صحيفة المثقف

حُسامٌ وسرْبُ الحَمامِ

moamar baktawi2خرجَ حسامُ من بَيْتهِ في القريةِ مُتوجِّهاً إلى المدرسةِ التّي لا تَبعُدُ كثيراً عَنِ الغَابةِ... وفي الطّريقِ صَادفَ سِرْباً من الحمامِ يَلْتَقِطُ حَبًّا مِنَ الأَرضِ. اقْتَربَ مِنهُ، لَكنَّ السِّربَ طارَ وحَطَّ غَيرَ بَعيدٍ، مِمّا أغْرى حسامَ بِالقبضِ على إِحْدَاهُنّ على الأَقَلِّ.. فَانْحَنَى الطفلُ يَمشي بِخُطواتٍ وَئِيدَةٍ، وَبِسُرعةٍ نَطَّ على السِّربِ ولَكنَّ الحمامَ طارَ في الوَقتِ المُناسِبِ، تَاركًا بَعْضَ الرّيشِ يَتَسَاقطُ على وَجْهِ حسام مِمَّا جَعَلهُ يَحْمَرُّ خَجَلا..

وَقفَ السّربُ غيرَ بَعيدٍ وَواصلَ نَقْرَ الحَبِّ، وهو يَنظُرُ يُمنةً ويُسرةً في تيهٍ وخُيلاءٍ، ويمشي في خُطواتٍ مُتناسقةٍ بَديعةٍ. فَصمَّمَ حُسامُ الإمساك بِإحداهُنّ مَهْما كَلَّف الأمرُ، فَتابعَ الجَرْيَ وَراءَ الحمامِ الذّي دخلَ الغابةَ واخْتفى بين الأشجارِ، وبدَأَ حسامٌ يبحثُ عنهُ وَسطَ الغابةِ حتّى أَصابَهُ التَّعبُ.. وَجَلَسَ، ثُمَّ غلبَهُ النُّعاسُ، فنامَ تَحْتَ شجرةٍ عظيمةٍ.

وَلَمّا اسْتيقظَ وَجَد نفسَه مُحاطاً بخمسِ فتياتٍ هُنَّ في غايةِ الحُسنِ والجمالِ، وَوَجدَ إحداهُنَّ قَدْ وضعتْ يَديْها تَحْتَ رَأسِهِ، وأُخْرى قَدْ غَطَّتْه بشعرها الطّويلِ، والنّورُ ينبعثُ من المكان الذي يَقِفْن عليهِ، وَبالقربِ مِنْهُ بِركةٌ فيها ماءٌ صافٍ زُلالٌ. وقفَ حسامٌ مُرْتَعباً والتَصقَ بالشجرةِ خائِفاً، وَلكنَّ صُغراهُنَّ خَاطبتْهُ بِصوْتٍ هادئٍ رَقيقٍ عَذْبٍ:

- لا تَخفْ أيّها الطفلُ الشّجاعُ، فَنَحْنُ مِثلُك، مِنْ بَنِي آدمَ، وَهؤلاء أَخَواتِي.

قالَ حسامٌ مُتَلَعْثِماً، وَرِجْلاهُ تَرتجِفانِ منَ الخَوْف وهو لا يُصَدِّقُ ما يَرى:

- من أنتُنّ؟ وما قِصَّتُكُنَّ؟ وَهَلْ أَنْتُنَّ مِنَ الإِنْسِ أَمْ منَ الجِن؟؟

قالتْ أَوْسَطُهُنّ في صوتٍ هَادئٍ:

- هَدئْ منْ روعِك أيُّها الفَتَى، فَنَحنُ منَ الإِنْسِ، وَنحنُ بَناتُ مَلِكٍ، قَتلَهُ أحَدُ السّحرةِ الأشرارِ. فعرضَ عليْنا الزّواجَ الواحدةَ بعدَ الأُخرى فَرَفضْنَ جميعاً، فَسَحَرَنا، وَحوَّلنا إلى حَمَامٍ. فَهربْنا مِنهُ، ولكنّه أَمْسَكَنا، وجاء بِنا إلى هذا الكهفِ في هَذِهِ الغابةِ، فَنحْنُ لا نَسْتطيعُ أنْ نَفْترِق.

قالَ حُسامٌ:

- وما هي حِكايةُ تَحُوُلِكُنَّ؟

قالت أُخرى:

- هذا السَّاحرُ وَضعَ في كُلِّ قَدَمٍ مِنّا خاتَماً مَسحُوراً، نَتَحوَّلُ بِفعلهِ إلى حَمامَة مَعَ بُزوغِ الفجرِ، ونَعُودُ إلى طَبيعَتِنا الآدَمِيّةِ معَ غُروبِ كلّ شَمْسٍ، ومنذُ أعوامٍ ونحنُ عَلَى هذِه الحَالِ، ولَمْ نَجدْ منْ يُخلِّصُنا منْ هذا السِّحْر حتَّى نَعودَ إلى طبيعتِنا الآدَميَّةِ.

قال حُسامٌ:

- ولماذا تَجْلسْنَ عندَ هذه البركَةِ؟

قالت كُبْراهُنَّ:

- هذه البركةُ تَكوَّنَتْ منْ دُموعِنا.. فنحنُ نَجلسُ كُلَّ ليلةٍ نَبْكي أَبَانا المَقتول، وحَالَنا الذي صِرْنا إليْهِ.

قال حُسامٌ:

- وبِمَ أَستطيعُ أن أُساعِدَكُنّ، وأنا طفلٌ ضعيفٌ أيُّها الحَمامُ عفْوا أيَّتُها الفَتياتُ.

قالتْ صُغراهُنَّ وكانَتْ أَجْمَلُهُنَّ:

- هذا السّاحرُ يَغيبُ في السّنةِ شهراً كاملاً، وهُوَ الآنَ مُسافرٌ، وعندهُ خاتمٌ مسحورٌ، وعندما ينامُ يَضعُهُ دائِما تحتَ وِسادَتِه، فمَا عَلَيْك إلاّ سَرِقَتَهُ منْه، وَرَمْيَه في هَذِه البركةِ، وحينَئِذٍ سَيبْطُلُ السّحرُ الذّي فيه ونعودُ إلى طبيعَتِنا العَاديةِ.

وعادَ حسامٌ إلى قريَتِه دونَ أنْ يُخبرَ أَحداً، وفي اللّيْلةِ التّي يَعودُ فيها الساحرُ منْ سَفرِهِ، دخلَ حُسامٌ الغارَ واخْتَبأَ داخلَ صُنْدوقٍ كَبيرٍ، وجاءَ الساحرُ مُتْعَباً، فوضَعَ الخاتمَ تَحْتَ وِسادَتِهِ وَنام.. وبعد مُنتصفِ اللّيلِ، انْسَلَّ حُسامٌ مِنَ الصُّندوقِ، ومَشى على أَصابِعِ قَدمَيْه، ودَسَّ يدَهُ تحتَ وِسَادَة السَّاحِرِ بِبُطْءٍ شديدٍ، ولكِنَّ الساحرَ أَدَارَ جسمَهُ إلى الجهةِ الأُخْرى، فَزادَ نَبْضُ قَلْبِ حُسامٍ حَتّى كادَ أن يَتوقَّفَ، ولكِنَّ السَّاحرَ اسْتمرَّ في نَومِه. فأخرجَ حسامٌ الخَاتَمَ وَهُوَ خَائِفٌ، ومشَى بِهُدوءٍ والفتياتُ يَتْبعْنَهُ حتّى وصَلَ البِرْكَةَ، وألقَى بالخاتَمِ فيها، وفرَّ هارباً إلى قَرْيتِه. ومَعَ إطْلالَةِ الفَجْرِ، تحولت الفتياتُ على وَضْعِهِنَّ الآدَمِيِّ وفَرِحْنَ كَثِيرا. ولَمّا أَفاقَ السَّاحِرُ لَمْ يَجِدِ الخَاتمَ وَلا الفَتَيَات فَتَبِعَهُنَّ إلى القَرْيةِ، فأَمْسَكَ بِهِ أَهْلُها، وقَامُوا بضَرْبِهِ ضَرْبا شَديدًا، وَنَفَوْهُ إِلى بِلادٍ بَعيدَةٍ. وتَخَلَّصَتْ الفتَياتُ مِنْ هَذا السّاحِرِ الشّرِير إلى الأَبَدِ، وشَكرْنَ حُساما الشُّجاعَ، وأَصْبَحَ مُنذُ ذَلِك اليَوْمَ يُعْرفُ فِي القَرْيةِ بحُسامٍ ِصَاحِبِ السِّرْبِ.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم