صحيفة المثقف

"في الّا أين" رواية طه الشبيب الجديدة.. "المهرَبون" يشيدون وطناً في المنقطعة

jamal alatabiتأتي (في الاّ أين) رواية طه الشبييب، الأخيرة من حيث الترتيب، فهي الخامسة عشرمنذ أن صدرت له (إنه الجراد) كأول رواية عام 1995.

الرواية بصفحاتها التي قاربت الأربعمائة، وبعنوانها المتعدد الدلالة، وبفصولها التي لاتحمل أي عناوين جانبية، لو وجدت لأعانت القارىء على إختراق الغموض والمجهول المقصودين اللذين يكتنفان الرواية في مجموعها. أربع وخمسون (مهَرّباً) مرصوصين رصاً في قارب، بشر بأجناس وفئات عمرية مختلفة، من أين بدأت الرحلة، وإلى أين تتجه ؟ إذ لايرد أي تلميح أو تصريح بالمكان الذي يقصده القارب،ولا الزمان متى ؟ سوى التأثير الذي يقصده الروائي وهو يضع القارىء في موضع الحيرة في مواجهة لغز تطول محاولة حلّه.

بداية النص لاتشير إلى أسماء المدن والبلدان، ولن نعرف بالزمن إلا إستنتاجا، فنرجح انه ما بعد إحتلال العراق، وتصاعد حدة الإحتراب الطائفي بعده بقليل، و(المهرَبون) عراقيون، أمجد، دانيال (الرواي)، زينة، الشخصيات الرئيسة في الرواية،سليمان، جعفر، بكر، وآخرون.

السائق (أوزيل أغا) يغير وجهة القارب نحوالّا أين بعد إستلامه إشارة هاتفية بخطورة الساحل المقصود، وإحتمال تعرض المهَرَبين إلى القتل، فتتغير بوصلته نحو مكان آمن خالٍ من البشر ومقومات الحياة، البعض يقرر العودة، والآخر يختارالبقاء، كانوا أربعة ثم تسعة، وثلاثة عشر، وإلتحق آخرون فيما بعد، هذه المجموعة، كيف تواجه مصيرها في العيش والتكيف بلا أدنى سبيل للحياة والبقاء والإستمرار؟

فذهبت الرواية للبحث في كفاح الإنسان المرير من اجل العيش تحت وطأة الظروف القاسية،ومجهولية المكان، ووعورة التذكر والنسيان، فكانت إحتفاءً صعباً بالحياة الجديدة في (المنقطعة)، في وطن جديد شيده المهرَبون، أبطال الرواية، بعد أن أدركوا خطورة التراجع، وتعاسة وجودهم في ما تركوه وراءهم بوعي ذواتهم من جديد .

منذ الليلة الأولى تبدأ الأحداث مسيرتها اللا منطقية ولا معقوليتها في (المنقطعة)، والبناء الروائي يكتسب تركيبه النهائي من هذا المنطق بسرد عام شائع، إذ يتحول إلى أداة من أدوات الكشف والتعبيرعن حالات المواجهة .والصراع الحاد مع الطبيعة، في أرض بكرلم تتناهشها الأديان والطوائف بعد، و(الأبطال) يدركون أن لانهاية محققة للطريق الذي قطعوا فيه شوطاً، التحدي هو الذي يمنح حياتهم معنى، بالرغم من إطلالتهم الدائمة على حافة اللامعنى، ومهما كانت النتائج والنهايات غير مؤكدة، التعاسة لاحدود لها في عالم رفضوه، لكنهم إستبدلوه بإختيار جديد، بإضطرار جديد، أشبه بالبحث عن اللؤلؤة الثمينة (الحرية).المهمة شاقة وقد تبدومستحيلة، ولكن لايمنع المحاولة.

مأساة المهرَبين تعطي إنطباعاً لمشكلات  لم تسقط في البحر، ولاشك ان ضراوة الصراع بين ما هو كائن وما هو محتمل، هو محور البناء السردي في الرواية، والحق ان قدرة طه الشبيب، انه إستطاع أن يجعل من (المباشرة) فناً، فتلبس الواقع بالمتخيل، وتجلّت مهارته في إلتقاط الحدث النطفة، فككه ثم أعاد ترتيبه .

الرواية تغترف من قوالب كثيرة، فيها تقنيات رواية الرحلة والمغامرات، وتقنيات الرواية السياسية والمشكلات الحاضرة، وروايات الفلسفة في ثلتها الأخير، إذ تتحول قضية الوطن إلى موضوع فكري مطروح للنقاش، (الوطن مكان أصم، لايحمل معنى متحركاً متفجراً بدون مواطن ص320) الوطن فكرة، ليس أرضاً يعيش عليه شعب، صورة البلد موجودة في أحلامنا، ويتخلل الحوارات تفريعات ذات طابع نفسي وإجتماعي، وتلميحات لـ (هوىً) يكمن فيه مضمون حب غير معلن بين أمجد وزينة، المدرّسة الأرملة التي فقدت زوجها بحادث إغتيال سياسي .لكن الشبيب في هذا التنوع التقني يقدم أبطالاً تراجيديين، متكاملي  السمات التراجيدية، في تمزقهم الأليم بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن الحياة في المنقطعة مستمرة .وفي قلب الشدة يتحول اليأس إلى مادة للإحتجاج .

من حق طه الشبيب أن ننوه بإلتزامه بموضوعاته الإنسانية، وتجربته السياسية، وأن ننوه من جانب آخر إلى إهتمامه وحرصه على تنويع تقنيات القص وإستغلال مهارات الصنعة، مما يسحبه إلى الإسهاب والذهاب بعيداً في التحري عن أدق التفاصيل لبناء الحدث، وهو ما إستغرق فيه طويلاً وأخذ من الرواية صفحات كثيرة، كان له أن يختزلها دون أن تؤثر على جماليات السرد، وأزعم، وهذا الزعم ليس حكماً، ان في فضاء الرواية متسع لأكثر من حالة إنسانية لتصعيد حالات التوتر في رحلة الليل الدامس في عرض البحرنحو التيه،وكان ممكنا للرواية ان تجد تعبيرها الأرقى في تطويرونمو علاقة أمجد بزينة إلى علاقة حب بحرارة حقيقية، لا تقتصر على الإيماءات، فتمنح السرد لغة طرية عذبة وشفيفة،وفق جمالية المعنى العام، أووفق جمالية وضوحها وهو ماسعى اليه طه الشبيب في إضافته السردية الجديدة المغايرة للسائد .

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم