صحيفة المثقف

شاهد على مأساة وطن (2): لصوص العباءة العشائرية

جعفر المهاجرالديمقراطية وحرية المواطن كلمتان جميلتان تتداولهما الكثير من وسائل الإعلام في العراق. لكن العبرة الحقيقية ليست في التنظير لهما، والتغني بهما في الفضائيات وهو كلام لايغني ولا يسمن من جوع، بل العبرة في ممارستهما وتطبيقهما بالفعل الملموس، وتثقيف الجيل الجديد في المدارس على فهمهما فهما عميقا ليعرف حقوقه وواجباته نحو مجتمعه، ولابد من تفعيل القانون ليوقف المسيئ عند حده لكي يكون المظلة الكبرى التي تحمي كل مواطن في بيته ومحل عمله حين تتعرض حقوقه وحريته الشخصية للإنتهاك.

وحين تصاحب قوة القانون هذا التثقيف، وتسير معه جنبا إلى جنب تسود العدالة التي تجعل المواطن يعيش تحت ظلها آمنا مطمئنا بعيدا عن التهديد والظلم والتعسف والإبتزاز من قبل الخارجين عليها. وحينذاك يشعر شعورا عميقا بأن الدولة تستحق منه التضحية والإخلاص ونكران الذات في مجال عمله، ويحث أفراد أسرته ومعارفه على إحترام القانون والعمل المثمر الخلاق الذي يعود بالنفع لدولته وشعبه.

وقد حيث ظلت العشائر العراقية تمثل الوجه النظيف الطاهر للمشهد العراقي عبر مئات السنين . وكانت دوما تختار الشخص النزيه الذي تتجسد في نفسه روح الإيثار والشهامة، وطهارة القلب والصدق وإغاثة الملهوف، ورفض الظلم ليكون رئيسا لتلك العشيرة حتى تفاخر به العشائر الأخرى. وكان المبدأ السائد بين العشائر هو (الجار قبل الدار) وظل أفرادها يرددون (جارك ثم جارك ثم جارك.) وإذا تعرض الجار لسوء يهبون لنجدته وتقديم العون له . وإذا سكن المحلة جار جديد سألوا عنه لكي يتأكدوا من سيرته وسلوكه فإذا وجدوه عف القلب واللسان ويمتلك خلقا رفيعا إعتبروه واحدا منهم. وقدموا له كل مساعدة حتى وإن لم يطلبها . وإذا وجدوا في سلوكه الإنحراف والنزوع نحو الشر قاطعوه ورفضوه.

لكن المتتبع للشأن العراقي منذ عام 2003 يجد كما هائلا من الظواهر السلبية البعيدة كل البعد عن قيم وأخلاق العراقيين النبيلة التي شوهت الأسس الأخلاقية الفاضلة التي بنى عليها العراقييون سيرتهم وسلوكهم منذ مئات السنين . وفي ظل هذه الحكومات المتعاقبة لبس بعض ذوي النفوس المريضة والأخلاق المنحرفة من أنفسهم العباءة العشائرية ونصبوا من أنفسهم (رؤساء عشائر) وأخذوا يمارسون أفعال الشقاوات والبلطجية في المجتمع العراقي بابتزاز الناس، واختلاق قصص ملفقة ألصقوها بهم تتعلق بالشرف نتيجة لضعف القانون وغياب هيبة الدولة. وحولوأ أنفسهم إلى قطاع طرق لايختلفون في تصرفاتهم عن الإرهابيين ومحترفي الجريمة المنظمة في عبثهم بالأمن العام. وأصبح لدى هؤلاء أشخاص يأتمرون بأوامرهم باعتبارهم أفرادا يدافعون عن (شرف العشيرة المثلوم) فينطلقون كالكلاب السائبة لصيد ضحاياهم، ويلصقوا بهم تلك التهم الجاهزة التي يختلقها (رئيس العشيرة) ويهددونهم بالقتل إذا لم يدفعوا مبلغا من المال وإذا رفض الضحية المسكين هذا الإبتزاز خطوا على داره بالخط العريض (مطلوب عشائريا) أو خطفوا أحد أبنائه إلى أن يلبي رغباتهم بدفع المال المطلوب صاغرا. وطالما نوه عن هذه الظاهرة الخطيرة كتاب وسياسيون ورجال قانون، وحذروا السلطات الأمنية منها .لكن تحذيرهم تحول إلى صراخ في واد عميق. وصار لسان حالهم كلسان الشاعر الذي قال:

لقد أسمعت لو ناديت حيا    ولكن لاحياة لمن تنادي

بعد أن أصم رموز السلطة المشغولين بمكاسبهم وامتيازاتهم التي يتقاتلون من أجلها آذانهم وأغلقوا عيونهم، وهربوا من مسؤوليتهم الأخلاقية بعد أن تركوا الحبل على الغارب وانهمكوا في جمع الأموال وبناء العمارات والعمل في المشاريع التجارية وامتلاك أبراج الأنترنيت. وفي خضم هذه الفوضى اللاخلاقة التي لاتخلو من جهات خارجية وداخلية خبيثة ساعدت على إنتشارها أصبح هؤلاء المتلبسون بالعباءة العشائرية من أصحاب المليارات والنفوذ والسطوة ويمتلكون أسلحة خفيفة ومتوسطة دون أن تمتد أليهم يد القانون الذي يغط في سبات عميق في دولة يتصارع فيها السياسيون بشكل محموم لتقاسم المناصب والمكاسب. ولا تستطيع دولة يقودها أناس مفسدون فاشلون حماية مواطنيها من ابتزاز المبتزين وتحايل المتحايلين وغدر الغشاشين.

لقد تحولت هذه (الطفيليات العشائرية) إلى معول هدم ودمار وعامل تهديد للسلم الأهلي. فكم من عوائل هجرت ودماء سفكت على أيدي هذه المافيات (العشائرية) التي تستخف بقيمة الإنسان على مذبح من شهواتها المحرمة.؟

ولابد أن تقف عشائر العراق الأصيلة بكل حزم ضد هؤلاء الشقاة وتطهر كل عشيرة تحترم تقاليدها وقيمها من شرورهم وفسادهم وتهديدهم.

إنني لم أدون هذا الكلام إعتباطا وأطلق تهما جاهزة ضد أحد ولكن أبني كلامي على مشاهدات حية، وقصص حقيقية سمعتها من أبرياء وقعوا ضحية لأولئك المتخفين خلف العباءة العشائرية، ودفعوا مبالغ طائلة لهم تحت تهديد السلاح فهل يمكن بناء دولة ديمقراطية عصرية حضارية تصان فيها كرامة الأنسان وحقوقه في ظل هذه العصابات السائبة التي تصول وتجول في العراق دون أن تشعر بأي خوف من القانون القابع في أدراج دولة الفساد.

 

جعفر المهاجر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم