صحيفة المثقف

كأس العالم 2018 من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية

معمر حبارأكتب هذه الأسطر وأنا أتابع الآن على المباشر الصور التي تبثّها الفضائيات الفرنسية حول احتفالات فرنسا بفوز كأس العالم 2018 المقامة بروسيا. سأدع الاحتفال لأصحابه وأتطرّق لما يمكن أن يستنبطه المتتبّع راجيا أن يفيد الجميع. بقيت الإشارة أنّ صاحب الأسطر سبق له أنّ علّق على مجريات كأس العالم في حينها من الناحية الفكرية والاجتماعية والسّياسيّة، وهو الآن يعيد جمعها عبر مقال ويضعها بين يدي القرّاء والنقاد الكرام، وهي:

1. قال المعلّق فيما نقله عن رئيس الاتحادية الإفريقية لكرة القدم: أخبرني رؤساء دول إفريقية أنّنا نتعرّض لضغوط من الأمريكي لعدم التصويت للمغرب والتصويت لصالح الولايات المتحدة الأمريكية للفوز بتنظيم كأس العالم 2026. ونقل أيضا عن رئيس اتحادات العربية لكرة القدم: تعرّض حكام العرب لنفس الضغوط بعدم التصويت لصالح المغرب والتصويت للملف الأمريكي. أقول: إذا كانت كلّ هذه الضغوط لأجل الاستحواذ على كرة، فكيف هي الضغوط للاستحواذ على الكرة الأرضية. و كلّ يضغط بما يملك وعلى من يقدر، وكلّما كان المرء في أسفل الهرم تعرّض لكافة الضغوط، فلزم الصعود للقمّة بما تتطلبه القمّة والقوّة.

2. دخلت فرنسا كأس العالم بـ 78 % من المهاجرين، وبلجيكا دخلت النصف النهائي بـ 48% من المهاجرين، وأبناء المغرب العربي وإفريقيا يتابعون أبناءهم المهاجرين الذين يصنعون أفراح الغرب عبر الشاشة.

3. قٍرأت عبر صفحة زميلتنا الإعلامية المغربية Bouchra Chakir، أنّ أحد صانعي أمجاد الفريق البلجيكي المغربي الأصل، اتّصل بالمغرب ليقدّم خدماته، فقالوا له حينها: طولك لا يصلح لأن تكون لاعب لكرة القدم، وعاد كما جاء، واحتضنته بلجيكا، فأهداها وهو الطويل، النصف النهائي في انتظار النهائي. والغاية هي: لا تفرّط في أبنائك ولا تكن سببا في فشلهم وإقصائهم، وتمسّك بالمبدعين منهم، وافتح لهم المجال، وقدّم لهم المساعدة بقدر ما تستطيع، وفي كلّ المجالات.

4. تابعت كأس العالم المقامة في روسيا 2018 رفقة أبنائي، فاستوقفتني الملاحظات التّالية: روسيا دولة عظمى بكلّ ما تعنيه العظمة. والدولة التي تفوّقت في النووي والفضاء والغواصات وS400 البالغة التطور هي نفسها الدولة التي تفوّقت في إنشاء الملاعب والتنظيم المبهر للمباريات الشتوية والكروية. ومن كان ضعيفا في هزله ورياضته كان أضعف في جدّه، ومن تحكّم في مصير الكرة الأرضية سهل عليه التحكّم في لعبة كرة القدم وغيرها من الألعاب. وما يجري في الملاعب من مظاهر القوّة من تنظيم وإنفاق واستقبال وأمن وجمال وإبداع هو الوجه الآخر للقوّة من بوارج وصواريخ وأقمار وغزو فضاء واختراعات وعلوم، وليس للهو والعبث.

5. تابعت مباراة إيسلندا الأرجنتين: دييغو ماردونا يتربّع على كرسيه وقد قاده بطنه وسيجار هافانا. ما رأيت لاعبا أوربيا ولا مدربا أوربيا يسبقه بطنه ولا حاملا سيجارة. التخلّف يبدأ بمظاهر صغيرة والتقدّم يبدأ بمظاهر صغيرة. الكبار وصلوا القمّة بالصغير الفاعل، والصغار ظلّوا في القاع بالصغير الهالك.

6. تابعت بلجيكا - اليابان، وأنا أقول: صعدت أوروبا ببعض أبناء العرب، وبعض أبناء العرب يتفنّون في إسقاط العرب. ومن المصائب التي حلّت بالعرب، أنّهم يفرّطون في المتفوّقين بالمجان، ويستوردون الفاشلين بالغالي الثمين.

7. تابعت فرنسا- الأورغواي، ثمّ البرازيل - بلجيكا، فرأيت: صورة جماعية تضمّ الحكام والفريقين مختلطين فيما بينهما، أي اللّاعب من هذا الفريق بجوار اللّاعب من فريق آخر، وهكذا مع جميع اللّاعبين. يبدأ تقريب القلوب، وصفاء الصدور من المصافحة في البداية والنهاية والصورة الجماعية المختلطة، ويبدأ سواد القلوب من رفض مصافحة المصلي بعد الانتهاء من الصلاة، ورفض الصلاة بجانبه. أساس الحب والصفاء والتعاون أصابع تلتقي وتقترب، وأساس البغض والبعد والكره أصابع تبتعد وتتنافر. وكلّ وسيلة تؤدي إلى الحب فتلك هي الوسيلة ولو كانت الأقدام، وكلّ وسيلة تؤدي إلى الحقد والبغض ليست هي الوسيلة ولو كانت الأقلام. و الغاية هي: كيف أنّ الحب يشمل أماكن المرح ولا أقول "اللّهو" حين أحسنوا استغلال الوسائل في خدمة الغايات النبيلة، وفي نفس الوقت كيف تحوّلت الوسائل عبر الأماكن المقدّسة إلى بغض وحقد وكره. والغاية أن تعمّ المصافحة وتنتشر، ثمّ إنّ البعض يحارب المصافحة في المساجد وبعد الصلاة، فكان من ثمارها الحقد والبغض والكره في أحب الأماكن وأقدسها. ومهمتنا أن نسعى لنقارب بين الأصابع لتتقارب القلوب، وتظلّ مصيبتنا في من يمنع المصافحة بين الإخوة في المساجد، وليس في من يتّخذها "بروتوكول".

8. تابعت مقابلة انجلترا مع بنما، وما زلت أتابع مباريات كأس العالم المقامة في روسيا: لم تعرف البطولة التأخّر لمدّة دقيقة واحدة، حتّى أنّ المرء يبرمج أوقاته ومواعيده حسب توقيت انطلاق المباريات نظرا للدّقة المتناهية في ضبط المواعيد والاحترام الشديد للوقت. الحضارة تحترم وترفع من يحترم الوقت، سواء كان من عالم الأقدام أو عالم الأقلام.

9. حضور الكرة الأرضية إلى روسيا ومتابعة المباريات في جوّ كلّة محبّة وإخاء وأمن وسلام، ودون تحطيم ولا اعتداء ولا حرق، وهم الذين جاؤوا من لغات مختلفة، وأجناس متباينة، وعادات متضاربة، إنّها حضارة التعايش والسّلم التي جمعتهم هذه المرّة لكن على لعبة أرجل.

10. العرب: يفتخرون بأكبر رئيس يحرسهم، وبأكبر لاعب يحرس مرماهم بـ 45 سنة.

11. تابعت مقابلة البرازيل صربيا مع أبنائي. أعدّد لهم الدول التي كانت تتبع أوروبا الشرقية. يسألني أصغر الأبناء: هل كانت هناك أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية؟ يجيب الأب: كانت، وهي اليوم أوروبا الموحدة. لم أخبر البريء عمدا أنّنا ما زلنا الأوس والخزرج.

12. تابعت حصّة حول الإعداد لكأس العالم في روسيا عبر الفضائية الروسية الناطقة باللّغة العربية ، وممّا تمّ تلقينه للمعنيين بتنظيم البطولة: إتقان البسمة والحفاظ عليها طيلة بطولة كأس العالم، والتعبير عن حسن الاستقبال بالبسمة وبتلقائية ودون تكلّف.

13. في يوم واحد سقط رونالد و وميسي. ليس عيبا أن يسقط من تراه كبيرا، العيب كلّ العيب أن يظلّ المرء يبرّر سقوط من يراه كبيرا، ويدافع عنه في كلّ سقوط.

14. تابعت مباريات كأس العالم: كلا من المنتصر والمنهزم يخرج بالتصفيق والتهنئة، وفي جوّ كلّه محبّة وأخوة، رغم المنافسة الشّديدة. وفي نفس الوقت أتابع بعض الصفحات، وأقرأ لبعض الأقلام، وأسمع لخطب ودروس: حقد وبغض وشتم وسبّ، حول خلاف يمتد لأربعة عشر قرنا، ورئيس هذا يراه المقدّس وذاك يراه الملعون، وفقيه هذا يراه أعلم أهل الأرض والآخر يراه أجهل خلق الله كلهم، والقائمة طويلة وسلاسل السباب والشتائم لا يراد لها أن تنقطع لأسباب واهية. أهل الأقدام أدوا ما عليهم من تسامح وتصافح و العقبى لأهل الأقلام من أهل الفكر والدين والثقافة أن يزيلوا عنهم غشاوة البغض والحقد فيما بينهم.

15. قلت لأبنائي ونحن نتابع بريطانيا – كولومبيا: بريطانيا دولة عظمى لأنّها محافظة، ويكفي أنّها ما زالت إلى اليوم تنام وتستيقظ وتضبط مواعيد عملها الصارمة على دقّات ساعة بيڤ - بن، التي أنشأت سنة 1859. ولا يوجد في بريطانيا أطول برج، ولا أطول ناطحة سحاب، وما زال البريطاني يقود سيارته باليسرى رغم أنّ العالم كلّه يقود باليمنى، وما زالت تتمتّع بملكة لا تحكم وليست ولن تكون ظلّ الله في الأرض. بريطانيا لها رأس يسجّل الأهداف الحاسمة الجميلة، ورأس يحمي الصهاينة ويرعاهم، ورأس يضحك على العرب.

 

معمر حبار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم