صحيفة المثقف

ريكان دبدوب.. من اقطاب الفن العراقي المعاصر (31)

khadom shamhod2ولد الفنان العراقي ريكان دبدوب في الموصل عام 1940، ودرس في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منه عام 1961، ثم اكمل دراسته في روما فرع الرسم عام 1965 .و اشتغل ايضا بالنحت على الخشب، وبعد عودته الى العراق اخذ يدرس مادة الفن في جامعة الموصل . وهو احد اعضاء جمعية الفنانين العراقيين وقد اشترك في جميع معارضها السنوية، واقام اكثر من 30 معرضا شخصيا .. وفي عام 1993 احيل الى التقاعد . وفي عام 2017 رحل دبدوب الى دار الآخرة وترك الموصل بدون ربيعين، بعدما افنى كل عمره في الرسم والابداع والتجديد واصبح من اعلام الفن العراقي المعاصر .

مسيرته الفنية:

ريكان هو ابن الموصل العريقة التي اسسها الآشوريون وجعلوا من نينوى عاصمة لهم - 883- 612 ق م – وكانت اقوى و اكبر امبراطورية في ذلك العالم القديم اشتهرت بملوكها العظماء وقصورها ومكتبتها العظيمة ومنحوتاتها المميزة التي نراها اليوم تزين معظم متاحف العالم . ولكن مع الاسف تعرضت هذه المدينة القديمة الحضارية في الفترة الاخيرة الى ابشع واشرس هجمة ارهابية من اصحاب العقول المتحجرة والظلامية، فقد حطموا آثارها واحرقو مكتباتها وهجروا اهلها وسبوا نسائها ..

كان ريكان في بداية حياته الفنية يرسم بتعبيرية واقعية لمشاهد من مدينة الموصل بقبابها ومنائرها وازقتها وتقاليدها المعمارية القديمة، وتذكرنا بعض اعماله احيانا في بنائها المعماري باعمال الفنان نوري الراوي . رغم ان الوانه كانت في البداية يطغي عليها طابع الحزن .و بعد تقدمه فكت اعماله طوق الحزن عنها واشرقت الوانها جمالا وسحرا . وكان ريكان يدرس مادة الفن في كلية الهندسة . وحينما يرسم يلتف حوله طلابه ليتعلموا منه صناعة وطريقة رسم المناظر الطبيعية بصبر وتأني وتقنية عالية . و كان واحد من انشط الفنانين العراقيين واكثرهم غزارة وعملا وحبا لفنه، وكانت اعماله تتصف بالقوة البنائية الراقية ...

اسلوبه:

تحول ريكان الى التجريد كما هي العادة عند مسيرة بعض الفنانين الحديثين وقد شرع مباشرة في بناء اعماله من عناصر واشكال هندسية كالمستطيلات والمربعات والمثلثات والثقوب واشارات رمزية وقد نفذها بشكل تعبيري مختزل على طريقة الفنان الروسي كاندنسكي 1866، واحيانا نرى بعض الاشكال عائمة في فضاء اللوحة كما هي عند الفنان الاسباني خوان ميرو 1893.. وقد استخدم في عمله مواد مختلفة مثل مساحيق الاحجار والرمل وغيرها بالاضافة الى استعمال مواد الزيت حيث اعطت هذه المواد الى سطح اللوحة ملمسا خشنا .. كما نجد احيانا وجوه تعبيرية مختزلة داخل مربعات مع اشارات رمزية وثقوب تتكرر في معظم اعماله .. وكانت اعماله التي نفذها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات كانت كثيفة الالوان زاخرة الجمال ومترابطة، وذكر البعض كانها منحوتات لها بعد ثالث . ويقول ريكان (انا وجدت نفسي الآن ... اريد رسمي ان يكون غريبا) . هذا المقولة تذكرنا بالفنان السويسري بول كلي 1879 عندما زار تونس عام 1914 وانبهر بتقاليد الفن العربي والاسلامي والشمس المشرقة حيث قال (الآن وجدت نفسي ..) . وفي آخر حياته ادخل ريكان الصور الفوتوغرافية في اعماله التجريدية الى جانب مفرداته البصرية القديمة كالاشكال الهندسية والثقوب .

يذكر ان ريكان عادة عندما يرسم منظر ما يقوم بتحويله الى تجريد مثل جداريته الكبيرة – مدينة الموصل – التي نفذت على شكل اربعة اجزاء، فهو يقوم بعملية معقدة من التحويلات حيث يبسط ويختزل ويبني ويعطي لها ملمسا تشع منه تعبيرية وشاعرية جميلة .

تكرار فتحة الانبوب :

ان ما يميز اعمال ريكان هو عنصر فتحة الانبوب او الثقب التي نراها تتكرر مزروعة في جميع اعماله وكانها تمثل هويته، وهي صفة ظاهرة عرفها وشاهدها اهل الفن والنقد منذ انطلاقة ريكان في الفن التجريدي الحديث ولازالت . ومثله كمثل الفنان العراقي حسن عبد علوان حيث نشاهد في اعماله عنصرين متناغمين هما المرأة العراقية والعمارة التقليدية . ونرى امرأة واحدة تتكرر في اوضاع مختلفة وغالبا ما يجعلها طائرة في الفضاء وتشكل الاساس في بناء اعماله التي تحكي حكايات اسطورية من الف ليلة وليلة .. وهكذا نرى ثقوب الانبوب في لوحات ريكان تتكرر باستمرار دون هوادة ..

بعض المراقبين والمحللين للفن يقولون ان تكرار الشكل في اللوحة من معرض الى آخر ومن سنة الى اخرى يعمل على شهرة الفنان بغض النظر عن جودته او جماله، لان التكرار يترك صورته في الذاكرة الانسانية، رغم ان البعض يسأم وينفر من التكرار .. ولهذ نرى بعض الفنانين يجعل هدفه الاول هو البحث عن شئ يميزه عن الآخرين مهما كان الثمن قبيحا او جميلا مقبولا او مرفوضا لدى الناس . بينما لا تخطر هذه الاطروحات على بال رواد الفن الحديث ...  واتذكر قبل فترة في احد المهرجانات الفنية ان احد (الفنانين) عرض مشهدا يعتبره لوحة فنية، تمثل شابا حيا متمددا على فراش ويصرخ بين الحين والآخر ...؟؟؟ كما شاهدت حالة اخرى عرضت في مهرجان مدريد الفني الدولي، لوحة تمثل قدح حقيقي نصفه مملوء ماء وسعره 20،000 الف يورو؟؟ .. وفي مشهد آخر وانا اتصفح وابحث عن تطورات الفن الحديث، وجدت فنانا مهتما بعمل لوحات تتشكل من الازرارات وفتحاتها او ثقوبها، ويكون منها لوحات ملمسية او بارزة او ما يطلق عليه بالنحت البارز الجاهز ؟؟؟ ربما هذه المشاهد (الفنية) الحديثة تدل على الفراغ الفكري والفني والافلاس الذي وصل اليه معظم فناني الفن الحديث .

ريكان دبدوب كان وديع الدردشة وطيب القلب ويشهد على ذلك طلابه، وهو من جيل الستينان الجيل الجاد والملتزم والمبدع والمكافح، وكانت تجاربة وخبرته مستقات من اساتذته العراقيين الرواد، وقد عمقها بدراسته في الخارج، واتذكر انه كان كل سنة يقيم معرضا شخصيا في المتحف الوطني كولبينكيان في بغداد في مطلع السبعينات .... تحياتي

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم