صحيفة المثقف

في حديقة حيوان كردلان

qusay alsheekaskarربما لا تكون حكاية الأسد أكثر الحوادث ظرفا لكنها تبدو بلا شك أكثر غرابة من غيرها.. ولعلها تبقى في الذاكرة طويلا قبل أن ينساها أهالي شط العرب ومحلة كردلان كما نسي أهل البصرة  حوادث كثيرة سواء ما وقع من غرائب قبل عقود أم الأحداث التي نعيشها كل يوم ..لقد مسحت حكاية الأسد من الذاكرة عمل الإرهابيين في تفجير أسد بابل..والانتحاري الذي فجر نفسه عند مقام عبد الله بن علي.. وآخر انتحر ليهدم مئذنة الزبير..وأعمال عنف واغتيلات لا تعد ولا تحصى.

الحكاية الغريبة تلك تتلخص يوم زارنا ابن عمة والدي،كبير بلدية التنومة.قال لأبي : ياحاج انظر إلى التطور الذي حدث في العشار هناك انتصبت عين البصرة ومدينة ألعاب.ولا تنس الأسواق الكبيرة الجديدة .." مولات" مثلما هو الحال في دبي،وأنت بستانك ما شاء الله كبير وواسع  تكاد بدايته المقابلة لجهة التنومة تخلو من النخل  والله سأجعل أهل العشار يأتون إلينا..اطمئن  لن نمس النخيل. المدخل الفارغ فقط سنؤجره منك ندفع لك الذي يرضيك!

وهكذا اقنتع أبي وفي اليوم التالي جاء مسؤولون من البلدية  عاينوا المكان وخططوه ثم حضر مختصون وبنوا أقفاصا.. كل ذلك في مدة قصيرة تجاوزت الشهرين..وكان ابن عمة أبي يجمع من أمكنة ما حيوانات وطيورا متباينة.. جلب فهدا وبعض الذئاب والضباع ويقال وهذا ليس بالسرّ إنه أصبح يمول طعام الحيوانات من مزرعة دواجن يمتلكها  في الزبير ومن مصانع للطعام يشاركه فيها بعض أعضاء البلدية.

بدت أقفاص الحيوانات والطيور تضج بالحركة..سُمِعَ الغناء .. والنباح. والعواء والهديل.. والخوار..فقط هو وحده قفص الأسد بات خاليا من صاحبه.. وكان قريبنا يدعي أن أحد البحارة من أهل البصرة سيجلب جرو نمر وشبل أسد من شرق آسيا وهو الأسد الذي أنا بصد الحديث عنه.

لم يكن شبلا صغيرا يوم جلبه من الهند ابن محلتنا  الكابتن منصور العثمان..كنت سعيدا بما تقع عليه عيناي وأنا أرى مقدمة بستاننا تصبح حديقة حيوان يقصدها كل يوم العشرات من أهل العشار وبعض عرب الخليج.. وراضيا أيضا بوظيفتي الجديدة حيث أقف عند البوابة أقطع التذاكر للزائرين وكم تمنيت لو أن أبي وقع عقدا مع البلدية على مناصفة الارباح بدلا من الايجار...كان هناك طبيب بيطار يأتي بين حين وآخر يفصح الحيوانات ..نمر ضباع وبجع و..وكان الحارس يجلب كل يوم أكياسا معبأة بافخاذ الدجاج ويضع مرة في الاسبوع نصف كيس أمام الأسد..

والحق إن العامل المعني بطعام الحيوانات لم يقصر في حق الأسد..أصبح يخصه بجيد الأفخاذ وعقد صداقة معه فلا أحد يجرؤ على الاقتراب منه سوى الشاب رحيم المرهون.. يقدم له بيديه الطعام ويمسح على رأسه ولا أبالغ حين أدعي أن رحيما أصبح ينحاز للأسد اكثرمما يعنى ببقية الحيوانات.

وانضم صوت الاسد إلى بقية الاصوات. اختلط بالعواء والنباح وصياح الديكة غير أنه بقي ذا رهبة تكاد تميزه بجلاله وهيبته عن بقية الأصوات. وحين كبر الشبل واصبح أسدا تفتق ذهن قريبنا عن فكرة جديدة قال إنها ستدرّ ربحا أكثر فيتضاعف في الوقت نفسه أعداد الزائرين!

هذه المرة اقترح أن ننقل حمارا إلى قفص الأسد هدية الحديقة له ولا ننسى أن نطبع إعلانات في الصحف المحلية عن زيادة سعر بطاقة الدخول إلى الضعف في ذلك اليوم لأن رواد الحديقة يتابعون  بمشهد حيّ قتل الاسد للحمار وافتراسه، ولا بدّ إذن من دعوة مراسلي الإذاعات المرئية والصحف!

فكرة جديدة بدت لنا..لم تقدم عليها قبل حديقتنا أيّة حديقة في العالم.. تابعت بنفسي نشر الإعلان في أكثر الصحف المحلية شهرة ورواجا.. وحجز المرتادون بطاقتهم في وقت مبكر..نفدت جميع التذاكر وطبعنا تذاكر أخرى فنفدت ووعدنا الناس في إعلانات أخرى أننا يمكن ان نعيد المباراة بشكل دوري كل أربعة اشهر..

قبل المباراة سمعت شظايا كلمات من العابرين وأحاديث عن صراع موعود بالضبط كما هي صورة مألوفة ارتسمت بأذهانهم لأسد في شريط تسجيليّ ينط على ظهر حمار وحشيّ فيغرز مخالبه بكتفيه ويلوي عنقه بأسنانه لينقلب به فيطرحه أرضا ويشق بطنه ثم يقضم أحشاءه والدماء تغطي أرنبة أنفه...

بهذه الصورة كان يمكن للحكاية أن تنتهي.وقد اخترنا عطلة نهاية الأسبوع..مثلما توقعنا جاء المراسلون ومندوبو الصحف وحضر وأكبر عدد من الزوار،شباب.. رجال ونساء مع أطفالهن..طلاب جامعة وتلاميذ مدارس وأمام أعين  الحشود  اقتاد رحيم الحمار الضحية إلى قفص الأسد..استدار به حول الحاضرين مستعرضا حتى يطول المشهد فَينشَدُّ الحضور  لما هو آتٍ من عمل غريب يحدث في شط العرب للمرة الأولى ..بل العالم كله..بعد دقائق ران خلالها الصمت فتح باب القفص الضيق ربط عنده الحمار،فقابله الأسد عند الباب الكبير بزئير ذي نغمة عالية.. لمس أنفه عبر القضبان بأنامله فقابلة  بلعقة امتنان من لسانه..كان قد التزم بإرشادات قريبنا عضو البلدية ونفّذّ  بدقة تعليمات البيطار فامتنع أن يقدم للأسد أيّ طعام حتى يباشر اندفاعه نحو فريسته الحية بكل شراسة وعنف.

في هذه الأثناء رجع ليقود الحمار إلى نهاية الممر ،وفتح الباب الواسع .. خرج بلمح البصر من الباب الضيق ثم أحكم القفل،فتهاوى الصمت وانطلقت الانفاس المحبوسة..علت صيحات ..صفير وزعيق..تقابل الحمار والأسد وجها لوجه ثم ارتد الحمار إلى الخلف فتراجع الحمار ووقف الاسد .. تطلع احدهما في الآخر مطّ الأسد جسده بمحاذاة الأرض لينط فغير الحمار مكانه. كتم الحاضرون أنفاسهم وعادوا للزعيق..تقدم الأسد فصفقوا وظل الحمار يدور عند قضبان القفص.. أقعى الأسد ونهض..فتوقف الحمار لحظة وواصل سيره..كأنه لا يبالي بما يدور حوله..قالت امراة في الاربعين راحت تقف على كعبيها،وقدحملت على كتفيها طفلة في الرابعة من عمرها:

الحمار لا يبالي حتى بموته!

وقالت الطفلة: متىيأكله ياخالتي؟

استشرت التعليقات أما الأسد فراح يقعي ويرفع رأسه والحمار يدور ويدور..وبين الدوران وحركة الأسد تستشري التعليقات والزعيق.

عندئذ توقف كل صوت،وأطبق على المشاهدين صمت رهيب إذ حالما وصل الحمار عند قضبان باب القفص حتى اطلق الأسد زئيرا حادا أرغم الآخرين على ان يقطعوا أنفاسهم هيبة من صوته القوي ثم نط باتجاه الحمار الذي فاجأه باستدارة قطعت عليه المسافة،ووجه بحافره إلى خصمه ركلة قوية وقعت على فمه..

كان هناك دم على أنياب الأسد قطرات تنبيء من رآها في شريط تسجيلي أنه انتهى قبل قليل من فريسته!

لا أحد ينسى المشهد قط.. ليس هناك من الحاضرين مَنْ توقع هذه النهاية..كل منّا رسم صورة في ذهنه: بعد عشر دقائق .. ربع ساعة.. مهما طال الوقت فلن يتعدى العشرين دقيقة..والغريب أن  الأسد راح يرتد إلى الوراء..يدور حول القضبان..وبعض قطرات حمراء تنزل من أنيابه  يتراجع والحمار يتعقبه بركلة أخرى فيظل يدور حول قضبان القفص مثلما فعل الحمار بداية الصراع و لا ينطلق منه إلا صوت أقرب للهمهمة والأنين!

أما الحمار فقد توقف وسكن ثم توغل في صفنة طويلة!!

لم يشهد الزائرون عملية افتراس لكنهم بدوا راضين كلّ الرضا عما رؤوه .. بعضهم أساء الظن فينا تصوروا أننا دربنا الحمار والأسد على تلك اللعبة وكانت غالبيتم تطلب منا أن نعيد الصراع.. وفي اليوم التالي خرجت الصحف المحلية بعنوان مثير "حمار عراقي يهزم أسدا في حديقة حيوان كردلان" ظلت الصحف تعيد الخبر حيث طغى على أعمال العنف  التي نعيشها كل يوم وراحت اعداد الزائرين إلى حديقة حيوان كردلان تكبر وتكبر وأيّ زائر يأتي يسال السؤال ذاته الذي يتكرر كل يوم : هل تُعَادُ مباراة الأسد والحمار مرة أخرى؟

 

..................

"الحادثة وقعت قبل أربع سنوات وبقيت تدور بذهني ففرغت من كتابتها قبل أسبوع"  

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم