صحيفة المثقف

لوك فيري.. نحو مبدأ جديد للأخلاق والمعنى (3)

الجواب الثالث: المبدأ الإنسانوي (الانسانوية الأولى) الخلاص بالتاريخ والتقدم

المصالحة بين أنسنة الخلاص واستقلالية العقل هو التحدي الذي ستخوضه الحقبة الثالثة (بدءا من عصر النهضة)، حيث ستقوم هذه الأخيرة بتأسيس معنى الوجود، ليس على الكوسموس أو الألوهية بعد، وإنما على الانسان بما هو انسان، على عقله وحريته، على الاقتناع أنه بفضل قواه الذهنية وحدها، يستطيع، بل ينبغي أن يصبح صانع مصيره الخاص. فلأول مرة سوف لا يستقي الخلاص مصدره ولا غايته القصوى من كينونة خارجة عن الإنسانية ومتعالية عليها، بل من الانسان ذاته.

هذه الأفكار بدأت في القرن الخامس عشر مع مفكرين كبار ذوي شأن مثل " بيك دي لاميرندول " فبعد أن فتحت المسيحية أفقا فيسحا لإثبات استقلالية الأفراد (قيمتهم الذاتية المستقلة عن أشكال التراتب الاجتماعية الارستقراطية)، وبعد أن قبلت استدماج عناصر عديدة من فلسفة أرسطو، لم يبق سوى خطوة واحدة للاستقلال عن كل مرجعية دينية وللانقلاب نحو الحقبة التي نحن بصددها الآن. إنّ الفكرة الأساسية التي تحدو هذه الحقبة، منذ تعبيراتها الأولى عند " لاميرندول " هي التالية: لا وجود لطبيعة إنسانية، ولا لأي نظام طبيعي، يكون الانسان ملزما بالامتثال لهما، بوسع الانسان أن يتخلص من الطبيعة لأنّه حر، ولأنّه حر فله حقوق وله تاريخ، بمعنى آخر لأن الانسان لا شيء (مما تحدده الطبيعة)، يستطيع أن يصبح كل شيء (أن يبني شتى ضروب التاريخ والمصير المختلفة). إنّ خصوصية الانسان وعظمته تتأتيان من أنه يتنزل ليس في وسط الطبيعة – كما هو المقبول فيما قبل " لاميرندول" – بل بكل بساطة خارج العالم، بمعنى أنّ له القوة على تغيير الاكراهات الطبيعية بفعل إرادته الحرة، وبالتالي على التموقع تقريبا خارج الطبيعة (إن " لاميرندول " يحدث بذلك ثورة حقيقة في الفكر، بقطيعة أساسية مع العالم القديم). وبما أنّ الانسان يصنع مساره الخاص في الوجود، فسوف يستطيع أن يكون طيبا أو قبيحا، وأن يختار الخير أو الشر ... وهكذا، فإنّ رؤية أخلاقية جديدة للعالم، إتيقا خاصة بحرية الاختيار ترتسم، كما نرى، في أفق هذا التعريف الجديد للانسان.

مع ديكارت سيُعطى في القرن السابع عشر لهذه الرؤية للعالم أساسا أوليا صلبا. وبذلك سيخطو بالفلسفة خطوة حاسمة على طريق أنسنة الأجوبة عن معنى الحياة. يرى ديكارت أننا مهما شككنا، سنمسك أخيرا بفكرة تفلت من الشك (يسميها بداهة)، سيكون بوسعنا انطلاقا منها إعادة بناء صرح العلم والفلسفة برمته. إن الهدف من عملية الشك الديكارتية يكمن في البحث في صميم التجربة الانسانية – مهما تكن ناقصة ومحدودة – عن عنصر حقيقة مطلقة على أساسه سيكون بالإمكان إعادة بناء رؤية موضوعية للعالم بوسائلنا الخاصة. إنّ المسألة تدور هنا حول استبعاد كل حجج السلطة بواسطة الممارسة الحرة للروح النقدي، أي رفض الخضوع بلا تمحيص للأفكار الجاهزة المتقبلة من الخارج، وذلك على اعتبار مقتضى أساسي، وهو أن نفكر بأنفسنا. على هذا النحو يحرر ديكارت البشرية من الالزام الصعب التجنب إلى ذلك الحين بالبحث عن مصدر معنى حياتها خارج ذاتها، سواء في النظام الكوني أو في روعة الآلهة. وأخيرا بوسع البشر، كما يقول صراحة، أن يصبحوا " وكأنهم أسياد الطبيعة ومالكوها ".

يمثّل " كانط " التحقق الفلسفي الأكثر اكتمالا للمبدأ الانسانوي؛ فأعماله تغطي المسائل الأساسية في الفلسفة برمتها (نظرية في المعرفة، في الأخلاق، وفي مذهب الخلاص) محدثة في نفس الوقت قطيعة مطلقة ونهائية مع الكسمولوجيات القديمة. يبيّن " كانط " : إذا كان الكون، كما تؤكد ذلك " فيزياء نيوتن " لم يعد سوى فوضى بلا قيمة (إنّه محايد من الناحية القيمية)، حقل من القوى تنتظم بالتأكيد، لكن في نطاق الصدمات، دون تناغم ولا دلالة من أي نوع، فمن الوضح أنّ المعرفة لم تعد تأخذ شكل تأمل خالص. وبالتالي سوف يكون من اللازم صياغة نظرية أخرى في نظرية المعرفة والحقيقة. إنّ الانسان ذاته، وفي هذه الحالة العالِم، هو الذي سيضطر من الآن إلى إدخال بعض النظام في عالم يكاد لا يقدم بعدُ للوهلة الأولى أيّ نظام. من هنا جاءت المهمة الرائعة الجديدة بحق، التي يضطلع بها العلم الحديث ولا تقوم في التأمل، وإنّما في عمل وصياغة نشيطة وبناء تنصب كلها على قوانين تسمح بإعطاء معنى لكون خال بعدُ من السحر. وعلى سبيل المثال، سيحاول العالِم "المحدّث "، مستعينا بمبدأ السبيية إقامة علاقات منطقية، روابط ما بين أسباب ومسببات (بين ظواهر معينة يعتبرها مسبَّبات وأخرى معينة يتوصل إلى أن يكتشف فيها أسبابا بفضل المنهج التجريبي). لذا يتسأءل نقد العقل المحض عن قدرتنا على صنع " توليفات "، " أحكام توليفية "، أي بالمعنى الاشتقاقي للكلمة " روابط "، وبالتالي قوانين علمية تقيم صلات متماسكة ومضيئة بين ظواهر لم يعد تنظيمها معطى، بل هو مبني.

في ضوء ذلك سيكون من تحصيل الحاصل أن تتغير المسألة الخلقية؛ إذ لم يعد أيّ نموذج طبيعي قادرا من الآن على الإجابة عن المسألة الكلاسيكية: " ماذا يجب علي أن أفعل "؟ فكيف لنا أن نحاكي نظام الكون إذا كان هذا النظام بكل بساطة غير موجود؟ إنّ الطبيعة لا تبدو البتة طيبة في حد ذاتها، ليس هذا فحسب بل في أغلب الأحيان يبدو حتى أنّنا نضطر إلى التصدي لها والصراع ضدها لنيل بعض الخير أيا كان. أما الأمور في داخلنا فقد تكون أسوأ بكثير: إن أنصّتُّ إلى " ميولي الطبيعية "، فالأنانية أكثر غريزية لا تفتأ تتكلم فيّ بقوة وتأمرني باتباع مصالحي الخاصة على حساب مصالح الآخرين. كيف إذن أستطيع للحظة أن أتخيل أنّي أتوصل إلى الخير المشترك والمصلحة العامة، إذا كنت أكتفي بالانصات إلى تلك الميول فحسب؟ الحقيقة: إنّه مع هذه الميول بوسع الآخرين الانتظار على الدوام ! ومن ثم تطرح مسألة الأتيقا المصيرية في كون حديث قبل بموت الكسمولوجيات القديمة: في أيّ كينونة يمكن تكريس نظام جديد، كوسموس مكرّر إن شئنا، يكون في ذات الوقت ضد الطبيعة ولاعلاقة له بالدين؟ يجيب المبدأ الانسانوي بما يمثل تأسيسا له سواء في المستوى الخلقي أو في الدائرتين السياسية والحقوقية: على إرادة البشر وحدها، شريطة أن يقبلوا بوضع حدود لأنفسهم إدراكا منهم بأنّ حريتهم لا بد أحيانا أن تقف حيث تبدأ حرية الغير. هذا الكوسموس الجديد، وهذه " الطبيعة الثانية " سيطلق عليهما " كانط " عبارة " ملكوت الغايات " (أي عالم مبني قدر المستطاع بأفعال الأفراد الحرة وغير النفعية ومن أجلها). إنّ مبدأه الأعلى هو احترام الآخرين الذي يمثل الشيء الأقل طبيعة في العالم ويفترض جهدا منصبا على الذات، إرادة تفلت من الميول القائمة على الأنانية. ومن هنا نجد أنّ القانون الأخلاقي يفرض نفسه في شكل أمر وواجب؛ إذ هو على وجه التحديد ليس بالقانون الطبيعي، ولا تحصيل حاصل، بل يفترض بذل مجهودات و" طيب الارادة " أو بتعبير أفضل " الارادة الطيبة ". إذن: مثلما أنّ المعرفة لم تعد نظرية، أي تأملا، أي أصبحت عملا يتمثل في "التوليف " والربط، فإنّ هذا الكوسموس الإيتيقي الجديد هو أيضا كون أخلاقي " اصطناعي "، مبني بناءا تاما، عالم يوجد فيه الانسان بعيدا عن أن يكون قطعة صغيرة جدا لا قيمة لها من كل يحويها من جميع الجوانب، وعن أن يكون كائنا يمكن " استخدامه أداة " بحكم ما يتطلبه الكل الكبير، فيصبح الانسان " غاية في ذاتها "، مبتدأ ومنتهى كل قيمة وكل كرامة أخلاقيتين. وباختصار، يتعلق الأمر بكون لم يعد معطى تماما من قبل الطبيعة، بل هو على العكس يُصنع بإرادة الكائنات البشرية، ومن أجلها (أي الارادة).

من الواضح – بحسب ما تقدم –: إنّ الخلاص لم يعد بالإمكان أن يقوم في الذوبان في العالم بعد أن تشظى النظام الكوني، ومن ناحية أخرى بالنسبة لمن عدلوا عن الإيمان لا ينبغي أيضا البحث عن أجوبة من جهة الدين. كيف إذن سيصبح مذهب الخلاص في ظل الفلسفة الجديدة؟

في أفق هذه الفلسفة الجديدة، ترتسم سمتان ستميزان الحياة الطيبة من منظور الانسانوية الحديثة:

الأولى: تُعلي من شأن المعارف والثقافة والتربية التي تمدّن وتؤنسن لتجعلنا نرتقي إلى ما يسميه كانط بـ " الفكر المتسع ". يملك " كانط " تصورا للتأمل يسمح له بطرح مسألة معنى الوجود الانساني في صياغة جديدة. يكمن التأمل في أصل ما يسميه " الفكر المتسع " في تعارض مع " الذهن القصير النظر ". ذلك أن " الفكر المتسع " هو بالذات الفكر الذي يتوصل بفضل التأمل إلى الإفلات من وضعه الأصلي الخاص ليرتقي إلى فهم الغير. ولإعطاء مثال بسيط يمكن القول: حين أتعلم لغة أجنبية، لا بد من أن أبتعد عن ذاتي – عن الشرط الأصلي الخاص الذي يلازمني، وهو في هذه الحالة الفرنسية – للدخول في دائرة أكثر اتساعا وكونية، حيث تحيا ثقافة مغايرة ومجموعة بشرية أخرى. فحين أفلت من خاصياتي البدئية أدخل في مزيد من الإنسانية. وبتعلم لغة أخرى أرتقي نوعا ما من الخاص إلى العام، بمعنى أنّه ليس بوسعي التواصل مع عدد أكبر من الكائنات البشرية فحسب، بل أكتشف أيضا عبر اللغة مفاهيم أخرى وأشكالا أخرى من العلاقة بالغير وبالعالم. وعلى هذا النحو أوسّع الأفق وأدفع الحدود الطبيعية التي يوجد عليها الذهن المشدود إلى جماعته. إذا تجاوزنا المثل الخاص باللغة، فإنّ المقصود هنا هو كل معنى التجربة الإنسانية. فإذا كان فعلا المعرفة والحب ليسا سوى شيء واحد، كما يريد ذلك الكتاب المقدس، فإنّي أدخل زيادة على ذلك في بعد من أبعاد الوجود الإنساني يكون – بمعنى لاهوتي يمكن وصفه بالمعلمن – مبررا لهذا الوجود ويعطيه معنى بحق، أي في آن واحد دلالة واتجاها. وبمعنى آخر: إذا كان الحب والمعرفة يشكلان وحدة، فإنّك تدخل لدى توسيع أفقك ولدى تثقفك في بعد من الوجود البشري " يبرر " هذا الوجود ويعطيه معنى، أي في ذات الوقت مغذىً وتوجهاً. إنّ هذه الفكرة حتى لو كانت لا تنقذنا من الموت، فإنّها على الأقل تعطي معنى لمواجهته. إذن إلى جانب التجربة المسيحية – التي يواصل " كانط " تبنيها – تحملنا أيضا فلسفته شيئا فشيئا إلى إجابة ذات نفس لائكي، وبهذا تقودنا إلى عتبة الفكر المعاصر.

أما السمة الثانية، فتتمثل في اقتناع المرء بأنه أوجد تبريرا لحياته، وأنقذها تقريبا حين قدم بفضل عبقريته الأدبية والفنية أو عظمة فعله أيضا إسهامه في التاريخ ولبنته الصغيرة في تشييد صرح التقدم وبناء مستقبل أفضل إلى كل الكائنات البشرية. سيُرسم اسم هذا العبقري، جزاءا لما قدمه على الرخام أو على يافطات الشوارع، وقد يقام له تمثال أو ... الخ. وهنا مجددا، نجد العلاقة بالموت، وفكرة أن إسهاما متميزا في مسيرة البشرية نحو مستقبل أفضل وأفضل حرية وعدلا وعلما، يعطي صاحبه بعدا من أبعاد الخلود. وكأننا أذ نرسم اسمه في التاريخ والمكتبات والمعالم، نشترك في اللانهاية. هذا الخلود يبدو في العالم الانسانوي واللائكي، والملحد إن اقتضى الأمر، بديلا عن الخلاص المسيحي، حتى لا نقول عوضا لا يضاهيه في القيمة. وهذا هو السبب في أنّ الانسانوية ستدخلنا شيئا فشيئا في عهد " أديان الخلاص الدنيوي " الكبرى التي ستمثل الماركسية أوجها بلا منازع.

يبدو المثل الأعلى للخلود في المبدأ الانسانوي هشا، فإذا كان أفضل ما يمكن أن يأمله الفرد هو أن يكون إحدى الآليات التي لا تحصى في تقدم البشرية العام، فلا بد من الإقرار بأن نصيب حياتنا المؤهل للنجاة من الموت ضئيل وتافه إلى حد ما (إذ لن يبقى منا في أحسن الحالات إلا اسم مع ذكرى أعمالنا). خلافا لكل انتظار يقع المبدأ الانسانوي هكذا في صعوبة شبيهة بتلك التي يثيرها ذوبان الفرد في النظام الكوني لدى الفلاسفة اليونانيين (مثلما إن البشر في الكوسمولوجيا اليونانية لم ينجو إلا بصفتهم قطعا كونية، كذلك لا ينجو المرء في منظور الانسانوية الحديثة إلا باعتباره قطعة من تاريخ التقدم، ومجرد اسم منحوت على الرخام). وهذا مجددا غير مرض تماما إذا ما قارناه بالوعد المسيحي بخلاص المرء كشخص محبوب سيلتقي ثانية بأشخاص يحبهم. ذاك ما يفسر من جانب آخر ، لماذا لن تقدر الانسانوية الحديثة على طرد المسيحية من المشهد الأوربي.

إنّ المبدأ الانسانوي لا يعاني فقط من هشاشة المثل الأعلى للخلود، بل أنه يعاني أيضا عوزا ورؤية ضيقة لما هو إنساني تهمش جوانب كاملة من الوجود. وهي تفعل ذلك بصفة واعية؛ لأن الأمر يتعلق بالتركيز على سمات الانسان الأكثر تجريدا وكونية، وعلى الاستعدادات للحرية والعقل الكامنة في كل شخص والتي سيسمح لنا نموها بتأمين سيادة متزايدة على مصيرنا. ولا يمنع ذلك كون الانساني الذي نحيطه بهالة من المثالية هو نوعا ما غير مكتمل. فماذا نصنع آنذاك بهذا النصيب من الانسانية المتعين الملتحم بالجسم الذي تركه المبدأ الانسانوي، تقريبا، على حدود معنى الحياة. إنّ هذا السؤال النقدي يدخلنا في الحقبة الرابعة من تاريخ الفلسفة، حقبة  " التفكيك ". (46)

الجواب الرابع: مبدأ التفكيك

إنّ " نيتشة " يبيّن بصورة جلية مصادر ودواعي وحركية " حقبة التفكيك " في نصوص تظل أساسية لفهم الخيط الناظم لهذا التاريخ. " نيتشة " بالفعل هو من ابتكر فكرة التفكيك قبل " هيدغر " و " دريدا " بكثير. إنّه يريد على حد قوله أن " يتفلسف بالمطرقة " لتحطيم " الأوثان "، أي المثل العليا التي تحملها الأديان والميتافيزيقا الكلاسيكية، ولكن تحملها أيضا الأيديولوجيات " التقدمية " التي تدعي باسم العقل والاخلاق والتاريخ إخضاع الحياة لـ " قيم مثالية عليا " مزعومة – الشيوعية، الديمقراطية، حقوق الانسان، العدالة الاجتماعية، الخ. إنّ الأمر يتعلق بفتح السبيل لشكل مغاير تماما من المقاربة النقدية سوف يكون بوسعنا انطلاقا منه الكشف عن الحوافز الخفية لدى " المثاليين " من كل الآفاق: يكفي آنذاك أن نخلع قناعهم المتلبس بحكمة مزيفة لرفع المشروعية عن استدلالاتهم الأكثر صلابة في الظاهر، وذلك ببيان نواياهم المستترة. مع هذه الفلسفة المتوسلة بالمطرقة لا تتعلق المسألة بمناقشة صلاحية استنتاجات خصومها، بل بتحطيم هذه الاستنتاجات من الأصل والكشف عما تعبر عنه من تلاعب مزدوج ومتفاوت من حيث الوعي، وذلك من خلال نسف الأوهام التي تشكلها تلك الاستنتاجات وكأنّها على حد سواء ضروب من البهرج الكاذب. يقدّم " نيتشة " نفسه على أنّه في آن واحد وريث للأنوار وخصم لها، أو بتعبير أفضل على أنّه خصم لها لأنّه وريثها: إنّه ينتسب إلى هذا الروح النقدي الذي أخذه الموسوعيون من " ديكارت "، ولكنه يريد أن يدفعه حتى نتائجه القصوى، الأمر الذي يجعله يدير الروح النقدي ضد الأنوار ذاتها، المذنبة في أنّها توقفت في الطريق أثناء صراعها ضد الأوهام الميتافيزيقية؛ إذ لم تستطع الكشف عنها في الأوثان الجديدة التي أنشأتها الانسانوية. فيرى " نيتشة " في الاعتقاد في التقدم وفي فضائل العلم والديمقراطية وحقوق الانسان نفس القدر من السمات الدالة على دين بوسعه أن يكون دين خلاص دنيوي، ولكنه مع ذلك يظل دينا: إنّ تلك المثل شأنها في ذلك شأن المثل في كل دين، تزعم تبرير التضحية من أجلها وإدانة كل من يرفض الخضوع لها وتبرير فرضها على الجميع بصفتها المصدر المشروع الوحيد للمعنى بالنسبة للوجود الانساني. وباختصار: يُفترض أن تلك المثل تشكل حقيقة تعلو على الحياة، وأنّه لا بد للحياة أن تطمح إلى بلوغها، ولو أدى الأمر إلى أن تقمع في ذاتها كل ما يكون غير صالح للمشروع. إنّ هذا النفي للحياة باسم قيم يُفترض أنّها تتجاوز الحياة، هو بالضبط ما يحكم " نيتشة " بأنّه وهمي وخطر وشاذ: فهو وهمي؛ إذ يستحيل علينا في واقع الأمر ونحن في الحياة أن نحكم بشأنها " من الخارج "، وهو خطر؛ لأنّه يؤدي إلى إضعافنا، إلى إخماد قوانا الحية، وهو شاذ؛ لأن هذا الكبت لغرائزنا يحملنا على إعادة إيجادها خفية لإشباعها من خلال المظاهر الخادعة التي تبدو عليها أكثر الأخلاقيات نبلا. صحيح أنّ تقدم الأنوار والثورة الصناعية سيعلنان عن موت الاله وعلمنة المجتمعات الحديثة، وعن خيبة الأمل في العالم. ومع ذلك يكون من السذاجة تماما في رأي " نيتشة " أن نتصور أنّنا نكون قد أنهينا الأمر مع المثل التي تنفي العالم الواقعي؛ لأنه بعد الكوسموس وبعد الاله يتم إيجاد إنسان الانسانوية، بما هو سيد نفسه كما هو سيد الكون. إنّ إضفاء طابع مثالي على التاريخ، على الأقل بالنسبة إلى من يضيفون لبنتهم الصغيرة إلى صرح التقدم، يحل في رأي " نيتشة " محل الأديان التقليدية ويخلق من جديد توهّم معنى للحياة ومثل أعلى يتفانى في خدمته، وقضايا كبرى يضحي من أجلها. وهكذا عوّض الانسان الاله والكوسموس، ولكنه مع ذلك ظل مشدودا إلى المثل العليا. فبعد قتل الاله سيكون من الواجب قتل إنسان الانسانوية، ذلك الانسان المثالي في الأنوار، الخالي من اللاشعور، المغترّ بتوهم أنّه شفاف تماما مع نفسه. ذات مطلقة، موحدة، قادرة على أن تخضع لإرادتها الواعية الدوافع المتناقضة والقوى الحيوية أو الاجتماعية، بينما هو في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون نتاجها اللاإرادي بقدر كبير.

إنّ أعمق قيمة في الحياة، " ما وراء الخير والشر " هي قوّتها. لذلك تسعى فلسفة " نيتشة " كلها إلى هدف أقصى: وهو البحث عن توافق متناغم بين القوى الحيوية فينا، توافق لا بد أن يسمح لها بأن تنمو بأكثر ما يمكن من الفعالية، دون قمع بعضها أو تشويهه لمنح الأحقية للبعض الآخر. ذاك نموذج الفنان العبقري الذي تحمل أعماله بأعلى درجة من الثراء والقوة كل الموارد الكامنة فيه في توازن خاص به يفرض نفسه مباشرة دون التواء ولا برهان. من هذا المنظور سيقدم " نيتشة " من خلال مفارقة نادرة جوابا جديدا عن مسألة معنى الحياة ، بينما كان قد فند على وجه التحديد كل ادعاء لرسم مَثَل متعال. فحالما تُحطّم الأوثان، لن تبقى أي وجهة نظر مطلقة، خارجة عن الواقع أو متعالية عليه، يمكن انطلاقا منها الحكم بشأن القوى الحيوية وترتيبها هرميا. وعندئذ يمر الجواب عن مسألة الحياة الطيبة من خلال هذا الاهتمام غير الخارج هذه المرة عن المحايثة التي تظل مرسومة في مجال الحياة دون ادعاء لخلق أي قيمة تعلو عليها (أي الحياة) لإصدار أي حكم بشأنها وتشويهها. إنّ الأصل في هذا الفهم الجديد للحياة الطيبة يستقي قوته من خاصية اللذة، التي يلخصها " نيتشة " في العبارة الجميلة التالية: " كل لذة تطلب الأبدية ". فعندما نعرف لحظات قوة وحرية قصوى، عندما يكون المرء محبا إلى حد الجنون على أساس حب متبادل، أو حين يتوصل إلى إبداع عمل يكشف لنا عن جانب مجهول من العالم أو من التجربة الإنسانية، فإنّه يحس ما يسميه " نيتشة ": " خفة الراقص "، يحس شعورا بالتصالح مع الواقع يبلغ من القوة ما يجعله لا يتمالك عن رجاء استمرار تلك اللحظات إلى الأبد. إنّها لحظات توافق كامل مع الحاضر الذي يقيم فيه المرء آنذاك بلا احتراز ودون التفكير في الماضي ولا في المستقبل، بحيث لم تعد اللحظة الراهنة نسبية بالنظر إلى الذكريات والمشاريع، بل تصبح وكأنّها بذرة من الأبدية. ذاك هو العود الأبدي. وهنا ننجو من الحيرة أمام الموت، ونلامس الأبدية، وتزول الحيرة في تلك اللحظات من التصالح مع الحاضر. تلك هي رسالة " نيتشة " التي نقطع بها مرحلة جديدة في تاريخنا. إذ يقترح " نيتشة " من هنا فصاعدا سبيلا يمكّن من انبعاث شروط الحياة الطيبة في صلب الوجود الدنيوي بالذات. ها هي إذن القيم الخارجة عن الإنسانية والمتعالية عليها، وقد ألغيت نهائيا: ذاك هو عين المبدأ في فلسفات التفكيك، التي ستكون معادية لكل أشكال التعالي الماضية، سواء كانت كونية أو إلهية، أو حتى إن بقيت إنسانية. والتي ستحرّر أبعاد الوجود الإنساني التي حجبتها الإكراهات المثالية: ذلك أنّ الدوافع واللاشعور واللامعقول ستُعتبر عن وعي ومن بين أبعاد أخرى موضوع اكتشاف وتثمين. سيتم التكفل أخيرا بهذه " المواد البشرية " في كل تنوعها الذي سيسهم في تحديد الحياة الطيبة بما هي حياة قوية وحرة. فنكون في آن واحد قد تغلبنا على المبادئ المتعالية التي كانت تحدّد تقليديا معنى الحياة، وغرسنا مسألة المعنى هذه في كائن بشري أكثر التحاما بالجسد مما كان عليه يوما في ما مضى.

لقد تمكّن " نيتشة " بعد أن قام بتفكيك جذري لفكرة الحقيقة الموضوعية وللمبادئ الأخلاقية والمثل العليا من عرض فلسفة كاملة. فقد اكتشف " نيتشة " – انطلاقا من تفلسفه بالمطرقة وتفكيكه للمثل – سبيلا غير مسبوق لبناء فكر في المحاور الثلاثة المكونة لكل فلسفة كبرى (نظرية في المعرفة، وإتيقا ومذهبا في الخلاص).

فيما يخص نظرية المعرفة، كانت نظريته، هي بالتأكيد لا نظرية. إنّ لا نظرية المعرفة هذه التي تكوّن المسعى الجينالوجي، تكتسي وجهين: من جهة تقوم بنقد جذري لكل يقينياتنا، ناسفة على سبيل المثال القناعة بأنّ وعينا شفاف مع ذاته، وأنّ حقائق العلم الموضوعية تستحق أن نخضع لها لأنها فوق الأهواء الإنسانية، وبأنّ قيمنا الأخلاقية لا بد أن تفرض نفسها علينا لأنها كونية. ومن جهة أخرى تفتح (لا نظرية المعرفة) بعدا جديدا في المعرفة، يتمثل في سبر أعماق تمثلاتنا على نحو ما، لاكتشاف حوافزها الدفينة المرتبطة بدوافعنا واستراتيجياتنا اللاواعية المُعدّة لتبرير علاقتنا الحذرة بالحياة. لم يعد لجوهر الحقيقة والجوهر الأكثر حميمية للإنسان، بالنسبة لـ " نيتشة "، أي شيء كوني أو إلهي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تندرج نظرية المعرفة ضمن أصناف الرؤية. إنّها ليست تأملا أو مشهدا سلبيا كما كانت عند القدماء. وهي ليست محاولة لإيجاد روابط بين الأشياء بهدف إيجاد شكل جديد لنظام ولمعنى ، كما عند المحدثين. إنّها، على العكس، " تفكيك " سماه " نيتشة ": " علم الأنساب ".

أما فيما يخص الإتيقا: الكل يعرف، دون أن يكون قارئا جيدا لأعماله، أنّ " نيتشة " عرّف نفسه بـ " اللا أخلاقي " بامتياز، وأنّه لم يتوقف عن مهاجمة المحبة والعطف والغيرية بكل أشكالها، مسيحية كانت أم لا، وأنّه كان يحتقر فكرة " المثال "، وينتمي إلى أولئك الذين لا يهدأ غضبهم أمام الصيغ الأولى للعمل الخيري الحديث التي لا يرى فيها إلا أثرا معتلا للمسيحية، بل أنّه كان يستسيغ الكوارث. أليس ادعاء الكلام عن " أخلاق نيتشة " أمرا شاذا؟ وفي النهاية، ما الذي يستطيع أن يقدمه في هذا المجال؟ إنّ " نيتشة " يستبدل الأخلاق التقليدية بـ " لا أخلاق " بأخلاق " اللاأخلاقي "، وإذ يعلم هذا الأخير أنّه لا وجود لقيم كونية، نجده يسعى إلى تحقيق تناغم بين القوى الكامنة فيه ليبلغ على شاكلة الفنان شدّة قصوى في الحياة. إنّ جواب " نيتشة " على الصعيد الإيتيقي – (إذا ما استبعدنا نهائيا تأويل من يقدّمون لنا نيتشة على أنّه فوضوي، من أنصار مذهب اللذة، منظّر قبل الأوان لتحرّر الأجسام والجنس والحواس، ونظرنا إلى جوابه بالمعنى الأوسع للكلمة، بما أنّ الأمر يتعلق بالنسبة إليه بتحديد ما يمكن أن يجعل الحياة أفضل دون السقوط في أوهام المثل الأعلى أو القيم المتعالية) – إنّ هذا الجواب يقف على النقيض من الانسياق الجامح وراء تجاذب الأهواء. نموذجه الكبير هو ما يقدّمه الفن الكلاسيكي اليوناني، وحتى الفرنسي في ثناياه: تراتب القوى فينا، إن اقتضى الأمر تحت إشراف العقل الواضح. فبالتحكم في القوى وإيجاد تراتب بينها وبتنظيمها في داخلنا بحيث لا تقوّض ولا تشوّه بعضها البعض ولا تتناحر فيما بينها، سوف نحصل على أقصى حد من القوة، وبالتالي أعلى درجة من البهجة والشدّة، ونحس بحق إنّنا نحيا. وهذا ما يسميه " نيتشة " الاسلوب الكبير "، وهو أخلاق أو " لا أخلاق " قائمة على " التحكم في الذات " والعظمة و " الانتصار على العدو الداخلي ".

أما بالنسبة لمذهبه في الخلاص: يتخذ " نيتشة " مجددا عكس أشكال الحكمة الدينية والميتافيزيقية أو الإنسانية التقليدية (التي بلا استناء تحط في نظره من قيمة الحياة في محايثتها) ليفضل عليها حكمة مغايرة تماما: وهي حكمة " العود الأبدي "، حكمة حريصة على تمجيد قوة الحياة في الحاضر، كما هو واضح مما تقدم.

يمكن أن يقال عن فلسفة " نيتشة " ما كنا قلناه عن الفكر المسيحي، أي أنّها تمثل في ذات الوقت تقدما وتراجعا. فإذا نظرنا من زاوية المنطق الذي يحكم أنسنة مبادئ المعنى (وهو منطق يفترض في آن واحد تفكيكا للتعالي واعتبارا لأبعاد جديدة من الوجود الإنساني)، فإنّ الفلسفة الماسكة بالمطرقة لدى نيتشة تشكل تقدما ذا أهمية حقيقية وذا أفق يجعل من المحال أي رجوع إلى الوراء. غير أنّ ذلك يثير مشكلتين أساسيتين: فمن جهة يؤدي تفكيك الأخلاق بـ " نيتشة " إلى تقريظ الحرب ونقد الشفقة وما يمكن تسميته اليوم بـ " الاهتمام الإنساني "، ومن جهة أخرى إنّ نقده للحقيقة ينتهي بنا إلى نسبوية مطلقة يصبح تجذرها أمرا لا يطاق. فحين يُعلن أن  " لا وجود لوقائع بل ثمة مجرد تأويلات ". كيف نتبع هذا الرأي أمام الترهات التحريفية مثلا؟ إنّ الذين ينتسبون إلى فكره مضطرون بلا انقطاع إلى استعمال خطاب مزدوج، إذ يتم التسليم بوقائع يقينية تماما، مع الادعاء التام بأنّ الحقيقة المطلقة مجرد وهم، ويقع إصدار أحكام أخلاقية بشأن الناس جميعا وفيما يخص الجار، مع التصريح للتو بأنّ كل أخلاق عدمية، الخ. وباختصار يتم التلاعب على جميع الأصعدة، مما يثير الحنق في بعض الأحيان. (47)

 

رضا حسن الغرابي

........................

الهوامش

46 - لوك فيري، تعلّم الحياة، مصدر سابق، ص222-223. وانظر أيضا: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، مصدر سابق، ص38-46، ص149-161، ص204 – 210.

47 – لوك فيري، تعلّم الحياة، مصدر سابق، ص238، ص263. وانظر أيضا: أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، مصدر سابق، ص46-56، ص285-302.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم