صحيفة المثقف

المعرفة التاريخية.. المنطلقات والرهانات

khadat jleed2لقد حظي علم التاريخ ونظرياته في العصر الحاضر باهتمام كبير من طرف المؤرخين والباحثين، ولم يعد النقاش يقتصر فيما بينهم حول: هل التاريخ علم أم فن؟ أو هل يمكن أن نستنتج القوانين العامة التي تحكم حركة التاريخ وتطوره، وغيرها من الأسئلة التقليدية الأخرى التي قد يجدها الباحث كعلامات استفهام في طريقه المعرفي، بل اتجهت الآراء جميعا إلى أهمية التاريخ « كموضوع حيوي لذاته له أسسه وطرائق بحثه وأهدافه وله خطورته الخاصة بين حقول المعرفة حتى أطلق البعض على العصر الحديث عصر التاريخ » .

وانطلاقا من هذا التصور الشامل والحيوي للتاريخ يجدر بنا أن نشير أننا لا نريد أن نتناول النظريات والمناهج التي قدمت تفسيرات مختلفة للتاريخ من منطلقات ورهانات خاصة حتى وصلت فيما بينها إلى درجة التناقض والصراع بقدر ما نريد أن نتناول التصور المنهجي للتاريخ ومستوياته المعرفية والابستيمولوجية وكذلك قيمته ووظيفته في الحياة العامة للشعوب وتطورها عبر الزمن وفي إطار هذه الإشكالية المعرفية للتاريخ لابد أن نحدد ابتداء أن للتاريخ معان كثيرة ومتعددة وهذا بتعدد المناهج والمؤرخين أنفسهم، وكل باحث، بل كل مختص ينظر إليه من الزاوية التي يريدها، أي انطلاقا من المواقف القبلية التي تحدد قناعاته المنهجية والمعرفية ويمكن أن نضيف أيضا مسلماته الإيديولوجية.

و قبل أن نعطي نماذج منهجية عن هذه التعريفات والمقاربات الفكرية المتعددة لهذا المصطلح، لابد أن نبين من الناحية الإبستيمولوجية أننا نميز بين مستوين منهجيين في تحديد مصطلح التاريخ.

ففي المستوى الأول فالتاريخ نعني به تسجيل أحداث الماضي البشري وتدوينها كما وقعت بالفعل وهذا ما يمكن أن نسميه التاريخ كأحداث (évenement) وهو من هذه الناحية مرتبط بالإستوغرافيا Historiographie أي علم كتابة التاريخ.

أما في المستوى الثاني فنعني به معرفتنا ووعينا بهذه الأحداث وهذا ما يمكن أن نطلق عليه التاريخ كمعرفة (connaissance) لذلك فإن مصطلح التاريخ ينحل على المستوى الإبستيمولوجي والمعرفي إلى معنيين متكاملين:كتابة وتدوين أحداث الماضي البشري من جهة ومعرفتنا ووعينا بهذه الأحداث من جهة أخرى، ولعل هذا ما كان يعنيه الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي ستروس (Claude levi Strauss ) عندما قسم التاريخ إلى قسمين وهما :« تاريخ الذي يصنعه الناس دون معرفة به وعن تاريخ الناس مثلما يصنعونه عن معرفة به » .

أما من حيث الإصطلاح المعرفي فنجد أن للتاريخ معان متعددة لاحصر لها وعلى سبيل المثال لا الحصر يرى بعض الباحثين أن أصل معنى تاريخ يفيد «البحث أو التعلم بواسطة البحث أو المعرفة التي يتوصل إليها من طريق البحث فالمعنى المستتر هنا هو الإستقصاء والبحث وطلب الحقيقة » .

واستنادا إلى هذا التعريف يمكن القول أن التاريخ لا يوجد في ذاته (en soi) بل لذاته (pour soi) لأن التاريخ ليس له وجود موضوعي خارج عن إرادة المؤرخ ووعيه، فالتاريخ لايوجد إلا إذا قمنا نحن بإيجاده وصنعه من خلال البحث والتحليل والتركيب لأن التاريخ هو في نهاية الأمر « تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد باستثناء المؤرخ وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه» .

وهناك من المؤرخين من ربط التاريخ بحركة المجتمعات والحضارات بصفة عامة وفي طليعتهم المؤرخ والفيلسوف الإنجليزي أرنولد توينيبي (Toymbee) (1889-1975) فهذا المؤرخ يعرف التاريخ بأنه «العلم الذي يبحث في الحياة التي تحياها الوحدات البشرية، أي المجتمعات وفي العلاقات القائمة بينهما» ) ذلك أن توينبي باعتباره فيلسوف الحضارات يرى في هذا الإطار أن «وحدة الدراسة التاريخية هي المجتمع وليس الأمة (NATION) إذ ليست الأمة إلا جزءا من كل».

ومن هذا نستنتج، أي من تصور توينبي للتاريخ أنه يتناول المجتمع في صيرورته من خلال الأزمات التي تعترضه والتحديات التي يواجهها في الحاضر والرهانات التي يأملها في المستقبل كما يعكس التاريخ أيضا موقف المجتمع من الحياة والوجود فمعنى التاريخ يجب أن نبحث عنه داخل المجتمع وليس خارجه لأنه «متى حاولنا الإجابة عن السؤال ما هو التاريخ فإن إجابتنا سوف تعكس عن وعي وبدون وعي موقفنا من الزمان وتشكل جزءا من إجابتنا عن السؤال الأكثر شمولا حول الموقف الذي نتخذه من المجتمع الذي نعيش فيه).

لقد أصبح واضحا وجليا بالنسبة للكثير من المؤرخين والفلاسفة والمفكرين أن مشاغل الحاضر وضغوطاته تؤثر على تصورنا لفكرة التاريخ في الماضي، فالحاضر دائما يحدد المستقبل بشكل أو بآخر، وهذا إمام المؤرخين العرب عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) الذي عاش زمن الإضطرابات السياسية والتراجع الحضاري للمسلمين في القرن الرابع عشر يعرف التاريخ بأنه«فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولتهم وسياستهم ». ومن هنا نلاحظ كيف أن ابن خلدون أعطى للتاريخ بعدا سياسيا لأن أزمة عصره هي في جوهرها أزمة سياسية، ومن هنا إسقاط الحاضر على الماضي.

ومن الفلاسفة المعاصرين الذين انتبهوا لأثر الحاضر في الماضي نجد الفيلسوف الإيطالي كروتشيه -croce (1866-1952) فيرى هذا الفيلسوف أن «التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر، أي أنه يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله وبالتالي فالعمل الأساسي للمؤرخ ليس التدوين وإنما التقييم الذي يساعده على معرفة قيمة الأشياء التي تستحق التدوين» .

ومن خلال تناولنا لهذه النماذج والتي أردنا بواسطتها أن نقترب منهجيا من مصطلح التاريخ فإنه من نافلة القول أن نعتبر أن التاريخ ظاهرة إنسانية واعية فهو مرتبط بالإنسان ونشاطاته المتعددة فالإنسان هو محور التاريخ لأنه الكائن الوحيد الذي يعي نفسه وأفعاله داخل الصيرورة والكائن الوحيد ذو الأبعاد كما يقولون، فهو يستطيع بواسطة قواه النفسية والعقلية وإرادته أن يتذكر الماضي وينتبه للحاضر ويتوقع المستقبل، وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر Heidgger (1889-1976) فإن الإنسان هو (DASEIN) أي (الموجود هناك) وهذا الأخير لا يمكن أن يوجد إلا في الزمن وبناء على هذا يمكن القول أن «الإنسان الفرد تاريخ في جوهره لأنه يعيش في الزمان ويتحدد بأحوال وظروف معينة ووجوده عملية زمنية تتحدد بالميلاد والموت وتتألف من سلسلة متصلة الحلقات تتألف من ماض وحاضر ومستقبل وتجري هذه العملية في إطار علاقاته مع الآخرين وعلاقاته مع الطبيعة ولما كان الفرد كذلك فإن العلاقات بين الأفراد هي أيضا علاقات تاريخية وحياة الإنسان حياة تاريخية وعالم الإنسان إذن هو عالم التاريخ» .

ولما كان التاريخ تجربة إنسانية حقيقية مستمرة في وعينا وسلوكنا بشكل أو بآخر فإن التاريخ من هذه الناحية يبقى حاضرا دائما في وعي الشعوب وذاكرة الأمم فالشعوب التاريخية هي الشعوب التي لها وعي بتاريخها أما الشعوب اللاتاريخية فهي التي تفتقد إلى هذا الوعي ومن هنا اعتبر التاريخ مقياس تقدم أو تخلف الشعوب والأمم «فكلما ارتفع الإنسان في مراتب الإنسانية ارتقت نظرته التاريخية وغزر فعله التاريخي وكذلك كلما كان وعيه للماضي أصفى ومجابهته له أصدق وأعمق إغتنى كيانه الإنساني وغدا أقدر على الإنتاج والإبداع»

وفي خضم التطور العام للمسيرة البشرية وما لقيته من نكسات وإخفاقات وفي ظل الأزمات الداخلية والخارجية التي تعاني منها معظم دول العالم ازداد الباحثون والمؤرخون تيقنا واقتناعا بأنه «ينبغي إستشارة الماضي للتنبؤ بالمستقبل لأن أحداث العالم الحالي تجد دائما مثيلها الصحيح في الماضي، ولأن تلك الأحداث أنجزت من قبل أناس حركتهم ولا تزال تحركهم نفس الأهواء فمن الضروري أن تكون لها نفس النتائج » .

ومن هنا يمكن القول أن الشعوب يمكنها أن تتعلم من تاريخها ومن تاريخ الشعوب الأخرى، لأن كل مجتمع بطبيعته يتطلع إلى الكمال من خلال تجاوز النقائص والشوائب، فالإنسان كفرد أو كمجتمع بما يتمتع به من قيم نسبية فهو يستمد حركته دائما من المطلق ولكن «المطلق في التاريخ ليس شيئا في الماضي الذي منه نبدأ وهو ليس شيئا في الزمن الراهن لأن كل تفكير راهن نسبي بالضرورة، إنه شيء مازال غير مكتمل بعد وفي طور التكون شيء في المستقبل الذي نتجه نحوه لا يبدأ في اتخاذ شكله إلا بمقدار ما نتجه نحوه وعلى ضوئه ومع تقدمنا إلى الأمام نستطيع أن نصوغ تدريجيا تفسيرنا للماضي » .

إن اهتمام الأمم بالتاريخ يرجع في نظرنا إلى قناعة مبدئية وهي أننا لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام دون أن نلتفت إلى الوراء لنتعرف على الآثار التي خلفناها وراءنا والتي لا تزال تعمل فينا بصورة أو بأخرى لأن وحدات التاريخ (الماضي -الحاضر -المستقبل) وحدة عضوية ووجودية غير قابلة للإنفصال، ولأن التاريخ خبرة وتجربة فإنه يظل يعلمنا على الدوام وينمي وعينا وذاكرتنا الفردية والجماعية بقيم التحضر والتمدن ومواجهة المستقبل بدون عقدة أو خوف وهذا كله في إطار تجربة الحياة المعقدة لأنه «من مجرى حياتك تتعلم كيف تحيا ولكن أن تراقب أعمال الناس في الماضي فهذا يعني أنك تضيف أعمارا من الماضي إلى عمرك وأنك تحيا أكثر من حياة  واحدة »

وهذا هو المعنى الأكبر الذي يعلمنا إياه درس التاريخ.

 من التاريخ إلى فلسفة التاريخ: (حدود التواصل والتجاوز)

إذا كان التاريخ في عمومه يعني معرفة الماضي البشري من خلال دراسة الأحداث الإنسانية المختلفة فإن فلسفة التاريخ تحاول أن تستكشف المنطق العام الذي يحكم سير هذه الأحداث بواسطة ربط الأسباب بالنتائج.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تناقض في العبارة أي (فلسفة التاريخ) وهذا من خلال ربط الفلسفة التي تبحث فيما هو ثابت مع التاريخ الذي يبحث فيما هو متغير وهنا نجد أنفسنا في مواجهة الكثير من الأسئلة ومن بينها: «أليست الفلسفة تستهدف الكشف عن الحقيقة أعني أنها تريد أن تفهم وأن تدرك ما هو حق أي ما هو ثابت وخالد وأبدي في ذاته ولذاته ومن المستحيل عليه أن يتغير في حين أن التاريخ لا يحدثنا إلا عن موضوعات متغيرة(-) فكيف يمكن إذن أن يلتقي التاريخ  وموضوعه المتغير والفلسفة وموضوعها الحق الخالد على صعيد واحد؟» .

و لكن هذا التعارض المبدئي في العبارة سرعان ما نكتشف أنه تعارض شكلي فقط لأن التاريخ وإن كان يتناول أحداثا جزئية منفردة ومحددة في الزمان والمكان إلا أنه في الأصل ومن الناحية الفلسفية والأنطولوجية يبقى وحدة متكاملة وصيرورة متدفقة لأن أحداث التاريخ وإن كانت تختلف في الزمان والمكان إلاّ أنه يبقى هناك منطق عام يحكمها وينتظم مسارها ومسيرها وهذا المنطق لا يمكننا الكشف عنه إلا إذا انتقلنا من الأجزاء إلى الكل، أي من المتغير إلى الثابت، كما أن دراسة التاريخ ومن وجهة نظر منهجية تبقى عديمة الجدوى وبدون فائدة ما لم تكن هناك نظرية فلسفية توجهها على الصعيد المنهجي والمعرفي لأن هذا كفيل للمؤرخ أو للباحث بأن يتقدم في البحث وأن تكون نتائجه منطقية ومقبولة وفي هذا الإطار يقول جوزف هورس «التاريخ أبعد ما يكون عن أن يحل محل الفلسفة وأن يفرض على الناس حكمة مستخلصة من الوقائع لأن الأمر على العكس، فالفلسفة هي التي تنسق التاريخ وتبنيه وتعطيه اللحمة التي يحتاجها، وبلا فلسفة نستطيع أن ننكر وجود التاريخ».

و في نفس الإتجاه يرى الدكتور ناصر الدين سعيدوني «أن المفاهيم الفلسفية ضرورية لفهم سير التاريخ وتفسير أحدثه. فالتاريخ بدون فلسفة لا يتوفر على الرؤية الشاملة والمفهوم المنطقي والتفسير العقلي، كما أن الفلسفة بلا بعد تاريخي تفتقد المدى الزمني الذي بدونه تنتفي الرؤية ويبطل التفاعل، وهذا ما يجعلنا نقر بأنه لا منطق في التاريخ بدون فلسفة».

إن هذا التحليل المنطقي في العلاقة بين الفلسفة والتاريخ ضروري جدا وهذا لإبراز العلاقة الجدلية بينهما وكذلك درجة التفاعل التي تجعل كل طرف يؤثر على الطرف الآخر.

أما إذا عدنا إلى المصطلح وإلى إطاره التاريخي أي مصطلح فلسفة التاريخ فسوف نجد أن أول من استعمله هو الفيلسوف الفرنسي فولتير Voltaire(1694-1778) وهذا لا يعني أن مضمون فلسفة التاريخ لم يكن مبثوثا من قبل في أبحاث الفلاسفة والمؤرخين ولكن المصطلح فقط يبقى من نحت وصناعة فولتير وكان يقصد بهذا المصطلح «دراسة التاريخ من وجهة نظر الفيلسوف أي دراسة عقلية ناقدة ترفض الخرافات وتنقح التاريخ من الأساطير والمبالغات وهو في ذلك يعني كل رواية غير مقبولة لدى العقل أو محتملة الشك».

وإن كان فولتير من هذه الناحية قد أوجد الأرضية الفلسفية لهذا المصطلح المتمثلة في نقد وتحليل أحداث التاريخ إستنادا إلى مقولات العقل . فلقد جاء من بعده مفكرون آخرون ساروا على هذا النهج وطوروا هذا المصطلح من حيث المضمون ومن بينهم المفكر الفرنسي كوندرسيه Condercet (1743-1794) الذي تمخضت آراؤه في التاريخ عن مؤلفه الموسوم (عرض تاريخي لتقدم العقل البشري) الذي يدافع فيه عن نظرية التقدم وعن حرية الإنسان ومسؤوليته في التاريخ . إلاّ أن فلسفة التاريخ تطورت وارتقت إلى مستوى المفاهيم والنظريات والمذهب مع الفلسفة الألمانية فلقد طرحت العلاقة بين الفلسفة والتاريخ طرحا نظريا ومفاهيميا بعد أن نشر هردر Herder (1744-1803) سنة 1784 الجزء الأول من كتابه (أفكار في التاريخ الفلسفي للإنسانية) وكان ذلك بمثابة ميلاد فلسفة التاريخ بصفة رسمية في الفكر الغربي ويمكن تلخيص نظرية هردر في التاريخ على أساس أن هذا الأخير يرى «أن التاريخ كله يخضع لقانون واحد شامل ويقوم هذا القانون على ثلاثة أفكار رئيسية : التواصل والاستمرارية (ContinuIté) والغائية (Finalité) والعود الأبدي (Retour eternel)».

غير أن هذا الطرح النظري للتاريخ عند هردر سرعان ما فسح المجال في الفكر الغربي لطرح جديد أشمل وأعمق منه وهذا بظهور كتاب هيجل Hegel (1770-1839) الذي نشر بعد وفاته سنة 1837 بعنوان (محاضرات في فلسفة التاريخ) وفي هذا الكتاب يرى هيجل أن «فلسفة التاريخ لا تعني شيئا آخر سوى دراسة التاريخ من خلال الفكر».

و لكن فلسفة التاريخ بعد هيجل انقسمت إلى قسمين وهذا من خلال محاولات المؤرخين والفلاسفة الإجابة عن سؤالين متكاملين وهما : كيف نكتب التاريخ؟ وكيف نفسر التاريخ؟

أما القسم الأول فهو مرتبط بالسؤال الأول وهو ذو طابع تحليلي نقدي اصطلح على تسميته بالفلسفة النقدية للتاريخ وأما القسم الثاني وهو مرتبط بالسؤال الثاني وهو ذو طابع تركيبي اصطلح على تسميته بالفلسفة التأملية للتاريخ، ففلسفة التاريخ إذن تنحل إلى قسمين: قسم تحليلي وقسم تركيبي وإن شئنا أن نوضح أكثر نقول قسم ذو طابع علمي وقسم ذو طابع فلسفي وبناء على هذه الأسئلة وهذه التحديدات المنهجية لمصطلح فلسفة التاريخ نجد أن الدراسات الحديثة في التاريخ تمخضت عن «منهجين مختلفين من البحث الفلسفي في التاريخ تربط بينهما علاقة ما على الرغم من هذا الاختلاف يتناول القسم الأول منها التحليل المنطقي والتصوري للمفهومات التي يقوم عليها البحث التاريخي أما القسم الآخر فإنه يحاول أن يكشف معنى أو مغزى للمجرى العام للتاريخ أو الطبيعة العامة لحركة التاريخ» .

واستنادا إلى هذا التحليل وهذه المعطيات نريد أن نوضح مسألة فقط وهي أن الفلسفة النقدية للتاريخ قد ظهرت حديثا بعد هيجل لأن «الفلسفة التقليدية للتاريخ (التأملية) تجد كمالها في نسق هيجل بينما الفلسفة الحديثة للتاريخ (النقدية) تبدأ من خلال رفض الهيغلية».

أما إذا جئنا إلى الفلسفة النقدية للتاريخ فإن قضاياها تتعلق أساسا بقضايا المنهج ومنطق البحث التاريخي ويمكننا أن نربط مشاكلها المنهجية والمعرفية بالسؤال الكانطي: هل المعرفة التاريخية ممكنة ؟ وكيف نعرفها؟ وما هي حدود معرفتنا بها؟ ويمكن تلخيص مشاكل الفلسفة النقدية للتاريخ بمشاكل المنهج والموضوعية والحقيقة . ونجد أن هذا التيار الفلسفي في دراسة التاريخ قد ظهر بصفة خاصة في فرنسا مع مدرسة الحوليات ومع مؤسسي المدرسة وهما : لنجلوا -Langlois وسنيوبوس -Seignobos وهذا بعد صدور مؤلفهما المشترك (المدخل إلى الدراسات التاريخية) الذي ظهر سنة 1898.

أما الفلسفة التأملية في التاريخ فإن قضاياها مرتبطة أساسا بالفكر المجرد لأن فيلسوف التاريخ يحاول أن يتجاوز أحداث التاريخ لكي يصل إلى تحديد معنى التاريخ وغايته وتفسير طبيعة حركته لأن التاريخ صيرورة ومادام كذلك فإن فلسفة التاريخ تعني للفيلسوف «العلم بالتحولات والتطورات التي تنقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى والقوانين المتحكمة في هذه التطورات والتحولات وبعبارة أخرى العلم بصيرورة المجتمعات لا بكينونة المجتمعات»

وإذا أردنا أن نوضح أكثر المنظور المعرفي لفلسفة التاريخ فنقول:«إن فيلسوف التاريخ هو الذي يكشف لنا معنى نشاط الإنسان وفعله على الأرض وبإمكانه أن يسأل ماذا تعني الحياة البشرية وما الأهداف التي يسعى إليها الوجود التاريخي للإنسان، وما القيمة الحقيقية للتاريخ البشري وهل يتحرك التاريخ بلا مغزى؟ وهل أهداف التاريخ أهداف تنبع من داخل الإنسان أم من خارجه؟ وهل يمشي التاريخ نحو الرقي دائما أم أن له دورات يتعاقب عليها إلى آخر هذه الأسئلة الكبيرة» .

وما يمكننا التنبيه عليه في إطار هذه الإشكالية العامة للتاريخ وهي أن رؤية المؤرخ العادي للتاريخ تختلف عن رؤية فيلسوف التاريخ، صحيح أن فيلسوف التاريخ يستفيد من الأحداث التي يرويها المؤرخ العادي لكن فيلسوف التاريخ يخضع هذه الأحداث الجزئية إلى نظامه الفلسفي والأخلاقي والجمالي فيشيد منها نظرية متكاملة في التاريخ وهذه المهنة تتجاوز مهنة المؤرخ العادي فهذا الأخير لا يمكنه أن يحكم على حركة التاريخ ككل فهو «ليست لديه مبادئ فلسفية أو أخلاقية أي ليست لديه أسس يقيس بها التغيير أو الإستمرارية وعلى ذلك فليس في مقدوره أن يحكم على التطور أو الظهور أو السقوط أو النمو أو الركود أو الانحلال أو الخصب أو العقم» .

وتجدر الإشارة أيضا إلى مسألة مهمة في إطار الإنتقادات التي وجهت إلى فلسفة التاريخ التأملية حيث نجد مثلا الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر الذي قدم انتقادات لهذا النوع من التفكير حيث يرفض كل نظرية في تفسير التاريخ،يقول كارل بوبر: «فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني وهذا معناه أنه يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسا للتنبؤ التاريخي » .

ولكن كارل بوبر يعترف بقوة فلسفة التاريخ في بنائها النظري والفكري ومن حيث تأثيرها على العقول يقول بوبر « حاولت أن أظهر دلالة المذهب التاريخي باعتباره بناء عقليا يستحوذ على الاهتمام حاولت أن أحلل منطقه وكثيرا ما يكون دقيقا قويا خادعا وحاولت التدليل على أنه يعاني من نقص متأصل فيه ولا سبيل إلى إصلاحه».

ولكن رغم هذا الموقف النقدي لبوبر من فلسفة التاريخ إلا أننا نعتقد أن التاريخ ليس سلسلة من المصادفات بدون أن تكون لأحداثه معنى، لأن كل مجتمع يتطلع إلى المستقبل والكمال بفطرته ويأتي فيلسوف التاريخ ليرسم الصورة الفكرية المثلى لهذا المجتمع وهو يتطلع إلى الكمال .

وما يمكن استنتاجه أيضا والتنبيه عليه هو أن لكل مجتمع نظرة خاصة إلى التاريخ وأن فيلسوف التاريخ لا ينطلق من فراغ عندما ينظر للتاريخ فهو يتأثر ببيئته وثقافته ومشاكل عصره ،لذلك تأتي نظرته للتاريخ متأثرة بهذه المؤثرات إن كان ذلك بطريقة شعورية أو لا شعورية .فموقف «الفيلسوف من التاريخ أو موقف المؤرخ من الفلسفة ليس موقفا مطلقا خارج التاريخ بل هو موقف لا يمكن أن يفهم إلا بالنظر إليه من داخل التاريخ نفسه فلابد من ربطه بالصراعات الإيديولوجية التي أوحت به وأمدته بالمناخ الذي يتنفس فيه» .

و بناء على هذا يمكن أن نعتبر أن كل فلسفة تاريخية هي فلسفة نسبية لأنها وليدة الزمان والظروف والبيئة التي سمحت بظهورها وبدون هذا الموقف النقدي الواعي تصبح فلسفة التاريخ لا هوتا أو عقيدة دينية مثل الهيجلية والماركسية وهذا ما يتعارض مبدئيا مع طبيعة التاريخ وجوهره بصفة عامة.

 

الدكتور قادة جليد  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم