صحيفة المثقف

اللغة الفيلية في كتاب

mohamad taqijonالحمدُ لله الذي جعل اللغة العربية لغتنا الأولى في المعاش، والتفكير، والعبادة. وقد أتيح لي أثناء الخدمة العسكرية التعايش مع فيليي بغداد وخانقين وجلولاء وسواهم، فألممت باللغة الفيلية الماماً جيداً. ثم أصبحتْ في مجال اهتمامي حين كتبتُ في الشأن الفيلي.

تعدُّ الفيلية أفضل اللغات الكردية غناءَ مفردات، وجمالَ عبارات، ومرونةَ تشكيل، وتراث أدب. وتضم لهجات كثيرة يوصلها بعضهم إلى سبع عشرة لهجة. وهي لغة منسوبة إلى أرض (فهلة) المتمثلة بالمناطق الحدودية بين العراق وإيران، فسميت (الفهلوية)، وسمي أهلها (الفهلويين). ومع التطور اللساني قلبت الهاء ياءً فسميت (الفيلية) وسمي أهلها (الفيليين).

اتخذت اللغة الرسمية من قبل الدولة الميدية والأشكانية. وكانت – حسب قول ياقوت الحموي وابن النديم - اللغة الرئيسة ضمن اللغات الخمس الرسمية للدولة الساسانية: الفهلوية والدريَّة والفارسية والخوزية والسريانية؛ اذ كان يتكلم بها الملوك. وكانت سائدة في العراق قبل الفتح الإسلامي.

 بمجيء الإسلام اتخذت الفيلية لغة للدواوين، لأنَّ الفتح وقع في أراضي الفيليين، وهم الموالي الأوائل. وقد حدث خلط كبير فنسب الكثير مما للفيليين إلى الفرس. واستمرت الفيلية لغة للدواوين في صدر الإسلام والعصر الأموي، حتى جاء العصر العباسي فسادت الفارسية بعد أن صار الفرس شركاء العباسيين في صنع الدولة.

 ومبكراً تغلغلت مفردات كثيرة من الفيلية في اللغة العربية مثل: ديوان، رستاق، طسوج، جام، تخت، وصيغ مثل: كيفية، ماهية، روحاني، نوراني. وفي خطب الإمام علي () صيغ فيلية مثل (رباني) في قوله:" الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع".

 بسيادة الفارسية أفل نجم الفيلية سياسياً، ولكنه بزع في الأدب حين تفرغت الفيلية للشعر. وقد أثبتت جدارتها في التعبير عن المشاعر الشخصية والدينية (العرفانية). وظهر بابا طاهر عريان في القرن الرابع قمة شعرية فيلية في رباعياته الرائعة المعروفة بـ(الفهلويات)، وهو أول شاعر كردي كبير على الإطلاق. وظهر بعده شعراء فيليون كبار مثل: ملا أحمد باطي، خاناي قوبادي، فقي طيران، وظهرت نتاجات خالدة في الشعر الفيلي كتبت باللهجة الگورانية (الفيلية) التي أصبحت لغة الشعر الكردي قاطبة، واستمر الشعر يكتب بها حتى العصر الحديث، فقد اتخذت لغة الأدب والمراسلة من قبل الدولتين البابانية (في السليمانية) والاردلانية (في دهوك) في القرن التاسع عشر، وبظهور السورانيين أصبحت اللهجة السورانية المستحدثة لغة الشعر بدل الفيلية.

تفترش اللغة الفيلية مساحة واسعة في إيران والعراق؛ في ايران تتركز في الوسط والجنوب الغربي لإيران، وما يقابل ذلك في العراق من الوسط والجنوب الشرقي إلى ضفاف دجلة. وتتركز في بغداد، وديالى، وواسط، وبابل.

 ومنذ ترسيم الحدود بين إيران والعراق عام 1929م انقسم الفيليون رسمياً إلى فيليين عراقيين، وفيليين إيرانيين، وهذا أعطى للفيلية العراقية سمات خاصة تميزها عن الفيلية الإيرانية. وهذه السمات حددتها طبيعة حياة الفيليين العراقيين ومعايشتهم للعرب؛ واهم صفاتها أنها أصبحت في أكثر المناطق ولاسيما الوسط والجنوب للاستهلاك الحياتي فقط دون الأدبي والعلمي، وهذا أفقدها الكثير من مفرداتها وأساليبها ذات الطابع الكمالي والجمالي. وبسبب الامتزاج الحياتي مع العرب، تركت الفيلية كلمات وعبارات فيلية كثيرة حلت محلها كلمات وعبارات عربية. وبعض الجمل الفيلية كأنها ترجمة أمينة لجمل عراقية محلية. وصارت الفيلية في كثير من تراكيبها كجمل الأفعال المتعدية، والمضاف والمضاف إليه تبنى على القواعد العربية.

 ومثلما تأثرت الفيلية بالعربية والعراقية الدارجة، فانها أثرت بالمقابل في العامية العراقية في مفردات مثل: (مردانه) بمعنى (مرجلة)، وهي من (مه‌رد) الفيلية بمعنى رجل، ومصدرها الفيلي (مه‌ردايه‌تي) . و(صرماية) بمعنى رأس المال، من (سه‌رمايه) الفيلية بالمعنى نفسه. و(طرشي) من (ترش) التي تعني بالفيلية الحامض. و(بقچة) للبستان الصغير، وهي بالفيلية (باغچة) بمعنى البستان الصغير، و(چمچة) بمعنى مغرفة الطعام، وأصلها فيلي هو (كه‌مچه) وتعني مغرفة الطعام الصغيرة، وفي العامية العراقية (عايشين بصايتك) فـ(صاية) أصلها فيلي هو (سايه) بمعنى ظل، فيقولون (ده سايه‌ي خوت بژيمن = عايشين في ظلك).  ويصيحون على القط (پشت) وهي مأخوذة من (پشيا) (قط) بالفيلية. ويقولون للتحفيز (عفية) وهي مأخوذة من الكلمة الفيلية (عافه‌رم). ويقولون (عنده تنگ) واللفظ العربي الصحيح (عنده ضيق)، وهي مأخوذة من الفيلية (تنگ) وتعني ضيّق. ويقولون في العامية العراقية للبنت النادرة والشاطرة (چيوانية) والكلمة منقولة من الفيلية في وصف البنت التي تحمل على عاتقها واجبات البيت، فيقال لها (كێنو)، و(كێنو باوكي) أي شاطرة أبيها. ويقولون عامياً (الكروة) وهي كلمة فيلية (كرێ) وعربياً الاجرة. ويضيفون لصاحب المهنة مقطع (چي)، فيقولون: (فيترچي)، (عبايچي)، (أوتچي). وهو اقتراض من الفيلية مثل: شكارچي: صياد، كه‌موته‌رچي: مطير الطيور، شاگرده‌چي: صانع. واللغة العربية الفصيحة تضيف لصاحب المهنة (الياء) مثل: حمامي، ساعاتي، بستاني.

كما أخذت العراقية الدارجة من الفيلية عبارات كثيرة منها: (طحت وراه) أي تعقبته، مأخوذة من الفيلية (كه‌فتم دمۆي) بمعنى تعقبته وحرفيا (سقطت وراءه = طحت وراه). وعبارة (لا تاكل قهر) والعربية الصحيحة تقول (لا تحزن)، وهي مأخوذة من الفيلية (خوصه‌ت نه‌خور) بمعنى لا تحزن، وحرفياً (قهر لا تأكل). ونقول بالعامية العراقية (بطنه تمشي)، واللفظ العربي لهذه الحالة هو (إسهال)، و(بطنه تمشي) ترجمة حرفية لـ(زگي دچي) الفيلية التي تعني الإسهال. وغير ذلك كثير.

ظلت الفيلية في وسط وجنوبي العراق محافظة على وجودها النسبي بمجمعات عرفت بـ(عگد الأكراد) في بغداد والكوت والحلة وغيرها. وكانت مقبولة من الشارع العربي، إلا أنَّ محاربتها من البعثيين وقمع الفيليين واتهامهم بالتبعية الإيرانية، جعلها تنكفئ في البيوت الفيلية. ومع الإرهاب الحكومي اختفت حتى من البيوت، فلم يعد الأب يعلّم أولاده الفيلية لغة الأجداد خوفاً من النظام عليهم، حتى اندثرت أو كادت عدا المناطق التي أغلبيتها من الفيليين، كالكفاح وأبو سيفين في بغداد، وخانقين، ومندلي، وجلولاء، والسعدية، وغيرها.

إنَّ الظلم الذي يقع على الإنسان ظاهر ومرئي، بينما الظلم الأقسى الذي يطول اللغات غير ظاهر ومرئي، وقليلا ما ينتبه عليه. فقد اجبر (تل) البريطانيين على التحدث بالفرنسية بعد الاحتلال الفرنسي لبريطانيا، وغيّرت الانكليزية لصالح الفرنسية بمقدار 60% . وفرض الانگليز لغتهم على الهنود بعد احتلالهم الهند. وعملت الدول الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا واسبانيا على محو اللغات الأفريقية المحلية وجعل لغاتها البديل منها. واستطاعت فرنسا فرض الفرنسية على الجزائر ردحاً من الزمن جعل الجزائر تعاني من اجل إعادة اللغة العربية إلى الوجود. وهذا وقع بشكل اقسى مع اللغة الفيلية فنسيت في الوسط والجنوب، فالفيلي اليوم لا يعرف خمس كلمات فيلية، وإذا نطقها ينطقها خطأ. ولهذا السبب عملت على جمع اللغة الفيلية رفعا للظلم الواقع عليها من البعثيين، ولكونها لغة عراقية أصيلة.

اعتمدتُ فيه على معايشتي للفيليين، والسماع لكبار السن، والاطلاع على التسجيلات في النت، واستشارة المثقفين الفيليين، وافدت قليلا من كتاب (مقترح للكتابة باللهجة الفيلية) للأستاذ (هيوا زندي) لأنه يخلط الفيلية بالگرميانية، ومن كتب سورانية مثل (الشامل لتعليم اللغة الكردية) لـ(نور الدين مردان) لوجود مشتركات بين السورانية والفيلية.

أقدم هذا الكتاب المتواضع في تعليم الفيلية للفيليين غير العارفين بلغتهم، وللعراقيين من العرب والقوميات الأخرى، إذ يجدر بالفيلي معرفة لغته، وبكل عراقي الإلمام بها بدرجة معينة لكونها لغة عراقية أصيلة. متمنياً أن تملأ فراغاً علميا واجتماعيا. وهي لفرط سهولتها تفتح الباب لمتعلمها ليتعلم الانگليزية، واللهجات الكردية الأخرى، واللغة الفارسية، لأنها لغات من عائلة واحدة وتشتغل على الآلية نفسها.  

يقع الكتاب في (250) صفحة، ويشتمل على أكثر من (3000) كلمة وجملة فيلية. وقد راجعه الأستاذ (عبد الواحد جمعة فيلي) وهو من المثقفين الفيليين البارزين. واني انتظر الدعم المالي لطبعه ليوزع مجاناً على أوسع مجال لتعميم فائدته.

 

أ.د محمد تقي جون الحسني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم