صحيفة المثقف

علاقة الألوان بالاستعمار.. وانهيار القاعدة الاجتماعية

eljya ayshمالك بن نبي: الإنسانية تعيش ما يسمى حالة طوارئ..

"دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن الـ:20 "، محاضرة ألقاها الفيلسوف مالك بن نبي في رحاب مسجد "المرابط" بدمشق عندما زارها لأول مرة عام 1972 وهو قافل من رحلة الحج الأخيرة، كانت عبارة عن وصيته الأخيرة، تركها في ضمير أجيال تتلمس الخروج من أزمتها الراهنة، وبطلب من مالك بن نبي تولى الدكتور عمر كامل مسقاوي بنشرها، كونه كان ملازما له منذ 1956 وعهد إليه بالوصاية على تراثه المكتوب باللغة العربية بعد وفاته

لقد قامت فلسفة مالك بن نبي على التساؤلات، كما هو الشأن عند كثير من الفلاسفة العرب أو الفلاسفة الغربيين، خاصة في فترة ما بعد الحربين العالميتين، بدأت فيها الشعوب المتحضرة (التي تعيش على محور واشنطن – موسكو) تشعر بنفاذ رصيدها الثقافي، رصيد مبررات حياتها التقليدية الموروثة عن أجدادها، وظهور الوجودية كلون أدبي، ولكن مالك بن نبي لم يترك قضية من القضايا إلا وعالجها وحللها، لدرجة أنه اهتم بالطفل، وكيف كان ينشأ لو كان في زمان كيبلنج أو أرنست رنان؟، وكيف كان ينشأ في بيته؟، ثم كيف يتعلم في مدرسته؟، وبعد التخرج من الجامعة، ويتوجه إلى الحياة العملية جنديا في تلك الجيوش التي تفتح البلدان التي تسمى المستعمرات، فمالك بن نبي شخص في هاتين المحاضرتين "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين" واقع الطفل الذي نشأ في ذلك الوقت وحوله جوٌّ من الأفكار منبتها الاستعمار، أي المناخ الاستعماري الذي تكون في أوربا وفي أمريكا على حد سواء وحتى في الإتحاد السوفياتي قبل الثورة، هذا المناخ الاستعمار هو الذي كان ينشأ فيه الطفل منذ ولادته، في ذلك المناخ خرج إلى الوجود الأدبي كاتب قصصي من فرنسا اسمه جول فيرن ليرسم ملحمة عنوانها "ميشال ستروغوف"، وهي في الحقيقة ملحمة لها صلة بفتح روسية للبلاد الإسلامية في بوخارى، ولا علاقة لها بالبطولات الفرنسية، لأنها كانت جرائم في حق الإنسانية ولم تكن بطولات.

 القصة تدل على سيادة المناخ الاستعماري شرق البلاد وغربها منذ مؤتمر برلين 1881 الذي أبرم فيه الميثاق الاستعماري، ويقف مالك بن نبي على مثال حي لرجل عاش في هذا المناخ الاستعماري، إنه ستانلي stanley الذي بدأ حياته كصحفي، وكانت تغطيته الإعلامية لحملة اللّورد نابيير الأثيوبية في عام 1868 قد أربحته شهرة صحفية كبيرة، فكلّف للذهاب إلى أفريقيا لإيجاد ديفيد ليفينغستون، خاصة وأنه تأثر بفكرة الفتوحات والاكتشافات، فكان عليه أن يغادر وطنه وينزل إلى أفريقيا الوسطى، واحتل جزءًا كبيرا منها، كان ستانلي يرى في الخريطة قطعة بيضاء فأراد أن يلونها بلون ما..، كان اللون الأحمر على الخرائط المستعملة في أواخر القرن التاسع عشر مخصصا لتلوين المستعمرات الفرنسية (بعض المصادر تقول أن اللون الأحمر يرمز إلى الماسونية، غير أن مالك بن نبي يقول أن اللون الأحمر هو لون الشيوعية وهي أيضا دين، ولم يتناول مالك بن نبي الشيوعية كمذهب سياسي أو مذهب اقتصادي، وإنما تناولها كعقيدة ودين تقدم هي الأخرى مبررات).

 أما اللون الأخضر فهو لتلوين المستعمرات الإنجليزية، واللون الأصفر لتلوين المستعمرات الهولندية، واللون البني لتلوين المستعمرات البرتغالية، وقد أراد ستانلي أن يلون قطعة ما من أفريقيا بلون يخول هذه القطعة أن تكون هدية لأوروبا بوصفها مستعمرة، وقد أهداها فعلا إلى تاج بلجيكا (ملكة بروكسل)، لما تم وضع اليد على الكونغو، وكأنها ملاك أجداده، هكذا كانت الأمور تسير وهكذا كانت تتفتح نفوس الأطفال في أوروبا، فالصراع الفكري التصق بخيال الطفل، فكان كل ما يدور حوله يصور له البطولة، ومن الأمثلة التي تحدث عنها مالك بن نبي قصة الأب شارل دو فوكو الذي تطوع للذهاب في سنة 1908 مشيا على الأقدام من مدينة في جنوب الجزائر لفتح القطاع الصحراوي حتى حدود ما يسمى بالسودان الغربي تحت عنوان "الإكتشافات العلمية"، قبل وفاته ترك الراهب دوفوكو رسالة كتبها في 01 ديسمبر 1916 وهو التاريخ الذي عثر عليه مقتولا بتمنراست جنوب الجزائر، إذ يقول فيها: " كنت أرغب في أن أنقل المسيح الى أبناء المغرب، أردت أن أكون الأخ الكبير لأولئك الذين يترددون ويشكون ويترنحون، إلا أنني استقريتُ في نهاية المطاف في الجزائر"، ويضيف في رسالته: " منذ 10 سنوات، كنت أحتفل بالقداس كلّ يوم في تمنراست، إلا أنني لم أنجح في دفع أحد إلى اعتناق المسيحيّة"، وهو ما لايدل على فقدانهم المبررات الروحية، فكانوا يعوضونها بمبررات اجتماعية، وكما يقول مالك بن نبي، فقد كانت لهم ثقة لمفهومي العلم والحضارة، حتى هذين الجانبين كان مصيرهما الفشل، لأن العالم المتحضر اليوم فشل فقي عملية التعويض سواء من الجانب الأدبي أو من الجانب السياسي.

يقول مالك بن نبي إن المجتمع إذا فقد مبرراته ولم يستطع تعويضها بالطرق المشروعة، أو إذا لم يجد سندا في مسيرته التاريخية فإنه من الطبيعي أن يقع في الحيرة والتيه والقلق، ويترتب على هذا انتشار ظاهرة الانتحار في العالم، ويضرب مالك بن نبي مثلا بدولة السويد التي تعتبر أكثر تقدما، وهذا يعني بالتأكيد أن البطون إذا شبعت تبقى الأرواح متعطشة، وحين لا تجد وجهة تتطلع إليها تفضل الاستقالة من الحياة، لكن الإنسان في بعض الأحيان ضعيف، حيث يعجز حتى من القيام بمحاولة الانتحار، لأن فقد مروءته إلى درجة الفشل حتى في التخلص من الحياة بالطرق غير المشروعة، فإنه يفر منها عن طريق الموبقات، وعن طريق التدهور الأخلاقي، وعن طريق الإدمان على المخدرات، بحيث يصبح المجتمع مهددا بالخراب لأن قاعدته الاجتماعية انهارت.، يقول مالك بن نبي : " إن اللون الإسلامي اليوم يكتسح العالم ويغطي مساحة من الدنيا.

 ويقدم مالك بن نبي تصورا لدور المسلم، إذ يقول: يحب على المسلم أن يسير باتجاه التاريخ طبقا لضرورات إنشاء وتشييد داخلية وضرورات اتصال وإشعاع خارجية، وهذا يعني انه يجب أن يرفع مستواه حتى يصل إلى هضاب الحضارة أو أن يكون أعلى منها فيرفع الحضارة إلى قداسة الوجود، ويضيف إليها بعدا جديدا، ولا يقصد مالك بن نبي حضارة الصاروخ أو حضارة الإلكترون لأنها ضيعت أشياء كثيرة أولها الإنسان، ولذا يقول مالك ين نبي أن حضارة القرن العشرين أفلست قداسة الوجود في النفوس وفي الثقافة وفي الضمائر، إن الإنسانية يضيف مالك بن نبي تعيش فعلا ما يسمى حالة طوارئ، في المجال السياسي، الاقتصادي وفي المجالين النفسي والثقافي، ولذا على المسلم أن يحقق شروطا ثلاثة هي: أن يعرف نفسه، وأن يعرف الآخرين، فلا يتعالى عليهم، وألا يتجاهلهم، ولا يجوز له أن يجهل ما في نفوس الآخرين، كما عليه أن يعرف الآخرين بنفسه بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التصفية والتنقية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

 

قراءة علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم