صحيفة المثقف

متوسطة الفجر في الكاظمية.. منصة أحلام مظفر النواب

jamal alatabiلم تكن السنوات التي أعقبت تموز58، ترقص بطوفان ضوء بهيج، ولم يكن الوطن متفائلاً، وتباشير أسى وملامح دماء تلوح في الأفق، وتلوثت الأيام بالصراعات السياسية والحزبية، مدينة الكاظمية شهدت حوادث عنف بعد أن كان أهلها يتقاسمون خبز الحياة، ويشرق في وجوههم الورد، حين يراقبون رفيف الحمام يحيط قبب الإمام الذهبية، وتستحم الطيور في برك صحنه الفسيح . والكاظمية مدينة تاريخ نسجته العصور، كانت بعيوننا الوطن الأجمل، وعنوان فتوتنا، وحكايات لاتأفل .

 في عام 1961 كنت طالباً في المرحلة الثالثة في متوسطة الفجر للبنين التي تشغل إحدى دور منطقة النواب في الكاظمية، وتسمية الحي تُنسب لعائلة مظفر النواب المعروفة بثرائها المالي وإمتلاكها للاراضي والعقارات منذ مطلع القرن الماضي، كنا نرقب القادم من بعيد متلفعاً بمعطف أسود سميك بلون شاربه الكثيف، تنوء يده بحزمة كتب ومجلات وصحف، قامة ممشوقة بإنحناء خفيف دليل تواضع، تؤجج فينا السؤال عن المدرس القادم بخطاه الوئيدة التي تخبيء أسراراً، وتبارك الأرض التي يمشي عليها، تلك النشوة السحرية هي الصورة التي إمتلكت حواسنا، ستظل البداية معلقة برؤية ذلك الوجه البرونزي بتدويرة تشبه رغيف الحياة، وعينين تلتمعان بالضوء كأنهما نبع من البلّور، صار إسمه طعم أيامنا المقبلات، وشِعرُه ملحاً بأفواهنا، انه المدرّس مظفر النواب .

 ليس من شك انني كنت أحتكم لعاطفة تلميذ في بداية مراهقته، وليس من اليسر تعميمها على طلبة آخرين، لكنني كنت منصتاً لصوت الإنبهار الداخلي في نموذج المعلم الذي لم أجد شبيهاً له في مراحل دراستي الأولى ولا اللاحقة، أراقب هذا القدر المتميز من الوقار الذي تحمله شخصية النواب، ويخالجني شعور ان هناك من يشاركني هذا الفرح السري الذي يتكور ويتلوى كالموجة الملوّنة في صدري، ومن هناك بدأت البوادر الأولى بالإعجاب الذي بدأت مساحته تتسع مع الزمن وتطورت لغته خلال الدرس .تلك المرحلة شهدت نشر قصيدة (الريل وحمد) في مجلة المثقف التي تصدرها جمعية الخريجين العراقيين، وتبعتها قصائد أخرى في جريدة الإنسانية لصاحبها الشاعر كاظم السماوي وجريدة الحضارة لصاحبها محمد حسن الصوري، وتخطيطات وبورتريهات في مجلة 14 تموز للمحامية نعيمة الوكيل .

 كان الطلبة يتحلقون حوله أثناء الدرس وخارجه، ويأوون إليه في ساعات مترعة بالحب والمعرفة، فيظفرون بجوهرة جمال الروح واللسان، وهم يتنافسون لإقتناص لحظة الإنتشاء الروحي بحديث يجمع مفردات المنهج واللغة والشعر والأدب، وذاكرة نادرة بالكشف حد إنارة الأعماق . قاعة الدرس بوجوده تتحول الى فردوس، وهو بوداعة طفل، يدخل منهلاً كغيمة ربيعية ترحل للتوّ من بحار الصيف الرمادية، يحكي عن طفولته، وأسرته، عن أمّه المتعلمة التي درست اللغة الفرنسية، وتجيد العزف على البيانو الذي كان في بيت والدها، يروي بإعجاب سيرة حياة عبد المجيد (والده) الذي يعزف على آلة العود ويغني في الجلسات العائلية، و(نوفه) التي علمته قراءة القرآن، وحمدي التكريتي المعلم الذي أيقظ فيه أول قدحة شعرية في مرحلة الدراسة الإبتدائية، في متوسطة الفجر عرفنا من هو (حِرز) و(صويحب)، وسمعنا بصوته (الريل وحمد)، ولأول مرة نعرف من (حافظ الدروبي) الرائد التشكيلي العراقي الذي إكتشف موهبة النواب في التلوين عندما كان طالباً في كلية الآداب، في الدرس كان مظفر يستعيد الينابيع والروافد، يعرض بعفوية بانورما (شريعة النواب) إذ تطلّ دار عائلته على نهر دجلة من جهة الكرخ، كانت منزله ومنزل آبائه وأجداده، وصالونه الأدبي الذي يستقبل فيه جمهرة من الكتّاب والمثقفين والسياسيين، ويستقبل بحنان ورعاية خاصة تلامذته، الذين نهلوا من معرفته ومكتبته المشرعة أمامهم بسخاء .

أمام هذه الدار تمتد شريعة النواب، نسبة إلى العائلة التي عُرفت بمجد سمعتها وشهرتها الواسعة، وشريعة النواب كانت مترفة بالزوارق المحملة بالبضائع والخضار والفواكه، ولتعلق أهل بغداد بسحر جمالها، غنّوا لها بأغانيهم الفولكلورية وصاغوا لها الألحان التي ماتزال يرددها المغنون .

بشريعة النواب يسبح حبيبي

وبجاه خضر الياس هذا نصيبي

في الصباحات يغتسل الندى برمل الشريعة، وفي الليل تشتعل جذوة الموج عند الصخر التي تتطهر بالماء، فمن هنا مرّ المغول والتتر الغزاة، والشريعة لا تنحني لحشود الريح الصفراء، فظلت عالية الصرح .

 وذكريات مظفر عن الشريعة تقترن بحادث غرق كاد أن يودي بحياته وهو طفل صغير، فكانت الشريعة لمظفر المهد والرمز، وإرجوحة الهوى، لاتختفي من خريطة الدنيا، وإن فُقد الوطن .يدخل مظفر المجهول في التجارب الفكرية والأدبية، ويعود للمنابت الأولى في التراث والحضارة، يضيف ويبدع، وينفذ إلى أعماق تلامذته المتميزين، مكتشفاً مواهبهم ومهاراتهم الغضّة في التفكير والكتابة، بقدر من الحب والوداد الصافي، فترك أثره الإنساني الذي لا يمحى فيهم، فكانت فيما بعد أسماءً كبيرة ومهمة في فضاء الإبداع العراقي وحياتنا الثقافية، وهم الأصدقاء : الكاتب الروائي أحمد خلف، الشاعر حميد الخاقاني، والقاص الراحل نصر محمد راغب، الكاتب رياض رمزي .

  في تلك المرحلة من تاريخ العراق، منحنا إيقاع الحياة إستجابة متواضعة في الوعي للتعبير عن حالة الإستثناء التي نعيشها، شيء من ثمار التجارب نقرأ رموزها ممثلة بعيون جيل من التربويين الرواد، مدير المتوسطة (علي عبد الحميد) طراز من المربين الذين تنبغي دراسة حياتهم الحافلة بالوطنية، كنماذج راقية علماً وأدباً وإخلاصاً ومسؤولية، ومثله كان (علي السهيل) القاص والمترجم، ومدرس الإنكليزية علي اللقماني، وغانم حمدون، ونجيب محيي الدين، ومتي الشيخ، ومحمد علي سبع،ومظفر البشير، وعبد الأمير الورد، وعبد الرضا صادق . أسماء تمتد في الزمان والمكان، وعلامات في تاريخنا التعليمي، بحضورها المتميز لجيل واهب من المدرسين .

 متوسطة الفجر كانت نفحة من عطر وحلم، نتعلق فيها، وأنفاسنا مبهورة بتلك الوجوه الباذخة الوسامة، لوجود (سعدي الحديثي) وقع خاص، مدرس الرسم، الملازم لصديقه مظفر النواب، الذي يغرينا دائماً بالتطلع إلى أناقته، قامة كغصن طري، وجه أشبه بالممثل ألان ديلون أيام شبابه، طالما يتمثله الشباب في كل ماتتسم به شخصيته، نتلقى من سعدي دروساً في الرسم صباحاً، ويمسي طالباً في كلية الآداب يدرس في قسم اللغة الإنكليزية، يدور الزمن كدورة نواعير حديثة الحزينة، ليجد سعدي نفسه شريكاً لمظفر في زنزانة واحدة من سجون الدكتاتورية والإستبداد، وكانا معاً يتقاسمان عمق اللوعة حين إفتقدا الأمل والحلم، لينطلقا بصوتيهما يتدفقان حزناً عبر نوافذ الأسرنحو الصحراء الحادة المزاج .

  حين تصاعدت فتاوى القتل، وهجر القمر حدائق المدينة حمل مظفرالنواب الشاعرالثائر بندقيته، يوم جُزّت فيه ضفائر العراق بسكاكين شرسة، وحاصرته سيوف الجلادين، كانت بناية إعدادية الكاظمية للبنين الحصن الذي لم يحم اؤلئك الذين تخندقوا فيه يقاومون إنقلابيي شباط عام 1963، كانوا بضعة مجاميع لن يأتيهم الغيث، فضاعت أصواتهم كالصدى في الريح، وصاروا وليمة سخية للقتلة، نجا مظفر بنفسه، وهو يردد (أحّاه شوسع جرحك مايلمّه الثار) ووراءه مواويل نوارسه المحاصرة في الدروب النازفة دماً . إذ لا مفرّ للبلاد أن تعيش في (عرسها) الجديد .

   في الطريق الوعر إلى إيران، كانت رحلته في منتهى الإثارة، إذ حاول عبور الحدود الإيرانية – الروسية، الإ ان سلطات الشاه الأمنية (السافاك) تمكنت من القبض عليه، وأعادت تسليمه إلى الأمن العراقي، ليلقى صنوف التعذيب الوحشي، وأحكاماً ثقيلة في السجن، وفي ديوانه الشعري (وتريات ليلية) إشارات عديدة لرحلة العناء والعذاب .

 أخيراً يبقى مظفر النواب منيراً في ذاته، مغروساً في حدائق الحياة، أحتفي به بباقة من زهور الوفاء والمحبة والإكبار بين يديه .

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم