قراءة في كتاب

محمد حسين الداغستاني: قراءة في كتاب (تأويل النصوص في القانون) للقاضي عواد حسين العبيدي

التأويل والتفسير وأثرهما في ترسيخ القانون

يشتد الجدل بين آونة واخرى حول بعض نصوص القوانين النافذة خاصة تلك التي تتعارض مع المصالح والأهداف المعلنة او المستترة للأشخاص أو الجماعات وقد يصل الأمر إلى إستخدام شتى الوسائل غير المشروعة في فرض إرادتها لتمرير تأويلات أو تفسيرات قد لا تتوافق مع إرادة المشرع الذي وضع المصلحة العامة أمام عينيه قبل مصلحة أي طرف ما، بل وقد يطال الأمر إلى إستخدام أساليب وتقنيات تبدو في مظهرها أنها تنهل من الدستور لكن بغاية وهدف تعسفي وسلطوي محض، وهناك عشرات الحالات التي شهدت معاناة القضاء في العراق اثناء فترات خضوعها لهيمنة السلطة التنفيذية سواء في ظل النظام الشمولي او في ظل الفوضى السياسية التي تغيب فيها الرقابة .

ويرى أغلب الباحثين في الشأن القضائي أن التأويل او التفسير للنصوص لا يتم سوى من خلال فهم القاضي للواقع أولا ومن ثم فهم القانون والعدل ثانيا وبالتالي ماهية نظرة الدين والتشريع المدني الى هذه المسألة الحيوية، ومن هذا المنطلق تناول القاضي عواد حسين ياسين العبيدي بإسهاب كل ما له علاقة بهذه الاشكالية القانونية من خلال كتابه الموسوم ( تأويل النصوص في القانون) الذي صدر له مؤخرا.

والقاضي عواد العبيدي المولود في العام 1972 في قضاء الحويجة بكركوك تخرج من المعهد القضائي في العام 2003 وانتدب للعمل في عدد من الهيئات والمحاكم منها عضوا في محكمة جنايات كركوك الثانية ورئيسا احتياطيا لمحكمة أحداث كركوك وقاضيا لمحكمة بداءة كركوك ورئيسا للجنة تثبيت الملكية واخيرا نائباً لرئيس محكمة إستئناف كركوك فضلا عن كونه عضوا في الاتحاد العربي لحماية حقوق الملكية الفكرية وهي إحدى هيئات جامعة الدول العربية، كما وصدر له 27 كتابا فضلا عن نشره لعشرات البحوث والدراسات المنشورة في شتى الاختصاصات القانونية والقضائية .

وقد قدم للكتاب الدكتور عصمت عبدالمجيد بكر مستشار ورئيس مجلس شورى الدولة السابق والاستاذ في جامعة جيهان في اربيل الذي أشاد بإعتماد الباحث على أمهات المصادر والمراجع في الفقة الإسلامي والقانوني، وهذا يدل على مدى الجهود الصادقة المضيئة التي بذلها المؤلف في سبيل إعداده وعلى مدى حرصه ودقته رغم عمله القضائي المضني الذي لم يمنعه من الانصراف الى التأليف والكتابة والمتابعة .

يقسم المؤلف كتابه الى بابين الأول يشرح فيه مدلول التأويل لغة وشرعا وقانونا ويستعرض فيه مواضيعا مثل الفرق بين التأويل والتفسير لغة، ومدلول التأويل شرعا والفرق بين التأويل والتفسير في الاصطلاح الشرعي ومدلول التأويل قانوناً والجهة المختصة بالتأويل وسلطة القاضي المدني في تأويل النصوص القانونية الى جانب شرح نطاق التأويل وأنواعه في الفقه الاسلامي والقانون ويستند في ذلك على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول مؤكدا على الفرق بين التأويل والتفسير لغة.

ويشير المؤلف الى (أن الموضوعية في التفسير لا يمكن بأي حال تجاهل هموم المفسر وعمره وإطاره الفكري والثقافي ومعطيات العصر وتطوره وهي وإن تظاهر أن لا وجود لتلك الأمور وظهر تجرد وموضوعية المفسر فإن الحقيقة أنه لا يمكن التسليم بهذا الإنعزال عن واقع الحياة) ويمضي مشيرا الى (أن التأويل بيان منتهى الامر وهو توجيه الكلام الى ما يتوجه إليه، فالتأويل هو رد الشيء الى الغاية والمراد منه بيان غايته المقصودة منه، فالتأويل ذو وجوه متعددة فيما أن للتفسير وجه واحد).

الخلاف الفقهي بين الفقهاء

في الباب الثاني الذي قسمه المؤلف الى فصلين تناول في أوله مشروعية التأويل وشروطه في الفقه الاسلامي والقانوني وتطرق على وجه التخصيص الى الأراء القائلة بالتأويل وشرعيته والمانعين له وخضوع التأويل للرقابة القضائية وشروط التأويل في الفقه الاسلامي والآثار المترتبة على عدم توفر شروط التأويل وحالات التمييز الوجوبي في القانون الجنائي والمدني. ثم خصص مبحثاً خاصاً عن الجهة المختصة بالرقابة على تأويل النصوص في القانون، وموقف القضاء العراقي من تأويل النصوص القانونية فأكد بأن موضوع التأويل (اثار خلافا فقهيا حادا بين الفقهاء فمن الفقهاء من يقول بشرعية التأويل ومنهم من يمنع التأويل وحتى بين القائلين بالتأويل هناك اختلاف حول النصوص القابلة للتأويل ومدى قبول تلك النصوص للتأويل عليه) ويضيف بأن التأويل المذموم هو تأويل المتشابه إبتغاء الفتنة وبدون علمٍ وطلبا للشبهات، واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم وسموا بأهل الزيغ أي الميل عن الحق وان فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك على المؤمنين او قصد تأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم اي الاضلال لأتباعهم إيهاما لهم انهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن) ويخلص الى (ان من يؤول المتشابه ان يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم فاولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأمتها وعلمائها) .

ومن الاشارات الهامة التي أوردها المؤلف في هذا الفصل (ذهاب محكمة التمييز الى تأويل النصوص بما يوائم المصطلح القانوني والمصطلح الشرعي إنما هو عن طريق توافر شروط التأويل ووجود قرينة أو دليل يؤدي إلى عدول المحكمة من النص الظاهر والمعنى الراجح وصرفه الى المعنى المرجوح مستهدفة في ذلك إلى ضوابط وأسس معقولة ومقبولة بغية الوصول الى تحقيق العدالة والشكل الذي تتلافى فيه العيوب في نصوص القانون) كما أكد القاضي العبيدي بانه (اذا لم يكن اللفظ محتملا المعنى الذي صرف اليه النص او كان المعنى محتملا ولكن لم يظهر دليل يؤيده فالتأويل فاسد، فاذا أوّلت المحكمة النص تأويلاً فاسدا كان الحكم خاطئا حتى لو طبقَت النص تطبيقا صحيحا وفق المعنى الذي أولته فاعتبرت أنه هو المقصود بالنص).

ودعا المؤلف في خاتمة الكتاب الى حاجة الموضوع الماسة الى المناقشة وفتح قنوات التحاور الحر المعتدل البعيد عن التعصب الأعمى للرأي دونما وجل أو خوف أو تردد من أجل الوصول الى الحقيقة المجردة المبنية على أسس علمية وموضوعية بحتة .

لا شك أن فهم التأويل ومعطياته هو المدخل السليم لإدراك ما يجري حولنا أحيانا من محاولات لقلب وتغيير جوهر النص في التشريعات بغض النظر عن مشروعيته باسم القانون وبالتالي فإن هذا الفهم سيقود حتما الى ترسيخ التطبيق الصائب والسليم للتشريعات النافذة .

***

محمد حسين الداغستاني

في المثقف اليوم