صحيفة المثقف

بخور (رَتن)

sardar mohamadدلفتُ متردداً باب أحد معاهد الفنون في الهند.

مرتبكاً أقدم رجلاً وأؤخّرأخرى،

ظننت أن الأنظار تتركز عليّ وتلاحقني .

مَن الغريب هذا؟ أبهذا العمر يعود تلميذاً؟

سرعان ما طردت من بالي هذه الأفكار لاسيما برؤيتي عدداً من الدارسين من هم بعمرأولادي .

بادرت إحدى الطالبات للترحيب بي .

الحق أني لقيت ترحيباً كبيراً عندما شرعت بالدراسة، وعرفت مجموعة من الطالبات اللواتي تناهزأعمارهن أربعين سنة من الأرامل والمطلقات والعوانس، وانضمّت إليهن الطالبة التي كانت السبّاقة بالترحيب بي وقد بدت لي أنها صغيرة العمر.

 ( رتن ) الطالبة الصغيرة العمر بالنسبة للأخريات أجملهن وأكثرهن أناقة .

هذه الأعمار الأربعينية تتلائم مع عمري، وبدأت تنمو بيننا صداقة بريئة .

الصداقة نمت بسرعة كبيرة حتى أنهن لايستغنين عنّي في وقت تناول الطعام،فينتظرن لو كنت منسجماً مع لوحة ألوّنها .

مرضت في يوم ما إذ أحسست بثقل في رجلي اليمنى، وقال لي الطبيب الزائر أنها من تأثيرالإطلاقات التي تلقيتها في أثناء محاولة اغتيالي في بغداد على يد أزلام السرّاق والحرامية من الحثالات .

 نما الخبر في المعهد إذ افتقدوني نتيجة غيابي الفجائي .

قرّرن عيادتي، جاءت المجموعة لشقتي الصغيرة، وحملن معهن هدايا حلوة، جوتي قدمت قرآنا وصافيتازي العهد القديم وأرشيا الإنجيل وسيتا كنزا ربّا وساراسواتي كتاب الفيدا، وتأخرت (رتن) لأمرطراها .

رتن الصديقة الوحيدة التي أشعر بها الأكثر ميلاً إليّ .

بعد مغادرتهن بدقائق قدمت رتن، سلّمت وبادرتها

- أرجو أن لا يكون ما طراك، أعاق قدومك .

- أنا افتعلت ذاك، لأني أرغب أن نكون لوحدنا .ولن يعيقني عما أنوي عليه، وأؤمن به .

هديّة رتن أبسط الهدايا .

بضعة اعواد من بخورهندي .

أشعلت البخور وبدأت الرائحة الزكية تفوح، إستأذنتني ونشرته في غرفة نومي والممر الضيق .

قالت : هل شممت قبلُ مثل هذا الطيب؟

- رائحتة غريبة غير معتادة .

- صحيح، فهي أعواد ليست من عالم البشر، وعمرها آلاف السنين، أهدتها لي أمي وهي تحتضر، وقالت : لا تشعليها إلا لمن يستحقّها .

- آلاف السنين؟ عجباً، إذن كم عمرك؟ لاتجعليني أشعر بأني مغفل عندما قدّرته بثلاثين سنة .

- لا يازميلي يفوق هذا بكثير، نحن معشر الجان البنت عندنا تراهق بعمر يقرب من ألف سنة مما تعدّون .

- إذن كم عمرك الآن؟

- قبل شهر واحد احتفل الجن بعيد ميلادي ببلوغي ألألفية الثانية.

- هل أنت من عالم الجان؟

- نعم، ولمَ الدهشة والعجب، ألم تكن أم بلقيس جنيّة وتزوجها بشرّي منكم وولدت له بلقيس التي أضحت ملكة سبأ،وبلقيس نصفها طين ونصفها نار تزوجها سليمان النبي .

- صحيح هذا بعد انهيار سد مأرب، وتشتت اهلها .

 - أنا عثرت عليك بعد انهيار بلدك وتشتت ناسك في المنافي،فدخل عقلي أن أطلب منك الزواج،وقد نلت موافقة مجلس الجان الأعلى،شريطة أن لا تخبر أحد من البشر بحقيقتي ولك ماتريد منّي التشكل بأية هيئة،وبأية صفة ترغب، يوماً سأكون رشيقة أتمايل مع النسيم وآخر سأكون ممتلئة أمشي مشية الحجل، يوماً بيضاء كالثلج وآخر سوداء كالزبيب، تمنى ما تشته أتحول بثوان، فأنا سأكون كما لو أنك تزوجت ألف أنثى مرة واحدة، لي شرط آخر، أن لا تسرق وتنهب مثل الساسة اللصوص، فحينها لن ترى وجهي أبداً .

- كيف عرفت ما حل بنا دون أن يفيض علينا سد تهدم، بل فاضت الأزبال في الشوارع ولم ينظفوا سوى البنوك والخزائن .

- أعلم ذلك وإذا كنت راغباً أريك الأكثر.

 - وكيف؟

- شمّ شمة عميقة من عبق البخور وسترى .

شممت شمّة وأنا مرتعب لما طرق مسامعي،

 فقالت : أهذه شمّة عميقه يا رجل؟ تصوّر أنك تشم عنق محبوبة واعدتك ولم تنجز وعدها إلا بعد عنت .

أخذت شهيقاً طويلاً

فإذا بي أستحيل بخاراً،أجزاء مني استطالت واجزاء قصُرت وأجزاء تسطحت وتساميت وطفت وخيّل لي أني سأتشتت وأضيع في الفضاء، لكن رتن قد تسامت معي ورافقتني .

قالت : لا تخف تمسّك بي .

ولمّاوصلنا إلى جزرالغيوم توجهت بي تلقاء سحابة داكنة وأمرتها أن ندخلها ونجلس في تناياها، فاستجابت،وسارت بنا حتى أشرفت على أرض فتوقفت .

قالت رتن : حدّق إلى أسفل، أتعرف هذه البقعة؟

- هذه الجرداء؟

- نعم كانت فيما مضى جنّة خضراء وارفة الثمار والجمال، ولكن حثالات اهلها والسفهاء أفسدوا فيها، فعم الخراب، سأريك الآن .

- أمطري يا غيمة بضع قطرات .

فأمطرت طائعة

فاصاب القطر الأرض الجرداء، فانبجست سنابل

حَبّها من ياقوت ولؤلؤ وماس وأوراقها من ذهب وسيقانها من فضة .

لم تمر سوى دقائق حتى هزّ سمعنا ضجيج ولغط ورأينا نقعاً قد أثير.

هجمت ثلة همج من لصوص وسرّاق وأراذل الناس وتشاجروا وتخاصموا. كلٌ يريد الإستحواذ عليها لكنهم اتفقوا بعد حوار قصير، فتقاسموها، قلت بألم وحسرة حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا بالغيمة تزمجر فأرعدت وأرسلت عليهم شواظ من نار أفزعهم وشتت شملهم،وأغمّني ما رأيت، فأحسّت (رتن) بما انتابني من يأس وخيبة فأشارت بحاجبها إشارة خفيفة للغيمة فإذا بها تبرق وترعد من جديد وبدأت تسكب ماءها وتروي الأرض،فقالت رتن:

- أبصر الأرض وجّه نظرك تلقاءها.

فنظرت، وإذا بها تعشوشب ونبت زرع وارتفعت سيقان تحمل سنابل صفر، وتناهى إلى سمعي ضجيج، فرأيت الجياع تقاطروا من كل حَدب، فالشيوخ تحصد والشبّان تحرث والنسوة تذري القمح والصبية متجهون إلى دور العلم، فترقرقت عيوني ّ ورفعت رأسي نحو السماء شاكراً،فسال الدمع على خدودي،وامتدت يد رقيقة تمسحه بمنديل ناعم الملمس، فنكّست رأسي .

 لاحظت أن بطن رتن قد انتفخت، فقلت:

- مابك؟ ماذا حدث لبطنك؟

- إنه الحمل ...!!!

- حمل !!؟ ممن؟

- منكَ،ففي أحشائي تنمو ابنتك، بلقيس الثانية، نصفها طين منك ونصفها نارمنّي .

- ومتى تطلّ علينا وتملأ أجواءنا بسمات؟

- ليس المهم متى، المهم أنها ستأتي، ستأتي حتماً .

 

سردار محمد سعيد

................

بخور(رتن ) القصة الرابعة من مجموعتي غير المطبوعة - العوم في بخور الهند - وسبقتها– إبريق جوتي – صورة أرشيا – حقيبة صافيتازي .

 نقيب العشاق بين ذرى قنديل وقمم هملايا .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم