة والقلق!

لكن رغم هذا الوضع، شهدنا أيادي بيضاء تركت كلّ الموضوعات المكرورة في ثقافتنا الدينية لتتجه نحو معالجة ما قلّت معالجته، ولتنطلق بمنطق سدّ الثغرات، والاشتغال على ما لزم الاشتغال عليه ولكنّه قلّ وندر، ومن هذه الجهود البيضاء ما سطرته يراع أخينا الفاضل الباحث الأستاذ رضا الغرابي حفظه الله تعالى، حيث بذل جهوداً كبيرة في دراسة هذا المشروع، وتحليله، وشرح مضمونه ورسالته، وتفكيك مفاهيمه وأغراضه ومقاصده، وحلّ مغاليقه ومعضلاته، غير مكتفٍ ـ وهو الشيء الأفضل والأهم ـ برصد هذا الكتاب وحده، بل أخذ معه الصيغة المعدّلة للمشروع تأييداً أو نقداً، ليدرس ما كتب في مجاله من قراءات تحليليّة ونقديّة معاصرة، فهو دراسة للمشروع وللقراءات التي دوّنت على هذا المشروع نفسه، وهذا تخطّ جيد وتقدّم متميّز.

إنّني إذ أتوجّه بالشكر الجزيل لأخينا الأستاذ الغرابي رعاه الله، على هذا الجهد الطيّب الذي قام به، أسال الله تعالى له كلّ التوفيق والخير، وأدعو الكتّاب والباحثين لتناول هذه المراكمة الإضافيّة بالبحث والنقد والتحليل، علّنا بذلك نتلمّس تنامياً مطرداً لمسيرة دراستنا الفلسفيّة والمعرفيّة، والله من وراء القصد.

حيدر حبّ الله

19 ـ 4 ـ 1435هـ

19 ـ 2 ـ 2014م

رضا حسن الغرابي

....................

الهوامش

26 – رضا حسن الغرابي، في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ج1، ص15-26.

27 –  السيد كمال الحيدري، المذهب الذاتي في نظرية المعرفة، مؤسسة الإمام الجواد للفكر والثقافة، ص18.

28 –: السيد عمار أبو رغيف، منطق الاستقراء، دار الفقه للطباعة والنشر، مطبعة دفتر انتشارات إسلامي،  ص7-8.

29 – يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، مصدر سابق، ص197.

30 – دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين، مصدر سابق، ص168 – 169.

31 – أقول – وبشكل مختصر -: أننا أثبتنا في هذا الكتاب أن هناك العديد من التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في (ما بعد الأسس المنطقة) وفيما يلي أهمها:

أولا – بينما كان الشهيد الصدر يؤمن في (الأسس المنطقية للاستقراء) بقدرة الاستقراء على إثبات علاقة الضرورة، تحول في (ما بعد الأسس) إلى الإيمان بأن: الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة.

ثانيا – بينما كان الشهيد الصدر يؤمن في (الأسس) بقدرة الاستقراء على إثبات استحالة الصدفة المطلقة، تحول في (ما بعد الأسس) إلى الإيمان بأن: الاستقراء لا  يمكنه البرهنة على استحالة الصدفة المطلقة.

ثالثا – من الطبيعي في ضوء التعديلين السابقين أن نستنتج: أن هناك تغييرا جوهريا قد حصل في طريقة تفسير المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، التي تبناها الشهيد الصدر في (الأسس المنطقية) ؛ لأن هذه الطريقة تستمد مقوماتها من قدرتها على إثبات علاقة الضرورة من خلال تنمية الاحتمال المسبق لهذه العلاقة.

رابعا – بينمــــا كــــان الشهيــد الصدر يتفق مـــع المنطـق الأرسطـــي فـــي أن      (الاتفاق) – الصدفة النسبية – نقطة في مقابل الضرورة، تحول في (ما بعد الأسس) ليتبنى: أن (الاتفاق) نقطة في مقابل التفسير المشترك.

خامسا – بينما كان الشهيد الصدر يعتقد في (الأسس المنطقية) أن الشرط الأساسي لإنتاج الدليل الاستقرائي هو إثبات علاقة الضرورة، تحول في (ما بعد الأسس) ليتبنى: أن الشرط الأساسي لإنتاج الدليل الاستقرائي هو إثبات التفسير المشترك.

سادسا – بينما كان الشهيد الصدر يؤمن في (الأسس المنطقية) بإمكان الاستدلال استقرائيا على القضية الأولية والفطرية، تحول فــــــي (ما بعد الأسس) إلى الإيمان بعدم إمكان ذلك.

سابعا – بينما كان الشهيد الصدر يؤمن في (الأسس المنطقية) بأن الدليل الاستقرائي يمكن أن يكون بديلا عن الدليل الاستنباطي في الاستدلال على القضية النظرية، تحول في (ما بعد الأسس) إلى الإيمان بعدم إمكان ذلك.

ثامنا – في ضوء التعديلات السابقة يكون من الطبيعي أن نجد اختلافا في بعض مواقف الشهيد الصدر من وجهات النظر المختلفة حول الاستقرا . ومن ذلك مثلا: اتساع نطاق الخلاف مع المنطق الأرسطي حول قضية (الاتفاق لا يكون أكثريا) . ومثلا: اتفاق مع (مل) فــــــي (الأسس) وخلاف معه في (ما بعد الأسس).

ما تقدم كان – باختصار – أهم التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في مرحلته الأخيرة . ومن أراد التوسع فليطلع على المقالتين الرابعة والخامسة من هذا الكتاب.

32 –  فيما يلـــــي – وباختصار- بعض الشواهد التي نؤكد من خلالها أن الدراسات التي قدمها  يحيى محمد حول " الأسس المنطقية  "  – وبالذات في كتابه: الاستقراء والمنطق الذاتي – لم تقدم ما يكفي لتشخيص حقيقة التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر:

الشاهد الأول: جاء في ص 5. من كتاب (الاستقراء والمنطق الذاتي) ما نصه: (هكذا استنادا إلى هذا التغاير سوف نعالج مشكلة البناء الاحتمالي للدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية طبقا للمقارنة بين العلاقتين المتغايرتين للسببية، أي علاقة الضرورة وعدمها، حيث سنركز على أهم المشاكل التي تواجه الدليل الاستقرائي حسب مفهوم (الضرورة) للسببية، لكنا سوف لا نفترض – في المقابل -  مفهوم السببية التجريبي بدلالته الخاصة بعملية الاقتران المطرد فحسب، بل نحاول أن نفسرها طبقا لفهم آخر نطلق عليه (علاقة الشد)، فهي أقرب إلى فهم المفكر الصدر كما في كتابه (بحث حول المهدي)).

أقول: لقد تصور يحيى محمد: أن مـا جـــاء عـــن الشهيد الصدر فــي (بحث حول المهدي)، لا يعبر إلا عن تحول الشهيد الصدر من الاعتقاد في قدرة الدليل الاستقرائي علـــــــــــى إثبات السببية بمعنى   (الضرورة) إلى الاعتقاد في قدرة الدليل الاستقرائي على إثبات السببية بمعنى آخر، أطلق عليه (علاقة الشد) كما هو واضح فيما تقدم.

وهذا في الحقيقة تصور بحاجة إلى اعادة نظر، وقد أثبتنا ذلك بشكل مفصل في المقالة الأولى من هذا الكتاب.

الشاهد الثاني: جاء في ص379 من كتاب " الاستقراء والمنطق الذاتي  "  ما نصه: (يمكن القول أن مبدأ السببية مفترض سلفا في تعريف المفكر الصدر للاحتمال، وذلك كما عرفنا أن هذا التعريف قائم على مبدأ عدم التمييز، وهو مستلهم من مبدأ السببية العامة، لكونه يعني عدم جواز ترجيح حالة على غيرها من الحالات ما لم يكن هناك سبب ما للترجيح، وهو الذي يبرر معاملة الحالات بالتساوي، وهو تساوي الاحتمال كما علمنا، وبالتالي فإن مبدأ عدم التمييز، أو مبدأ عدم الترجيح بلا مرجح، هو مبدأ مصادر سلفا في تحديد الاحتمال الذي قامت عليه محاولة إثبات السببية العامة، مع أنه منتزع عنها .

كما سنرى أن علاقة السببية مصادرة مرة أخرى عند محاولة إثبات الوحدة المفهومية التي عدها المفكر الصدر شرطا في إثبات تلك العلاقة، وهكذا يكون الأمر دورا وتسلسلا من غير نتيجة).

أقول: إن عدم التأمل بعمق فــــي موقف الشهيد الصدر في (ما بعد الأسس) – في كتابه: بحث حول المهدي – يؤدي إلى عدم التنبه إلى أن الشهيد الصدر قد تجاوز ما وقع فيه في (الأسس) من دور وتسلسل ؛ باعتبار أن الشهيد الصدر في (ما بعد الأسس) بعودته عن قدرة الاستقراء على إثبات السببية العقلية، وبإيمانه الواضح بالعلم العقلي القبلي بتلك القضايا، وبأن هذا العلم هو المصدر الوحيد لهذه القضايا، يكون من غير المعقول أن لا يستثمر الشهيد الصدر هذا الإيمان، وأن لا يفترض قضايا السببية كمصادرات، ليبرر مواقفه المبنية أصلا على أساس ثبوت هذه القضايا بشكل مسبق .

الشاهد الثالث: جــاء فــــي ص 437 من كتاب الاستقراء والمنطق الذاتي، تحت عنوان (المذهب الذاتي والقضايا الضرورية) ما نصه: (وافق المذهب الذاتي على أن الأوليات والفطريات هي من القضايا التي يصدقها العقل دون حاجة للاستدلال عليها من الخارج . ومع هذا أعتقد أن من الممكن البرهنة عليها بالاستقراء، وذلك خلافا لما اعتقده المنطق الأرسطي . لكنه استثنى من ذلك بعض القضايا كمبدأ عدم التناقض وجميع المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي).

أقول: لو أن المؤلف تأمل بعمق فـــي موقف الشهيد الصدر في (ما بعد الأسس) لأدرك بوضوح: أن الشهيد الصدر سيذهب إلى الاعتقاد بأن الدليل الاستقرائي لا يمكنه الاستدلال على الأوليات والفطريات ؛ لأن قدرة الدليل الاستقرائي على إثبات القضية الأولية تتوقف على قدرته في إثبات علاقة اللزوم والضرورة بين طرفي هذه القضية. ولما كان الدليل الاستقرائي عاجزا عن إثبات مثل هذه العلاقات – علاقات اللزوم والضرورة – فمن الطبيعي أن يكون عاجزا عن الاستدلال على الأوليات والفطريات، وكون الدليل الاستقرائي قادر على إثبات وجود تفسير مشترك بين طرفي القضية الأولية، لا يكفي ليكون هذا الدليل قادرا على الاستدلال أن هذه القضية أولية، لأن هذا التفسير كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط أحد أطراف هذه القضية بالطرف الآخر باستمرار.

فالقضية (الكل أكبر من الجزء)، يمكن للدليل الاستقرائي أن يدل على وجود تفسير مشترك بين طرفيها: (الكل) و (أعظم من الجزء) ولكن هذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون أن يربط باستمرار بين طرفي هذه القضية، وهذا يعني أن الدليل الاستقرائي وبالرغم من قدرته على إثبات وجود تفسير مشترك بين طرفي القضية (الكل أكبر من الجزء)، إلا أنه عاجز عن إثبات أولية هذه القضية ؛ لأن شرط إثبات أولية هذه القضية هو إثبات فرضية الضرورة الذاتية بين طرفيها، والدليل الاستقرائي عاجز عن منح  هذا الشرط لهذه القضية .

33 – نحن لم نطلع شخصيا على مثل تلك الأشرطة، ولكننا افترضنا وجودهـا استنادا إلى ما قاله السيد عمار أبو رغيف، حيث قال في مقدمة كتابه " منطق الاستقراء  " : (وفي الخطوات الأولى لهذه البداية حاولت أن أطلع على الجاد مما قيل حول كتاب الأسس المنطقية للاستقراء محور درسنا، ومنطلق بدايتنا. فوجدت الميدان جدبا إلا من غرسين: أحدهما: شرح تعليمي ...، والآخر: عرض نقدي باللغة الفارسية، حرره الدكتور عبد الكريم سروش).

34 – يحيى محمد، الاستقراء والمنطق الذاتي، الانتشــار العربي، ص 15.

35 – السيد عمار أبو رغيف، منطق الاستقراء،مصدر سابق، ص6.

36 – السيد عمار أبو رغيف، الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، مصدر سابق، ص16.

37 – مما يدل على إدراك الدكتور عبد الكريم سروش لروح التجديد والتجدد عند الشهيد الصدر ما كتبه فـــي التالي: (إمكان الاستدلال الاستقرائي على عالم الخارج وعلـــى قانون العلية وأمثال ذلك، الذي طرح في الأسس المنطقية للاستقراء، يوضح حجم الفاصلة الكبيرة التي تفصل الشهيد الصدر عن كتابه السابق (فلسفتنا)، فالمؤلف في فلسفتنا فيلسوف عقلي أرسطي عكف على تنظيم البحث فقط، وسعى إلى إدانة المدارس الفكرية المناهضة بقوة البرهان والنقد المنطقي . أما في الأسس المنطقية للاستقراء فهو فيلسوف مبدع وصاحب مدرسة، فقد سعى قبل هدم نظريات الآخرين إلى بناء مدرسته . ويبدو أن السنوات العشر التي فصلت بين كتابة الكتابين فاصلة مباركة وقفزة فكرية بالنسبة للشهيد الصدر). لاحظ: الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، ص 63.

38 – السيد عمار أبو رغيف، منطق الاستقراء، مصر سابق، انظر المقدمة.

39 – السيد كمال الحيدري، نظرية المعرفة في المذهب الذاتي، مصدر سابق، انظر المقدمة.

40 – السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، قم، كلمة المؤتمر، ص12-13.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم