صحيفة المثقف

الجثّة

MM80كان دماغ الجثة ما يزال يعمل وقد تكومت أطرافها بطريقة غريبة في الصندوق الخلفي لسيارة صغيرة . كانت تفكر بمنتهى الأسى بالطموحات التي ما تزال تستقر في الجمجمة التي هُدرت حياتها والتي لم يعد أحد هناك لتحقيقها . نظرت الجثة الى الغريب من خلل تقاطعات الجرائد العديدة التي غطّاها بها الرجل، استقرت نظراتها الجامدة وعيناها المفتوحتان على سعتهما على نظرة الرجل التي لمّت الإشفاق والإشمئزاز معا وقد ارتسمت ظلالهما ثقيلة فوق وجه عربي رصين . لمحت زاوية من العينين الشاخصتين رجلاً ربعة بجلباب أبيض: انه عمي ...لا ريب إن أبي أصابه الإعياء حين أُخبر بأن ابنه صار جثّة محشورة في صندوق سيارة ما، ربما مقطعة الأوصال!. لا يدري فهو يظنّ ان أشلاءه مكومة فوق بعضها والا كيف يتسع الصندوق له وهو الفاره طولا كأبيه . أو ربما أن عمه لم يخبر أباه رأفة على كبد الهرم أن يتصدّع ... وأمّه آآآآآآآه ... ليت في يده وسيلة ليخبرهم ان لا يُروا الجثة لأمه كيما يظل جميلا في عينيها . هو لا يعرف شيئا ولا يحس ألما .. ما يعمل فقط دماغه ربما لدقائق اخرى أو لساعات، لذا لا يستطيع أن يرفع رأسه لير شيئا مما حوله ومن حوله . همد رأسه بين كومة الجرائد فأخذ ينظر الى العناوين الرئيسة التي في حوزة رؤيته ويقرأ يقرأ يقرأ ... واذ انتهى تذكر ... هـ - - - - ه - - نعم إنّهم فتية في مثل عمره دُفعوا الى الشارع ليصطادوا - كما قيل لهم – خفافيش الظلام، غير انه لم يكن خفاشا ولا وطواطا ولا طائرا من ايّما نوع، بل كان فتى الطُموح الغارق في ثقافة مفتوحة الستائر والكوى على آلاف المدن ومئات الشعوب ينهل من غدرانهم لغديره ويكرس نفسه وعقله وشبابه ليكون غدا كاتبا يملأ الصحف بفلسفاته المنتقاة وآرائه الجديدة . هو يريدها أن تصل الى أعتم نقطة وزاوية من عقول الرجال الذين يدّعون انهم رجال، والى كل الأطفال ليريهم شمس الله مشرقة في ليل المعرفة أو يسامرهم بالقصص الجميلة والملح النادرة على ضوء القمر بدرا في ليالي الربيع الذي اختاره الله لتزهر فيه وردة في كل غُصين ونبتة في كل زهرية وفكرة مضيئة في كل عقل . انسرح الدماغ لُحيظات الى وجه الحبيبة وهي تطل من نافذتها الخضراء المحفوفة بالورد و وريقات شجيرة العنب ... تطلُّ بعينين كالبحر سعة وجمالا وبغديرة هي أخت الليل يضوع منها العطر والسحر معا . غير ان ذلك كله غدا بعيدا بعيدا بعيدا وانتهى، فقد صار جثة ستلقى في حفرة مظلمة غميقة بعد سُويعات كما سواها، ويُهال عليها التراب، ثمَّ ستمد – وشيكا - شرانقُ النسيان شرائطها لتلفّها بإحكام كما لو كانت ستفرّ لو اتيحت لها فرصة .

*****

 

سمية العبيدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم