صحيفة المثقف

الإيقاع وعناصر الشعرية العربية.. اختلاف الشكل الموسيقي المتحقق

ظهر في النصف الثاني من القرن الماضي عدة مصطلحات تتصل بالبناء الموسيقي، وتداخلها مع فن العربية الأول الشعر، وهذه المصطلحات هي: الإيقاع والعروض والموسيقى والوزن والتوزين … إلخ .

وبقدر أهمية المصطلح الأول - وهو هدفنا - فإننا نوضح علاقته ببقية المصطلحات؛ وذلك لإزالة الالتباس والغموض في علاقة المصطلحات، وإبرازاً للحقائق وتوضيحها.

وهذه المصطلحات ليست خارجة على الشعر تضاف إليه، بل هي نابعة منه، تفرضها أحاسيس الشاعر وأفكاره، وتبرزها عاطفته، فليس هناك تحكم في التزام نظم موسيقية معينة، تفرض على الشاعر، بل هو حر في صياغة شعره، على النحو الموسيقي المؤثر من قبل الشاعر .

فإذا ما تناولنا هذه المصطلحات فسوف تتضح الحقائق جلية، وقد ورد في المعجم: إِيقَاعٌ مُوسِيقِيٌّ: تَنَاغُمُ الأَصْوَاتِ وَتَوَافُقُهَا فِي الغِنَاءِ أَوِ العَزْفِ، أوقعَ / أوقعَ بـ يُوقع، إيقاعًا، فهو مُوقِع، والمفعول مُوقَع، أَوْقَعَ المُغَنِّي: بَنَى أَلحانَ الغِناء على مَوقِعها وميزانها، الإِيقَاعُ: اتِّفاقُ الأَصواتِ وتوقيعُها في الغناء .

وجاء في المعجم الوسيط أن " الإيقاع: اتفاق الأصوات، وتوقيعها في الغناء" وفي المعجم الفلسفي" الإيقاع: مصطلح موسيقي ينصب على مجموعة من أوزان النغم؛ فالإيقاع مركب موسيقي يشتمل على أوزان غير متساوية، وهو جانب الموسيقى في الشعر، والوزن صيغة آلية، والإيقاع إبداع جمالي"

وجاء في القاموس المحيط" الإيقاع من إيقاع ألحان الغناء، وهو أن يوقع الألحان ويبينها"

ومما نقله ابن سيده عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين" أن الإيقاع حركات متساوية الأدوار لها عودات متساوية" إن ما يجمع المعاني اللغوية للفظة الإيقاع هو النظام والتعاقب.

ويرى الدكتور شكري عياد أن الوزن ليس إلا قسماً من الإيقاع ويعرف الوزن أو الإيقاع " بأنه حركة منتظمة متساوية ومتشابهة، ويرى أن الإيقاع يقوم على دعامتين: من الكم والنبر، مهما اختلفت وظيفة كل منهما، ولا يكتفي بذلك التردد الكمي، فمن أجل أن يميز التفاعيل بعضها عن بعض لا بد من تلك الظاهرة الصوتية التي تتردد بين تفعيلة وأخرى، وعلى ذلك فتعريف الوزن عنده يتضمن الإيقاع، والمصطلحان لا يفهم أحدهما دون الآخر.

ونظرية الدكتور مندور تبني على تفريقه بين (الوزن) و (الإيقاع) فالوزن عنده هو: (كم التفاعيل مجتمعة) بغض النظر عن قياس كم كل مقطع، أما الإيقاع فهو: (تردد ظاهرة صوتية على مسافات زمنية محددة النسب).

فالدكتور مندور يعني بالكم الوزن، فلو وضعنا كلمة الكم مكان الوزن لكان ذلك داخلاً في تعريف الدكتور مندور الإيقاع كونه تردد ظاهرة صوتية على مسافات محددة

إن البحث الطبيعي كما يراه الدكتور شكري عياد هو بحث وصفي .. من شأنه أن يبين ما يتألف منه الإيقاع، وليس من شأنه أن يفسر الإيقاع، فهو إذن كالعروض التقليدي سواء بسواء، ويحاول كشف عناصر أخرى للإيقاع، لم يشملها العروض التقليدي بوسائله الأقل دقة، وإن كنت أرى أن البحث من شأنه أن يفسر الإيقاع - كلما أمكن - فالإيقاع حصيلة عناصر متكاملة، وليس حصيلة عنصر واحد، فهذه الحصيلة جماع الوزن ؛ويدعو باحثٌ آخرُ إلى " جعلهما تصوراً واحداً لظاهرة لها مكوناتها هي البيت وما يتكون منه ويؤسسه .

وهو بمعنى أخر ظاهرة تقوم على التكرار المنتظم ويلعب الزمن فيها دوراً مهماً . وهو اسم جنس والوزن نوع منه

ويرى الدكتور عز الدين إسماعيل: أن الإيقاع غير الوزن، وكثيراً ما يتعارض الإيقاع والوزن ؛بحيث يضطر الوزن إلى كثير من التغييرات، "فالإيقاع هو حركة الأصوات الداخلية التي لا تعتمد على تقطيعات البحر أو التفاعيل العروضية، وتوفير هذا العنصر أشق بكثير من توفير الوزن ؛لأن الإيقاع يختلف باختلاف اللغة والألفاظ المستعملة ذاتها، في حين لا يتأثر الوزن بالألفاظ الموضوعة فيه تقول " عين " وتقول مكانها "بئر " وأنت في أمن من عثرة الوزن، أما الإيقاع فهو التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها فهو أيضا يصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع . هذا من الداخل، وهذا من الخارج .

فالعروض لا يفرق بين الفتح أو الضم أو الكسر، على عكس الإيقاع، فالإيقاع يلون كل قصيدة بلون خاص فالأقرب لطبيعة الشعر أن يكون إيقاعياً لا وزنياً .

والإيقاع " إبراهيم أنيس " نغمة صاعدة في مقطع مبتور من المقاطع التي تتوسط الشطر وهذه النغمة بمثابة الركيزة للشطر، تنقله من مجال النثر إلى مجال الشعر .

فالإيقاع هو عزف شخصي، أي أنه من قبيل الإبداع، وبقدر ما يكون للشاعر إيقاعه الخاص وصوته الفردي يكون إبداعه وأصالته .

وقد ينقسم الإيقاع إلى جزئين: الأول:- " التناغم الشكلي " الذي يتضمن في رأيه إيقاع المفردات بالنظر إلى بنيتها المقطعية، وتبيان التناغم الذي تحدثة الظواهر الصوتية في بعض مفرداته، وإيقاع الجمل التي تقوم بنيتها على أساس التصدع، وتقوم حركتها بتقديم تشكلات مقطعية، وفاعلية نبر وفاعليات صوتية ودلالية . الثاني:- "التناغم الدلالي " الذي يضم إيقاع التواصل، أي انسجام حركة الدلالات فيما بينها ؛مما يدفع إيقاعاً يحمل خصائص متشابهة ؛مما يفيد ولادة حركات جديدة، قد تحمل خصائص مغايرة " .

فالإيقاع هو السبيل الذي يستند إليه الشاعر في حركة المعنى وإذا كانت الموسيقى "معرفة جماعية "، أي أنها من قبيل المعارف المشتركة، وكذلك العروض وزحافاته وعلله وأحوال قوافيه، والموسيقى ليست الوزن السليم، وإنما الموسيقى الحقة هي موسيقى العواطف والخواطر، تلك التي تتواءم مع موضوع الشعر، تتكيف معه

يرى غنيمي هلال الإيقاع "وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت؛ أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فقر الكلام، أما الإيقاع في الشعر فتمثله التفعيلة في البحر العربي .. فحركة كل تفعيلة تمثل وحدة الإيقاع في البيت، أما الوزن فهو مجموع التفعيلات التي يتألف منها البيت، قد كان البيت هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية .

كما يرى الإيقاع على أنه وحدة النغمة التي تتكرر على نحو ما في الكلام أو في البيت؛ أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظم في فقرتين أو أكثر من فقر الكلام، أما الإيقاع في الشعر فتمثله التفعيلة في البحر العربي .. فحركة كل تفعيلة تمثل وحدة الإيقاع في البيت، أما الوزن فهو مجموع التفعيلات التي يتألف منها البيت، قد كان البيت هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية .

وطبقًا لهذه الرؤية فإنَّ الإيقاع وحده نغمية صغرى على هذا الأساس، والوزن هو وحدة نغمية كبرى هي البيت وإذا كان الإيقاع تمثله التفعيلة والوزن جماع للتفعيلات، فالوزن أعم من الإيقاع " أليس من الأولى العكس ؟ فهو يرى الشعر ضرب من الموسيقى إلا أنه تزدوج نغماته بالدلالة اللغوية وهناك مصطلح آخر هو التوزين وهو مرادف الوزن فالشعر العربي لا يقف عند حد التوزين، بل ينطلق إلى ما يسمى بالإيقاع ويقصد به " تعادل أجزاء الكلام والأصوات وتساوي مقاديرها الزمنية فيما إذا قوبل بالبعض الآخر جملة " .

أما مصطلح النموذج العروضي فهو التتابع الرياضي المنتظم للتفعيلات، فيما يسمى "البحر الشعري " .

أما الشكل الموسيقي المتحقق فهو يختلف حسب الممارسة الإبداعية لكل شاعر

" والفرق بين الشكل الموسيقي المتحقق والنموذج العروضي الثابت هو طريقة الإبداع الشعري، أي ليس هناك تطابق بين الشكل الموسيقي والنموذج العروضي

إن وجود هذه الظاهرة تفرض علينا قراءة غير عروضية، فالشكل العروضي يخفي تحت أشطره وأبياته شكلاً آخر تفرزه طبيعة التركيب اللغوي وأغلب الباحثين يتفقون على أن الخليل لم يدع حصر جميع إيقاعات الشعر العربي، فلم تكن الأوزان التي استنبطها الخليل بن أحمد وما وضعه لها من قواعد هي القول الفصل في أمر موسيقى الشعر لا في عهد الخليل وعهد تلاميذه، ولا فيما سبقه من عهود أو ما لحقه منها – وقد قال الزمخشري في ذلك: " والنظم على وزن مخترع خارج على أوزان الخليل لا يقدح في كونه شعراً ولا يخرجه عن كونه شعراً " .

إن العروض العربي، ليس إلا نظرية في إيقاع الشعر العربي، وإن كانت هي النظرية التي قدر لها السيادة لأسباب يطرحها سيد البحراوي بعضها يتعلق بتكاملها المنهجي – على الأقل شكلياً – وبعضها يتعلق بالظروف التي عاش فيها هذا العروض والشعر العربي نفسه، "أي في ظل مجتمع لم ينجح في أن يخرج خروجاً جذرياً عن إطار الظروف الاجتماعية والفكرية التي أنتجت العروض " .

فليست القصيدة العربية القديمة مفككه كما قد تبدو، بل شغل العربي بموسيقاها واصبح ينفعل لكل بيت، ويستجيب لوزنه وإيقاعه، فالشاعر لشدة اعتزازه بموسيقاها قد أحل نفسه من وحدة المعنى فيها، مكتفياً بوحدة الوزن والقافية (وهذا يدل على اهتمامه الموسيقي) .

وإن تحديد الشعر بالوزن والقافية بدأ يتغير ويهتز، وأخذ يضطرب خصوصاً في الدفاع النقدي الذي قام به الصولي انتصاراً لشعرية أبي تمام وفي أراء الجرجاني وقد نشأ ميل إلى التشكيك في أن يكون مجرد الوزن والقافية مقياساً للتمييز بين الشعر والنثر .

غير أن هذا لا يعني رفض الوزن والقافية أو التخلي عنهما، إنما يعني أنهما لا يمثلان وحدهما حصراً للشعرية، وأن هناك عناصر شعرية غيرهما، و أصبحت المسالة شعراً أو لا شعراً .

وقد تنبه الفلاسفة المسلمون إلى دور الوزن الشعري، فهو عندهم ليس الذي يميز جوهرياً بين الشعر والنثر فهناك أقوال موزونة ولا تعد شعراً " فليس للوزن نفس القيمة التي تتمتع بها المحاكاة (التخييل) "

وفاعلية التخييل لا تنفصل عن البنية الإيقاعية فلا قاعدية للوزن ويرى الجرجاني أن شعرية النثر لا تجئ من الوزن والقافية بالضرورة، " وإنما تجئ مما سماه طريقة النظم، ويعني النسق الذي تأخذه الكلمات .

وهذا ما نسميه طريقة الأداء أو التغيير أو بنية الكلام . "

وهناك ملاحظة أن القدامي، في وضعهم لهذا النظام الصوتي، قد خلطوا بين الوزن والموسيقى من ناحية، وأكدوا ثبات النظام الموسيقي في صورته التي استخلصها الخليل ابن أحمد من ناحية أخرى ؛وبالتالي ابتعدت كلمات (الموسيقى – الإيقاع).

كما أن هناك ملاحظة وهي أن المحدثين قد اتخذوا من عيوب " علم العروض" وقصور مقاييسه عن الكشف عن أسرار الشعر الموسيقية، عيوباً للنظام الموسيقي للشعر القديم نفسه، في أقوال كثيرة ومتنوعة.

ووفق هذا المنظور تصبح مسألة الوزن والقافية مسألة تاريخية، ومسألة ترتبط بجانب محدود من الإبداع الشعري، لا بشموليته، أو به كرؤيا كلية . إذن من البداهة والصحة القول إن بإمكان اللسان العربي أن يتجسد شعراً في بنية كلامية غير بنية الوزن والقافية، أو إلى جانبها ؛وهذا مما يوسع في الممارسة، حدود الشعر في اللسان العربي، وحدود الحساسية الشعرية، وحدود الشعرية، فالشعر ليس حكرًا على الوزن والقافية.

والواقع أن الوزن في الشعر لا يمس الناحية الشكلية فحسب، ولكنه يمس كذلك جوهره ويرتبط بمضمونه، كما يرتبط بشكله .

ويرى "محمد النويهي " إن القصائد الجيدة يجب أن يحكم عليها بمقاييس شكلية جديدة تستمد من القصائد نفسها، وتراعي ما يستهدفه منشئها .

وقد ورد مفهوم الإيقاع عند بعض النقاد القدامى مرادفاً للوزن، فنجد السجلماسي يتحدث بإيجاز أكثر عن الإيقاع من خلال تعريفه للشعر الذي يقول فيه: " الشعر هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة، فمعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي"

 

د. عادل بدر - شاعر وناقد مصري مقيم في قطر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم