صحيفة المثقف

"ديبكا" والشجرة

sardar mohamadلم أكن المبادر، هي اغتنمت فرصة عيد رأس السنة الميلادية لتسبق زميلاتنا .

كانت مترددة في البدء .

 مبادرة الأنثى غيرمعيب،لكن مبادرة الذكر تُثيرالأنوثة،ويحلوتمنّعها للذكر،فتزيد تشبثه .

 الآماق نمّامة تؤجج شُعل الحب إذا حاولت الأفواه سترها .

إهتديت إليها أو اهتدت إلي، الأمر سيان .

في غفلة حزن أو غفلة فرح لا فرق .

إهتدينا لبعض كما تهتدي الطيورالمهاجرة، وعقول البشر إلى الخيال.

في غفلة من عين الوحدة انعطفنا لسطوة الآخر .

وبدأت أقدامنا تلامس الأرض .

ليس عالم البشر فقط اكتشف اضفاء المسرّة على الأعياد بتقديم هديّة مناسبة .

" ديبكا " ليست من عالم البشر، ولكن بادرت فسبقت الأنسيات والجنيّات .

الهديّة التي قدمتها لم تُفقه حقيقتها .

عود نبتة برية قليلة الورق في اسطوانة زجاجيّة شفافة .

وكعادة الرياح الهائمة تبحث عن رهاف الأكمام لتذروها .

 - ألم تخجل من تقديم هكذا هديّة؟ تريد التقرب منه بأية وسيلة .

قولة غيرة من زميلة أخرّها الكبرياء،وأشرفت على العنوسة .

كم واحدة جنت عليها العفّة والحياء .

إغلقي رجليك، لاترفعي رأسك، لاتنظري بوجوه الرجال،سلسلة من قرع الدماغ بمطارق الذكورة .

إياكَ واقتراف جريمة الحب أيها الوقار.

صاحبة الدار التي أسكن في ملحقه وبيني وبينها علاقة بريئة قالت :

هذه نبتة أظنها مقدّسة،قرأت عنها في كتب المعبد، قابلة للتحول والتغير، فمرة انسان وثانية حيوان تحل في روحه وثالثة جماد،وفق الحاجة .

حين رقادي كنت أتأمل النبتة وأنا أسند رأسي على كفيّ، أخذت عيو ني اهتزازات متتالية،يمنة يسرة،ثم أخذت تلفّ وتدور، وازداد الدوران وتسارع،فاختلط بياض العين بسوادها، وما عدت أرى  .

لا أعرف إن كنت أحلم أم سابح في خيال .

مهما يكن، رأيت أشياء لا تُنسى .

طفل ٌ بيده علبة زجاجيّة فوهتها باتجاه القمر الفضي فدخلها وهو ألق .

غانية تمتطي غيمة هاربة .

ضفدع على منصة في أثناء القاءخطبة لسياسي كذّاب .

نار تندلق من شبابيك دار كان يوماً يلوذ به الصيف .

سحبت الملاءة مغطياً وجهي، فسُحبت بالإتجاه المعاكس،

أغطي، يماط. أغطي، يماط، كأن شيئاً يعاند، يريد منعي من النوم .

فاستسلمت .

فإذا به يسحب الغطاء بهدوء فوق وجهي وأصابع رقيقة تغلق جفنيّ . وتهادى صوت أغنية كانت أمي ترتّلها :

(دللول يلولد يا ابني دللول عدوك عليل وساكن الجول)

لكن العدو سكن المنطقة الخضراء، والشعب هوالعليل .

نمت ولم أفق إلا على صوت منبه الساعة العتيقة، وتقرفصت قليلاً فلمحت كوب قهوة يتصاعد منه البخار،لا شك أنه أعدّ للتو،فنهضت فزعاً، من أعدّه؟ ربما المرأة التي أسكن في ملحق دارها .

فتذكرت عود الشجرة فالتفتّ إليه فوجدته غير موجود في محله .

صدرت ضحكة من المطبخ الصغير .

من يقهقه ؟

مددت عنقي بهدوء، رأيت النبتة فيه في موضع تنساب إليه أشعة الشمس، من نقلها؟ هذا عمل الأحياء،وفوجئت بأن المطبخ بما فيه نظيف ولم أرأحدا يقهقه .

عدت لأشرب القهوة فوجدت أن نصفها قد شُرب .

كثيرة هي الحوادث الغريبة في هذا الملحق مذ دخولي معهد الفنون الجميلة أو في الحقيقة مذ دخول النبتة.

لملمت أوراقي وما أحتاجه للدراسة في المعهد وغادرت .

في كافيتيريا المعهد طلبت كوب قهوة .

إسترعاني صوت فتيات يتحادثن ويتضاحكن، الضحكات لا تشبه الضحكة التي سمعتها قبيل فقدان كوبي نصف قهوته في سكني.

هل من الذوق الإستفسار عن نصف كوب قهوة شُرب؟

فعدت لأتناول قهوتي التي طلبت .

 يا لله نصفها قد شُرب أيضاُ، عجباً من يجرؤ على هذا؟ أي شبح هذا الذي يصّرعلى مشاركتي الشرب .

شربته صامتاً، وأتممت دراستي ذلك اليوم مكتئباً خائرالفكر .

عدت للكافتيرا وطلبت رغيفي خبز - أفغاني -، فغلفّتا لي ووضعت في كيس، لأصل بها إلى منزلي .

ووصلت، وجدت باب الدار منفرجاً،فكانت دهشتي هذه المرّة أعم .

أنا متأكد أني قد أوصدته، ولا أحد يملك مفتاحاً غيري .

دخلت خائفاً مترقباً، فوجدت أن مائدة على المنضدة الوحيدة قد نُصبت،مغطاة بشرشف رقيق ابيض، كشفته، لم أتوقع ما رأيت، ماعونين متقابلين، ملعقتين، شوكتين،كأسي ماء !!!

من أعدّها؟ وهل هناك مدعوّلاعلم لي به؟

دخلت المالكة،تعجبت هي الأخرى .

- أنّى لك كل هذا؟

- هو من عند الله .

فتحت كيس الخبز،لا الآن سأجن،رأيت أن كل رغيف أُكل نصفه، كيف حدث هذا؟ الكيس مغلق ولم يغادر يدي .

من هذا الذي يشاطرني كل شيء؟ مرّة القهوة ومرّة الخبزومرّة الغداء.

خرجت السيدة، وبدأت بتناول طعام لم أذق مثيله من قبل .

حان وقت القيلولة .

أسدلت الستارة،فطارت عصافير كانت تتخذ من حافة النافذة شرفة، واطفأت النور.

دخلت الفراش وكعادتي غطّيتُ وجهي، وما كدت أغمض جفنيّ حتى شعرت بشيء أملس حريري يلتف ّ حول عنقي فأزحته، فعاد يغمر صدري .

فتحت عينيّ فإذا به شعر أنثى ينسدل على مخدّتي، فانتفضت، وأردت رفع جسدي من الفراش فلم أقدر .حدثت نفسي :

- أشللت؟

 - لا لم تشل .

إفتح عينيك، وابصر من أكون؟

- "ديبكا " !!!!!!!!!!!!!

- نعم "ديبكا "، تدعوك للعيش بسلام، فهل تستجيب؟

تأملت النبتة فوجدتها اختفت والزجاجة فارغة .

- أين النبتة؟

- لحظة واحدة .

نهضت "ديبكا " ووقفت عند الزجاجة، وبدأت تصغر شيئاً فشيئاً، وتنحف حتى استحالت عود نبتة فدخلت الزجاجة برشاقة .

لولا نور جسدها البض لقلت أني أتخيّل أو أحلم وربما جننت .

غطيت وجهي بكفي ّ، لكنها رُفعت برفق .

- مالك ألا تطيق رؤيتي؟

- أبداً، لكني مندهش ومتعجب من شيء لم أشاهده من قبل .

- ستعيشه وتعتاده إن وددت،ألم تحس أني رغبت بك حبيباً وزوجاً فما الضير، ولقد رحبت أمي بذلك، فيسرت السبيل،

أعطتني هذه النبتة وكيفية الإندماج فيها والخروج منها، لكن مجلس الجان الأعلى طلبوا مشاهدتك في عالمنا .

- وكيف الوصول إليهم؟

- قرّر واعزم، وأنا أرافقك . شاهد هذا الكأس، أُدخل فيه .

- ماذا !!، أدخلُ فيه، وهل يسعني ؟

- نعم، ستجد نفسك في بحر لجيّ، وسيأخذنا حوت ضخم إلى جزائر البحور حيث عالمنا اللامرئي، لا عليك،أشبك ذراعيّ بذراعيك واغمض عينيك، واقفز معي .

- قفزنا معاً،وإذا نحن على سطح ماء أزرق، لانهاية له، وبدأت أهبط نحو القاع، ولم تأبه " ديبكا " لغرقي، فسمعتها تقهقه، لكن حوتاً غاية في الضخامة مر تحتي وأجلسني على ظهره، وكانت " ديبكا " قد سبقتني، فقالت :

تمسّك واستند لزعنفته .

وهو يسير بنا هبت ريح عاصف،وتراكم غيم أسود، والماء يهجم من شمال ومن جنوب، وارتفع حتى لامس الموج الغيم .

- تمسّك بقوة، ولا تخف، هو مجرد تحرك في طبقات المحيط، وتسمونه التسونامي، ما ذا سيفعل الظالمون وسرّاق الشعوب لو داهمهم، هل من حوت سينقذهم ؟.

وعبر بنا التلاطم وصراع الطبيعة نحو جزر البحور .

رأيت من البعد جزراً خضراء، لا لهب ولا نار ولا دخان.

- أنتم أهل اللهب والنار، أنسيت حرائق الولايات الأمريكية، وحريق روما وحريق طوكيو وحريق لندن،وعبدة النارمنكم، أنسيت ؟ نحن أهل المناطق الخضراء وليس أنتم .

وحين وصولنا ورسو الحوت على الساحل، اصطحبتني إلى حيث ينعقد مجلس الجان الأعلى،فدخلت مرتبكاً لولا " ديبكا " فانحنت مسلّمة وقالت :

- هذا هو.

قال رئيسهم الشيخ الوقور الذي ترتسم على هيئته وجلسته الهيبة .

- خذيه حلالاً لك أنّى شئت، لقد اجتاز الإختبار.

- لكنه لم يُختبر بعد .

- لا، يا طفلتي، لقد اجتاز الإختبار بتحمل مخاطرعبور البحر من أجلك .

 

سردار محمد سعيد

.............

"ديبكا" سابع قصص مجموعتي غير المطبوعة (العوم في بخور الهند).

نقيب العشاق بين ذرى قنديل وذرى هملايا.

  

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم