صحيفة المثقف

الحاجة لتدريس مقارنة الأديان

abduljabar alrifai2منذ عدة سنوات تنامى عددُ المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تهتم بالتسامح والتعايش وقبول الآخَر والحوار بين الأديان، وهي ظاهرة صحية في فضاء تتفاقم فيه أزماتُ التدين، واحتلالُ الجماعات المتوحشة صدارةَ الصورة في الإعلام، غير أننا قلما نسمتع إلى حديث واقعي في مثل هذه الملتقيات، فمعظم من يتحدثون يكرّرون عبارات أضحت أقربَ للافتات المجاملات في العلاقات العامة، عبارات لا تخلو من تمجيد وثناء.كلّ العبارات تشترك في القول بأن الأديانَ منزهةٌ من كلّ هذا العنف المتوحش المتفشي اليوم، وكلُّ متحدث ينزع لتبرئة ديانته ومذهبه من كلّ ما يمكن أن يسئ للإنسان المختلف، على الرغم من أن الممارساتِ المتشدّدةَ تصدر عن أفراد متدينين ينتمون لجماعات دينية معروفة، وترفدها مدونات كلامية وفقهية معروفة.

لم تعد تبرئةُ الدين مفيدةً اليوم، المفيد هو قدرتنا على الاعتراف الصريح الذي لا يتجاهل الحضورَ الإعلامي المكثّف لنمط تديّن متشدّد يستقي منابعَه من التراث الديني، وتغذيه المؤسساتُ ووسائلُ الاتصال والماكنةُ الإعلامية التي تنتخب التراثَ المتشدّدَ المغلقَ، لتوظّفه في التربية والتعليم والتثقيف والإعلام.

الدين كائن حي ينمو ويتطور ويمرض، وربما يصاب بسرطان مميت. فربّ ديانة منفتحة انغلقت، وربّ ديانة مغلقة انفتحت. من هنا تأتي الحاجةُ لتتابع النبوات، والضرورات الأبدية لإصلاح الأديان وتجديدها. فليس هناك ديانةٌ تحتكر المحبةَ والحرياتِ والحقوقَ واحترامَ كرامة الكائن البشري، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاك كرامة الانسان. في ميراث الأديان الابراهيمية مثلاً لا يصح نسيانُ مظالم الفتوحات الإسلامية، مثلما لا يصح نسيانُ مآسي الحروب الصليبة، وجرائم الصهيونية في فلسطين.

وكما تؤثر الأديانُ في المجتمعات، تؤثر المجتمعاتُ في الأديان، فما فعلته روما بالمسيحية لا يقلّ عن فعل المسيحية بروما. وما فعله الأندلسُ بالإسلام لا يقلّ عن فعل الإسلام بالأندلس. لذلك لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدونتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والانسانية فيها، وانما يتم ذلك بمقارنتها بالديانات الأخرى، مضافاً إلى اكتشاف مقدار تجلّي القيم الانسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفراداً وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.

‏الموقفُ الأخلاقي يفرض على أتباع كلّ دين الكشفَ عن أرشيفات الماضي، وإعلانَ كلّ ما يختبئ فيها، وفضحَ منابع التعصب والكراهية في تراثه مثلما يفضحها لدى غيره، والاعترافَ بأخطائه كما يتحدث عن أخطاء غيره.

الواقع الذي نعيشه اليوم يفرض علينا الاهتمامَ بدراسة الدين في سياق مكاسب العقل والعلم والمعرفة وتراكم الخبرة البشرية، ودراسةَ كيفيةِ نشأته وأنماطِ حضوره وصيروتِه عبر التاريخ، والانتقالَ في الدراسات الدينية من الرؤية التقليدية التي كانت ترى الدينَ ونصوصَه المقدّسة مرجعيةً نهائيةً في تفسير وفهم كلّ شئ، إلى رؤية تُخضِع تعبيراتِ الدين وتجلياتِه في الحياة للفهم والتفسير، بوصفها تمثلاتٍ بشرية، وكلّ ما هو بشري يقع في مدارات عقل وعلوم ومعارف وخبرات الانسان.

وإن كانت نصوصُ الدين مقدّسةً غير أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتموضع فيه الكائنُ البشري، ولا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابراً للإطار المعرفي والثقافي لذلك الكائن.

وهذا يعني أن ليس هناك ديانةٌ أو نصٌّ ديني خارجَ طرائق عيش الانسان وطبائع العمران، فالانسانُ يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته، وتؤثر في سلوكه، وهي: الجسد، العقل، اللغة، المشاعر، الغرائز، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، التاريخ، المكان. ولا يتجسد الدينُ في حياة الانسان إلّا تبعا لهذه المشروطيات، أي إن فهمَ الدين وتفسيرَ نصوصِه المقدّسة يتنوع بتنوع أنماط حياة الناس وطرائق عيشهم.

يمكن تطبيقُ المناهج العلمية في دراسة كلّ الأديان وفرقها ومذاهبها، فهي دائماً تولد نواتَها الجنينية في عصر مؤسسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرم عبر الزمان والمكان، في سياق شبكات العلاقة العضوية بين السلطة والمعرفة، فكلّ سلطة تنتج معرفةً من جنسها، وهكذا كلّ معرفة تنتج سلطةً من جنسها. السلطة الروحية تنتج معرفتَها، وهذه المعرفة تنتج سلطتَها، وهكذا هو نسيجُ العلاقة بين المعرفة والسلطة السياسية. ‫‫

تتطلب دراسةُ الأديانِ أن يتعاطى الدارسُ مع نصوصِها المقدّسةِ وتراثِها الديني بمنطق الباحث الذي يعتمدُ مناهجَ البحث العلمي، وينشدُ فهمَ المغزى العميقِ لهذه النصوص، ويهمّه التعرفُ على دلالاتِ التراث في فضاءِ السياقات الخاصة التي تشكّل فيها. ولا أظنُ أن هناك جدوىً من دراسةِ الأديان والمذاهب ومقارنتِها لو كان الدارسُ مولعاً بالتبشيرِ بمعتقده ولا يريد إلّا ترويجَه، والحرصِ على إدخالِ الآخر فيه، بوصف معتقده هو الحقّ وكلّ ما سواه باطل.

إن دراسةَ الأديان ومقارنتها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وعود الأديان وادعاءات أتباعها. ولا يتحقق ذلك إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدسة، ومدوناتِها الخاصة الحافّة بهذه النصوص، فدراسةُ اليهودية تصحّ بالعودة إلى التوراة والتلمود، ودراسةُ المسيحية تصحّ بالعودة إلى الكتابِ المقدس "العهدين القديم والجديد" ومقرّراتِ المجامع المسكونية، ودراسةِ الإسلام تصحّ بالعودة إلى القرآن وما هو ثابت من الحديث.

مالم يتسع حقلُ دراسة الأديان ومقارنتها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم  والأحكام المسبقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكام المسبقة دائماً أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.

كذلك تعمل دراسةُ الأديان والمذاهب ومقارنتُها على الحدّ كثيراً من حالات الكراهية والتعصّب والتحجّر التي تصيب من ينغلقون على تراث المذهب الذي ينتمون إليه في ديانتهم، ولا يقبلون إلا فهماً واحداً لذلك التراث.

تؤهل دراسةُ الأديان ومقارنتُها الدارسَ لغربلةِ فهمه للدين وتمحيصِ تفسيراته لنصوصه المقدّسة، واكتشافِ الروافد العميقة المغذّية لمنابع المعنى فيه، والقيم الأخلاقية الكونية التي تسقي شبكات مقولاته ومفاهيمه المركزية.

تتكفل دراسةُ الأديان ومقارنتها ببيان مكانةِ كلّ دين، والأثرِ والتأثيرِ المتبادل بينه وبين الأديان الأخرى المنتميةِ للجغرافيا الروحية ذاتها، واكتشافِ ديناميكية حضوره في حياة الشعوب المنتمية اليه. وأخيراً  يمكننا عبر مقارنة كلّ دين بالأديان الأخرى أن نتعرف على ذلك الدين من جديد. وبذلك يصح أن نقول: "من يعرف ديناً واحداً لا يعرف أي دين". كما قال الشاعر غوته من قبل: "من يعرف لغة واحدة لا يعرف أي لغة".

 

عبد الجبار الرفاعي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم