صحيفة المثقف

الصورة الروائية والصورة السينمائية

mohamad fatiالصورة ثقافة بصرية وفي هذه الثقافة ينشأ معجم جديد تتحدد به المصطلحات ويكسبها معنى مختلفا غير ما كنا نعهده في زمن الثقافة الكتابية، وفي زمن الكتابة الذي صار زمنا تقليديا الآن وصار يفقد دوره وآثره، "في ذلك الزمن كانت المصطلحات تأتي عبر المد اللغوي ليجري تصويرها في كلمات على الورق عبر الرسم الكتابي، وتكون الكلمة فيها جامدة ميتة إلى أن يقرأها قارئ ويتولى تحريك الكلمات وإيقاظها من سباتها لتدخل إلى العالم الذهني للقارئ ويتحرك السياق الذهني المختزن، وتبدأ عملية تكوين الدلالات عبر ربط قرينة لغوية بين الدال والمدلول، ويكون السياق فيهما هو الحكم في صناعة التدليل" .

غير أن ما نشهده اليوم هو تحول في علاقات الثقافة الدلالية على مستوى الذهن البشري كله، وهو مشهد بطلته الصورة حيث "تحل محل اللغة وتزيح الكلمات عن اللعبة، ومن هنا تكون الصورة مادة لنحو جديد يعيد صياغة الاستقبال وصياغة الفهم" ، حيث تلعب الألوان دورا ألغى المجازات البلاغية القديمة وبدلا من التشبيه والاستعارة والكناية والمحسنات اللفظية كالجناس والطباق، بدلا من ذلك "جاءت الألوان لتلعب الدور الأكبر في رسم الدلالات وتحقيق التأثير بأقصى درجاته  ولم تكن البلاغة القديمة لتبلغ ذلك المدى ولا لتقوى على المنافسة في التأثير"، ولقد استخدم أحد الباحثين عبارة (البلاغة التكنولوجية) للتعبير عن هذا التغيير .

وتنبني الصورة الروائية انطلاقا من سعي الروائي إلى مجاوزة الصيغ التمثيلية المأثورة للوقائع والمواقف والأفكار، وإلى "تشكيل نظام صوري تتجانس داخله الدوال الروائية في تشخيص المعنى، وفي الإحالة على نسق منسجم من الإدراك الذهني، والارتباط بمستوى خاص من الاستبطان التخييلي" .

والصورة الروائية هي أيضا "نقل فني، ومحاولة لتجسيم معطيات الواقع الخارجي بواسطة اللغة". والصورة بهذا المعنى هي نتاج ثري لفعالية الخيال الذي لا يعني نقل العالم أو نسخه وإنما "إعادة التشكيل، واكتشاف العلاقات الكافية بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة" . وإذا فهمنا هذه الحقيقة جيدا أدركنا أن المحتوى الحسي للصورة ليس من قبيل (النسخ) للمدركات السابقة، وإنما هو إعادة تشكيل لها، وطريقة فريدة في تركيبها، إلى الدرجة التي تجعل الصورة قادرة على أن تجمع الإحساسات المتباينة، وتمزجها وتؤلف بينها في علاقات لا توجد خارج حدود الصورة، وعلى هذا الأساس يمكن القول "إن الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورا بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته" .

انطلاقا من هذا يمكن رسم معالم الصورة الروائية باعتبارها "نقلا لغويا لمعطيات الواقع، وهي تقليد وتشكيل وتركيب وتنظيم في وحدة، وهي هيئة وشكل ونوع وصفة، وهي ذات مظهر عقلي ووظيفة تمثيلية، ثرية في قوالبها ثراء فنون الرسم والحفر والتصوير الشمسي، موغلة في امتداداتها إيغال الرموز والصور النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجية والإثنية، جمالية في وظائفها مثلما هي سائر صور البلاغة ومحسناتها، ثم هي حسية، وقبل كل ذلك هي إفراز خيالي" .

وينبغي الإشارة إلى أن الصورة الروائية ليست تكوينا متحققا خارج بنية النص ومكوناته، بما فيه البنية الذهنية، بل هي "وجود ممتزج عضويا بالفقرة والمشهد والمقطوعة والحوار والحوادث والفضاء والشخصية والموضوع، وكذا بالانطباعين الذهني والنفسي اللذين يثيرهما ذلك المجموع في المتلقي" .

كل هذه المعطيات تثبت أن الصورة الروائية ليست اعتباطية، بل خاضعة لمنطق يتحكم بدقة في مظاهر ترابط المكونات. "وبذلك تتشكل، مثلما تتشكل أية صورة فنية، في نسق يصبح هو كونها ونسخ وجودها، ويغدو أي نقل أو تحوير أو فحص للصورة، بعيدا عن نسق التشكل، هدرا لكنهها" .

أما الصورة الفيلمية فهي فضاء تعبيري سمعي ـ بصري مركب تتقاطع فيه كل مستويات العملية السينمائية: النص ـ الصوت ـ الحركة ـ الديكور ـ المونطاج.. إلخ .

من هذا المنطلق تتجلى الصورة السينمائية، كإمكانية تمثيلية موازية للإمكانيات المتاحة في الصيغ المتعددة لفنون التصوير اللغوي والبصري، غير أنها تمتاز عنها بكونها "تمتلك القدرة على التواصل بأكثر من لغة، فهي تنهض بالأساس على استثمار مجمل الوسائط والإمكانيات التعبيرية، المرئي منها والذهني، المحسوس والمجرد، الواقعي والتخييلي" . ولما كانت الصورة السينمائية تنطوي على كل هذا الثراء التعبيري فقد شكلت آلية فريدة لتحقيق المتعة الذهنية وفتنة الحواس وتمرير الرسائل الفكرية والأخلاقية، فالمخرج السينمائي سعى إلى أن "يصنع عالما خاصا، يشبه عالمنا أحيانا في بعض التفاصيل، ولكنه غالبا ما يختلف عنه، وصورة عالمه الفني الجديد، يجب أن تثيرنا وتجذبنا وتحرك مشاعرنا وحواسنا وعواطفنا وأفكارنا " .

فالصورة الفيلمية تدفعنا لتفسير الحياة (الكون والطبيعة) بالفكر والتأويل، والإنسان يقف قبالة الصورة مقيما علاقة بصرية معها، ليتفاعل مع رموزها ومادتها، وما توحي به من خير وحق وجمال، وما يعتري نفسه من قلق وصراعات وآمال.

والصورة الفيلمية ظلال للواقع وليست الواقع نفسه، إنها ليست الحقيقة الأنطولوجية بعينها بل هي تشكيل فني لوهم بخصوص الحقيقة بأبعادها الثلاثية: الزمان ـ المكان ـ الحدث، يقول بودريار: "ليس للصورة أدنى علاقة بأي واقع كان، إنها ليست إلا ظله الخالص" ، وهذا الظل يخلق وهم الحقيقة بفعل الحركة المصورة التي تقدم الأشياء كواقع مرئي. وهي تختلف عن الصورة الفوتوغرافية أو عن ألبوم الصور أو عن الرواية المصورة بموجب هذه الحركة. وبما أن صورة واحدة لا يمكنها أن تؤدي وظائف حكائية، فإن مجموعة من المتتاليات المصورة قادرة أن تحكي شيئا ما . لهذا فإن الصورة الفيلمية "خطاب حركي مصور يحكي بفعل متتاليات عن واقع ما " ، وهذا الواقع / الظل تتعدد دلالته في الصورة من واقع بسيط إلى واقع مجرد.

والفيلم نص لغوي خاص يتحرك ب "ألسنة" مختلفة لأن الجهاز اللغوي الفيلمي ليس جهازا كلاميا معجميا فحسب، بل هو "نظام بصري تتقاطع فيه حركيات وصوتيات مختلفة هي التي تكون النظام الدلالي والبلاغي للصورة. وهذا النظام يعبر عن إرسالياته بأسلوبية، ونحوية وخطابية خاصة " .

وإذا كان للصورة بعد حركي ـ حكائي فلها أيضا بعد لغوي لكونها المعادل البصري للغة التي تكتب أو تنطق، فلقطة واحدة قد تساوي مجموعة من الجمل اللغوية . إن صورة مكبرة لرجل يدخن سيجارته ليلا في مكان مظلم تعادل صورة: هذا الرجل (بأوصاف محددة) ـ يدخن سيجارة (بشكل معين) ـ في الليل ـ في مكان مظلم.. وفق البنية التسلسلية للجملة اللغوية. كما أن صورة رجل يمشي في شارع ما وهو يحمل معطفه تعادل متتاليات لغوية: هذا الرجل ـ بأوصاف محددة / يمشي في الشارع / يحمل معطفه.. إلخ.

لهذا يمكن القول أن التعامل مع الصورة هو بمثابة التعامل مع نظام لغوي بصري، وكل صورة / جملة داخل البنية المشهدية تحمل معنى ودلالة حسب ترتيب العلامات.

وأهم ما يميز الصورة السينمائية عن بعض أشكال التعبير اللغوي، هو"انفرادها بتحيين actualisation  الحركة في المكان والزمان" ، فإذا كانت الرواية مثلا تعرض مجموعة أحداثها عبر أفكار مجردة، كأن نقرأ مثلا زيد يمشي في الطريق، ونتصور شخصا يسمى زيدا وهو يمشي في الطريق، فإن الصورة السينمائية تترجم هذه الفكرة المجردة إلى حركة ملموسة، مما يسمح لنا بالوقوف على تفاصيل أخرى قد يسكت عنها التعبير الروائي إطلاقا، أو لا يحيطنا بها إلا لاحقا ضمن تعبير آخر، إذ إن الأمر في هذا المثال يتجاوز فكرة مشي شخص (مجرد) في الطريق، إلى الإلمام بهيئته ولباسه ولونه.. إلخ، كما أن الطريق التي يمشي فيها لن تظل مجرد طريق كيفما كانت، بل تضطر الصورة السينمائية إلى تبيان هذه الطريق وليس أخرى..

وتسعى السينما بعمليات تجسيم الصوت الحديثة والموسيقى، وكذلك البعد الثالث المرتبط بتجسيم الصورة وعمقها، وغير ذلك من المؤثرات البصرية والسمعية من أجل وضع المشاهد في قلب الأحداث. ويماثل الفيلم السينمائي ـ باعتباره شكلا للتعبير ـ الوسائط الفنية الأخرى" لأن الخواص الأساسية لهذه الوسائط الأخرى منسوجة في صميم قماشته الوثيرة. فالفيلم يصف العناصر التكوينية للفنون البصرية: الخط والشكل والكتلة والحجم والتركيب. وعلى غرار الرسم الزيتي والتصوير الفوتوغرافي، يستغل الفيلم التفاعل الدقيق الحاذق بين الظل والنور، وعلى غرار النحث يتناول الفيلم ببراعة المكان بأبعاده الثلاثة. وشأنه شأن التمثيل الإيحائي (البانتومايم) يركز على الصور المتحركة، وهذه الصور المتحركة، شأن الرقص، لها إيقاع موزون، وتشبه الإيقاعات المركبة في الفيلم تلك الكائنة في الموسيقى والشعر. كما أن الفيلم، شأن الشعر على وجه الخصوص، يعبر من خلال التصور الذهني، والاستعارة المجازية والرمز، وعلى غرار الدراما، يعبر بصريا ولفظيا: بصريا من خلال الفصل والإشارة، ولفظيا من خلال الحوار، وأخيرا على غرار القصة، يبسط الفيلم أو يضغط الزمان والمكان بارتحال إلى الأمام وإلى الوراء بحرية في نطاق حدودهما الرصينة" .

ويصل الدكتور محمد أنقار عند مقارنته للصورة السينمائية بالصورة الروائية إلى مجموعة من النتائج يمكن أن نستعرضها فيما يلي:

1ـ حصول خيبة أمل لدى المشاهد نتيجة إدراكه ضحالة الشخصية السينمائية التي كان قد تصورها بطريقة مغايرة في أثناء قراءة رواية نقلت فيما بعد إلى السينما.

2ـ الموضوع في الصورة السينمائية يتحقق قبليا، أي أن المعطى المادي للصورة يكون متحققا بصفة مسبقة، على عكس كينونة موضوع الصورة الروائية.

3ـ إن الصورة الروائية فقيرة على المستوى البصري لأنها لا تبرز الشخصية الروائية كأنها موضوع، بل باعتبارها حاملة للمعنى.

4 ـ إن الصورة الكلية للشخصية التي أتمثلها من خلال القراءة تكون أغنى من الصورة الجزئية التي تقدمها لي إحدى واجهات الشخصية في العالم السينمائي، ذلك العالم الذي أراه ولكني لا أساهم في صياغته.

 

محمد فاتي : أستاذ باحث في مجال الصورة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم