صحيفة المثقف

العقل العربي بين حذاقة الاستقلال وسفاهة التقليد

mustafa alomariتتوثق الاحداث الأولية بهيئة صور في عقل الافراد، فتترسخ في الذهن كإستنساخ ملون، تعي الايام والمآسي عن محي تلك الصور، والحال يكون باهضاً عندما تكون هناك أي محاولة لإستبدال المعلومات الايمانية والعقدية، التي نشأت كعضو أساس مع الاشخاص، وإذا كان الاستبدال في الإعتقادات محالاً، فالتغيير او التشذيب يكون عسيراً ووعراً . وفي مثل هذا الحال يتلون المجتمع بلون واحد أريد له ولم يسعى هو في إختياره، فتتشكل المأساة الاولية او العقبة الكبرى في حياة الافراد، وهي المنع الحاد والجاد من التفكير بتغير نوع وسلوكية ذلك المجتمع، ومع غياب ثقافة التجديد والمراجعة والنقد والتعزيز من قدرة وإمكانية النمو في النفس اللوامة، يتيه الفرد في قيوده البدائية وتطيح به تلك القيود، فتجعله متهالكاً للدفاع عنها رغم عدم إكتمال دورة المعرفة الحقيقية بها. 

موت الشعوب واستنزاف قدراتها الفكرية والعلمية والمعرفية، هو بإلزامها بالتقليد والتقيد بنمط واحد من التفكير، ومع هذا التضييق او الإكراه، يكون قد مورس الإجحاف والإضطهاد والإساءة بحق العضو المهم في الانسان وهو العقل النقدي . وبغياب ثقافة النقد والبحث عن أنماط جديدة، يتحول المجتمع الى مُقلد بالفطرة فيكون مطاوعاً ومنقاداً ولا يشكل أي عناء لواضعي نظرية الجهل المقدس . التقليد موت فعلي لعقل الانسان، وإندثار للمواهب الفردية، مع عجز متكامل في إمكانية إختراق علمي او فكري للمجتمعات المقلدة .

الابداع والحذاقة التي يمتاز بها العلماء والمخترعين والفلاسفة الكبار، لم تأتي إلا بعدما حرروا عقولهم من سلطة التقليد الى نهضة التجديد، والتحري عن عوامل وأسباب مختلفة للتقدم . التطور العلمي الذي تحتفل به المجتمعات، أتى بجهود فردية لأشخاص ربما لم يكونوا من عوائل أرستقراطية او برجوازية وبعضهم أتى من عوائل كادحة، تمتهن الزراعة كسبيل للحياة. غالباً ما يأتي الابداع فردياً، بعيداً عن صخب الجماهير او صيحات الجهلاء.

الفردانية او الاستقلالية بالذات هما الطريق الاولي لسبر حياة جديدة او إختراع جديد. الخروج عن التقليد هو إتاحة المجال للعقل لكي يفكر بدون إملاءات أولية . الفردانية هي التي قادت رهطاً غير قليل من كبار هذا العالم، ليقدموا أختراعاً هنا ونظرية هناك . فتوماس اديسون، هنري فورد، ألبرت إنشتاين، دارون، جراهام بل، امانويل كانت، كارل ماركس، فريدرك نيتشة، ابن رشد، علي الوردي، كل هؤلاء خرجوا من مأزق التقليد المستنسخ والذي يكرر نفسه ويعيدها بشكل مزري، خرجوا الى فضاء فيه ممارسة العقل، فحولوا أثر وفعل الفلسفة الى فلسفة فعل .

لم يستسلم هذا الرهط للقيود التي أملتها عليهم البيئة والمجتمع، ولم يتواكلوا على غيرهم في إيجاد حل للظواهر غير المرضية التي تعصف بمجتمعهم. فإنبجست خلايا الابداع، لتبني صروحاً من التمرد النافع لكل ماهو داب على هذه الارض.

أي محاولة تقليد سيكون مصيرها الفشل، وأي محاولة إبداع وتجديد وان كتب لها الفشل في مراحلها الاولى سيكون مصيرها النجاح. فتوماس اديسون يملك أكثر من ألف براءة إختراع، بينما لم يملك أصحاب العقل المقلد محاولة لتجربة واحدة !

أغلب المجتمع العربي مقلد بالفطرة، ينشأ الفرد ليجد أنه محاط بثكنة من المحاذير والقيود، التي لا يمكن تجاوزها، بل أن هذه القيود ترغمك على إتباع طريق واحد ولا تسمح لك بتخطي حواجزه، او السؤال حول فلسفة ذلك المنهج .

فالفقه الاسلامي مثلاً يرغم أتباعه على التقليد، بحيث تبدأ كتب الفقه بفتوى مفادها : لا يجوز عمل الافراد إلا بالتقليد . المناهج السنية أبتليت بتقليد عمل الصحابة فهي منكبة في البحث عن حركة او فعل او تقرير القدماء من الصحابة، ولم تتوانى هذه المدرسة ان قدمت منجزاً إفتراضياً، لما كان يعمله أحد الصحابة قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فاستنسخته بنسخ غير متشابهة وبثته بين العوام، وقيدت به الناس على انه الحقيقة التي يجب ان تتبع .

المناهج الشيعية، تشبه من أوجه عدة مناهج السنة، لكنها طورت بهيكليتها العامة، فبالوقت الذي كان الشيعة يتبعون أخبار أئمة أهل البيت، لترشدهم الى الافعال الصحيحة، أسس الشيخ المفيد مدرسة الامامية الجعفرية، ليتسلم زمامها بعد حين الشيخ الطوسي، الذي حاول التطوير في بعض مناهجها العامة، وقيل بقي الشيعة يقلدون الطوسي بعد وفاته مائة عام .

لازال أتباع المدرستين يقلدون، تقليداً أكمه، لا يمكن لهم الانسلاخ منه، لأنهم محاطون بشكل عنيف من الروايات والاحاديث التعسفية التي تصور لهم ان رفض التقليد هو خروج على خط الله. ولا أعلم هل الله أراد للناس ان يكونوا بهائم تقليدية، ام هو الذي يحثهم على التفكير والتبصر والاستدراك؟

كان المنهج العام عند المعتزلة .. العقل أعدل الاشياء بين الناس. أما الان فأضحى العقل مكبل بسلطة الفقيه.

لنتأمل أوضح بالمشهد الذي تيسر عليه مجتمعاتنا . فأسأل التالي: إذا منعت من دخول حديقة، هل يمكنك ان تصف الاشجار والورود والانهار والتفاصيل الاخرى في تلك الحديقة؟

هذه الصورة تأخذ جوابين، الاول اذا كنت أنت من دخل الحديقة وراى وفتش وبحث ودوّن، فستكون مبدعاً فيما سترويه او تكتبه .

الجواب الثاني، إذا كنت خارج الحديقة لكنك إكتفيت برواية شخص واحد، قص لك حول ما رأه، ثم إكتفيت بهذا القدر من المعرفة فأنت مقلد لشخص رأى جزءاً يسيراً من الحقيقة .

منع الناس من التفكير وتكبيل عقولهم، يخلق مجتمعاً متواكلاً وبليداً، غير قادر على الاعتماد على الذات، فيتحول هذا البليد الى خانع وذليل، تقوده الجهلاء وتسيره إشارات المعتوهين. بينما المغامرة والاستكشاف والبحث والتغيير أجهزة ربانية تحاول خلق فسحة من حياة مغايرة.

الإبداع فردي ذاتي بينما التقليد محاولة لقتل الذات والابداع ..

 

مصطفى العمري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم